آليات تسوية منازعات الصفقة العمومية في قانون الإجراءات المدنية والإدارية 08-09

التسوية القضائية لمنازعات الصفقة العمومية:

إن اللجوء إلى القضاء حق دستوري فالسلطة القضائية تحمي المجتمع والحريات وتضمن للجميع ولكل واحد المحافظة على حقوقهم الأساسية، وتعمل على حماية الأشخاص من اي تعسف من باقي الأشخاص أو من الإدارة نفسها، وتتمثل الآلية العملية التي بواسطتها تراقب السلطة القضائية الإدارة في الدعوى الإدارية والتي يمكن تعريفها بأنها:"الوسيلة أو المكنة التي يخولها القانون للشخص في اللجوء للقضاء الإداري للمطالبة بحقوق مستها تصرفات وأعمال الإدارة وأضرت بها.".[53]

وقد حددت المادة 800 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08-09 جهة الولاية العامة في المنازعات الإدارية بنصها على أن:" المحاكم الإدارية هي جهة الولاية العامة في المنازعات الإدارية. تختص بالفصل في أول درجة،  بحكم قابل للاستئناف في جميع القضايا، التي تكون الدولة أو الولاية أو البلدية أو إحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية طرفت فيها."[54]

إنطلاقا من نص المادة وعملا بالمعيار العضوي فإن منازعات الصفقات العمومية تدخل في ولاية القضاء الإداري والاختصاص النوعي للمحكمة الإدارية إذا كانت الدولة أو البلدية أو إحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية طرفا فيها، ويترتب على ذلك بمفهوم المخالفة خروج منازعات الصفقات العمومية للمؤسسة العمومية الخاضعة للقانون الخاص المنصوص عليها في المادة 06 من المرسوم الرئاسي 15-247 عن ولاية القضاء الإداري.

وبما أن الطبيعة القانونية للصفقة العمومية عقد إداري فهي تدخل ضمن ولاية القضاء الكامل وليس قضاء الإلغاء، حيث أنه متى توفرت في المنازعة حقيقة العقد الإداري سواء كانت خاصة بإنعقاد العقد أو صحته أو تنفيذه أو إنقضائه، فإنها كلها تدخل في ولاية القضاء الكامل دون ولاية الإلغاء،واستثناء على ذلك فإن القرارات الإدارية المنفصلة في مجال العقود الإدارية يمكن الطعن فيها بالإلغاء، متى كان السبب الذي تستند إليه مستقلا عن العقد أو الصفقة محل الإبرام.[55]

وتختص وفقا لأحكام المادة 801 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية المحكمة الإدارية نوعيا في دعاوى القضاء الكامل، في حين يرجع الاختصاص الإقليمي في مادة العقود الإدارية إلى المحكمة الإدارية التي يقع في دائرة اختصاصها مكان إبرام الصفقة العمومية أو تنفيذها وفقا لأحكام المادة 804 من نفس القانون؛ ومن المسائل الجديرة بالذكر المادة 946 من نفس القانون التي جاءت تحت عنوان الاستعجال في مادة إبرام العقود والصفقات ونصت على جواز إخطار المحكمة الإدارية إستعجاليا بعريضة في حالة الإخلال بالإشهار والمنافسة في الصفقة العمومية.

وتخضع هذه الدعوى للشروط العامة للدعوى الإدارية والمتعلقة بالصفة والمصلحة والآجال والمواعيد (أربعة أشهر) والشروط الخاصة بعريضة الدعوى والاختصاص النوعي والإقليمي أعلاه، بالإضافة لشرط القيد الذي وضعه المشرع في المادة 153 من المرسوم 15-247 وهو اللجوء إلى التسوية الودية قبل القضاء ، حيث نصت على :" ...يجب على المصلحة المتعاقدة أن تدرج في دفتر الشروط، اللجوء لإجراء التسوية الودية للنزاعات هذا، قبل كل مقاضاة أمام العدالة....."[56]

الطرق البديلة للتسوية القضائية لمنازعات الصفقة العمومية:

1 - الصلح:

عرفت المادة 459 من القانون المدني عقد الصلح بأنه: "عقد ينهي به الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان به نزاعا محتملا، وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التبادل عن حقه باستثناء ما تعلق بالحالة الشخصية أو النظام العام"، والصلح صنفان غير قضائي يقع خارج مرفق القضاء وصلح قضائي يكون بمناسبة دعوى قضائية وهو الذي يهمنا[57] في موضوعنا هذا.

