الاطار المفاهيمي والنظري
مفهوم السياسة الخارجية:
يتناول هذا المحور مفهوم السياسة الخارجية، بدءا من تحديد تعريف للسياسة الخارجية والتفريق بينها وبين بعض المفاهيم المتعلقة بها، انتهاء بالتطرق لعملية صنع السياسة الخارجية.
تعريف السياسة الخارجية
اختلف الكثير من المفكرين في تحديد مفهوم السياسة الخارجية بشكل دقيق، وذلك لاختلاف منطلقات كل منهم في تعريفه لها، ويمكن عرض بعض تعريفاتها في ثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول: يعرف السياسة الخارجية على أنها مجموعة برامج:
من أهم رواد هذا الاتجاه، الدكتور” محمد السيد سليم” إذ عرف السياسة الخارجية بأنها” برنامج العمل العلني الذي يختاره الممثلون الرسميون للوحدة الدولية من بين مجموعة من البدائل البرنامجية المتاحة من اجل تحقيق أهداف محددة في المحيط الخارجي “.
يعقب الدكتور احمد النعيمي على هذا التعريف على انه تعريف دقيق، ينطوي على الأبعاد التالية: الواحدية والرسمية والعلنية والاختيارية والهدفية والخارجية والبرنامجية.
هذه الخصائص بالفعل تميز السياسة الخارجية، إلا أن هذا التعريف حدد السياسة الخارجية على أنها مجرد برنامج مسطر ومحدد الأهداف وعزلها عن تأثير البيئتين الداخلية والخارجية، وهو ما قد يشيب الفهم الصحيح للسياسة الخارجية لأنها ليست فقط مجرد برنامج أو تحديد لأهداف معينة وإنما هي كذلك مزيج من سلوكيات عديدة لصانع القرار في الدولة وتفاعلها مع البيئتين الداخلية والخارجية.
كما يؤخذ على تعريف الدكتور “محمد السيد سليم” عدم تحديده لطبيعة الوحدة الدولية التي قصدها في تعريفه، فالوحدات الدولية في النظام الدولي متعددة فقد تكون دول أو منظمات دولية …الخ.
الاتجاه الثاني: يعرف السياسة الخارجية على أنها سلوك صانع القرار:
من أهم رواد هذا الاتجاه “تشارلز هيرمان” الذي عرف السياسة الخارجية بقوله “تتألف السياسة الخارجية من تلك السلوكيات الرسمية المتميزة التي يتبعها صانعوا القرار الرسميون في الحكومة أو من يمثلونهم والتي يقصد بها التأثير في سلوك الدولة الخارجية.
كما يعرف “مازن الرمضاني “السياسة الخارجية بأنها “السلوك السياسي الخارجي الهادف والمؤثر لصانع القرار.
ويؤيدهما في هذا الطرح المفكر “ريتشارد سنايدر” باهتمامه في دراسته للسياسة الخارجية بالبعد الإدراكي لصانع القرار، فيرى” أن الدولة تحدد بأشخاص صانعي قراراتها الرسمين، ومن ثم فان سلوك الدولة هو سلوك الذين يعملون باسمها. وان السياسة الخارجية عبارة عن محصلة القرارات من خلال أشخاص يتبوؤون المناصب الرسمية في الدولة
لقد انطلقت هذه التعريفات من الدمج بين السياسة الخارجية وسلوكيات صانع القرار فحصروا السياسة الخارجية في إدراك صانع القرار وسلوكه وفي هذه الحال لم يتم التمييز بين السياسة الخارجية وعملية صنع القرار. فالسياسة الخارجية اشمل من عملية صنع القرار واشمل كذلك من أن تكون مجرد سلوك لصانع القرار، إلا أن سلوك صانع القرار يمكن أن يساهم في توجيه السياسة الخارجية. لكن السياسة الخارجية هي نشاط موجه للبيئة الخارجية هي في هذه الحال تتميز عن سلوك صانع القرار.