وقد نصت المواد من 970 إلى 974 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08-09 على التوالي على أنه:

  • " يجوز للجهات الإدارية القضائية إجراء الصلح في مادة القضاء الكامل".

  • " يجوز إجراء الصلح في أية مرحلة تكون عليها الخصومة."

  • "يتم إجراء الصلح بسعي من الخصوم أو بمبادرة من رئيس تشكيلة الحكم بعد موافقة الخصوم."

إذا حصل صلح، يحرر رئيس تشكيلة الحكم محضرا، يبين فيه ما تم الاتفاق عليه ويأمر بتسوية النزاع وغلق الملف، ويكون هذا الأمر غير قابل لأي طعن."

  • "لا يجوز للجهات القضائية الإدارية أن تباشر الصلح إلا في المنازعات التي تدخل في اختصاصها."[58]

2- التحكيم:

يعتبر التحكيم الطريق البديل الثالث لحل النزاعات، أدرج ضمن الكتاب الخامس مع الصلح والوساطة،[59]59] والتحكيم في اللغة : من المصدر "حكم من باب التفعيل بتشديد الكاف مع الفتح وحكمه في الأمر فوض إليه الحكم فيه. وحكموه بينهم أي أمروه أن يحكم بينهم".[60]

أما المفهوم الاصطلاحي للتحكيم فهو: " اتفاق أطراف علاقة قانونية معينة عقدية أو غير عقدية على أن يتم الفصل في منازعة ثارت بينهم بالفعل أو يحتمل أن تثور بينهم من طرف أشخاص يتم اختيارهم كمحكمين ويتولى الأطراف تحديد المحكمين أو يعهدون لهيئة أو مركز من مراكز التحكيم الدائمة لتتولى تنظيم عملية التحكيم وفق قواعدها الخاصة"،[61]ويمكن تعريف التحكيم في العقود الإدارية بما فيها الصفقات العمومية بأنه:"الطريقة التي يختارها الأطراف لفض النزاعات التي تنشأ عن العقد والتي يتم البحث فيها أمام شخص أو أكثر يطلق عليها المحكم أو المحكمين."[62]

وقد طرحت مسألة جوز اللجوء إلى التحكيم في مادة الصفقات العمومية إشكالية وأثارت جدل فقهي في الفقه والقضاء الإداري المقارن، وصدرت بخصوصه أحكام قضائية وفتاوى متباينة الآراء، حيث أصدر على سبيل المثال القضاء الإداري المصري مجموعة من الأحكام القضائية التي لا تقر بصحة الاتفاق على التحكيم في منازعات الصفقات العمومية، وهو نفس موقف القضاء الإداري الفرنسي الذي أخذ موقف صارم بخصوص حظر التحكيم في العقود الادارية.[63]

وسبب هذا الجدل المحتدم يرجع إلى الطبيعة القانونية للعقود الإدارية التي تقوم على تباين المراكز العقدية بين المتعامل المتعاقد والمصلحة المتعاقدة، هذه الأخيرة التي تظهر في مركز ممتاز يخولها إستعمال امتيازات السلطة العامة والشروط الاستثنائية غير المألوفة في عقود القانون الخاص، بإعتبارها تهدف دائما لتحقيق المصلحة العامة بخلاف الخواص الذين يهدفون لتحقيق وحماية المصلحة الخاصة، وعليه لا يجوز لها أن تتنازل على مركزها القانوني هذا وتنزل إلى منزلة الخواص وتتساوى معهم في خضوعها لأحكام التحكيم.

بغض النظر على هذا الجدل الفقهي أجاز المشرع الجزائري اللجوء إلى التحكيم في مادة منازعات الصفقات العمومية، من خلال المادة 153 من المرسوم الرئاسي سابق الذكر التي نصت في فقرتها  الأخيرة على :" ويخضع لجوء المصلحة المتعاقدة ، في إطار تسوية النازعات التي تطرأ عند تنفيذ الصفقات العمومية المبرمة مع متعاملين متعاقدين أجانب، إلى هيئة تحكيم دولية بناء على اقتراح من الوزير المعني، للموافقة المسبقة أثناء اجتماع الحكومة."؛[64] وكذلك قانون الإجراءات المدنية والإدارية رقم 08-09 بموجب المادة 975 منه.