إذا يمكن القول إن سلوك صانع القرار هو بداية العمل في السياسة الخارجية وأن النشاط وتحقيق الأهداف هما جوهر السياسة الخارجية.
الاتجاه الثالث: يعرف السياسة الخارجية على أنها نشاط:
انطلاقا من حصر الاتجاه السابق السياسة الخارجية في سلوك صانعي القرار، رأى اتجاه ثالث أن السياسة الخارجية لا يمكن أن تنطبق فقط على سلوكيات صانعي القرار في الدولة وإنما تنصرف إلى النشاط الخارجي والحركة الخارجية للدول.
وفي هذا الإطار قدم “حامد ربيع” تعريفا للسياسة الخارجية على أنها “جميع صور النشاط الخارجي حتى ولو لم تصدر عن الدولة كحقيقة نظامية، أي نشاط الجماعة كوجود حضري، أو التعبيرات الذاتية كصورة فردية للحركة الخارجية تنطوي وتندرج تحت الباب الواسع الذي نطلق عليه السياسة الخارجي.
كما عرف” موديلسكي” السياسة الخارجية في نفس اتجاه حامد ربيع حيث قال: السياسة الخارجية هي: "نظام الأنشطة الذي تطوره المجتمعات لتغير سلوكيات الدول الأخرى ولإقامة طبقا للبيئة الدولية وفي هذا الإطار هناك نمطين من الأنشطة: المدخلات والمخرجات.
ويعرفها كذلك “مارسيل ميرل” بأنها “ذالك الجزء من النشاط الحكومي الموجه نحو الخارج، أي الذي يعالج بنقيض السياسة الداخلية، مشاكل تطرح ما وراء الحدود.
إن هذه التعريفات طابقت السياسة الخارجية بالأنشطة الخارجية لدولة ما، حيث تهدف هذه الأنشطة إلى تغيير سلوكيات الدول الأخرى أو أقلمت أنشطتها، إلا أن الأنشطة الخارجية للدول لا تهدف في مجملها إلى تغيير سلوكيات الدول الأخرى، فقد تهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم .كما أن السياسة الخارجية لدول ليست موجهة فقط للدول فقط و إنما هي موجهة لجميع فواعل النسق الدولي.
بالإضافة إلى ذالك فالسياسة الخارجية ليست دوما عبارة عن نشاط، فالدول التي تنتهج سياسة الحياد أو الجمود والانغلاق على البيئة الخارجية لا تقوم بنشاط تجاه تلك البيئة، وهذا ما يؤكد أن السياسة الخارجية ليست دائما تعبر عن نشاط تقوم به الدولة.
تعريف إجرائي:
من خلال التدقيق في التعريفات المختلفة للسياسة الخارجية، يمكن تقديم تعريفا شاملا لها، على أنها: مجموع نشاطات الدولة الناتجة عن اتصالاتها الرسمية مع مختلف فواعل النظام الدولي، وفقا لبرنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، والتي تهدف إلى تغيير سلوكيات الدول الأخرى أو المحافظة على الوضع الراهن في العلاقات الدولية، كما أنها تتأثر بالبيئتين الداخلية والخارجية.
مفهوم الدول الكبرى
- مفهوم الدول الكبرى:
تعريف الدول الكبرى: فإن أفضل تعريف لها هو أنها الدولة التي تملك المقومات الاقتصادية والبشرية والعسكرية والتأثيرات السياسية والثقافية في العالم، ما يمكنها أن تكون محور تأثير في عدد آخر من الدول في العالم، وتكون لها مكانة إقليمية ودولية في تحديد واقرار السياسات الدولية. وبهذا يمكن تحديد مقومات الدولة الكبرى من خلال دراسة أوضاعها الاقتصادية والبشرية والعسكرية والثقافية والسياسية، وإذا ما كان لهذه المقومات مكانة دولية فعلا، أم أنها لا تتعدى نطاقها الوطني؟، وإذا ما كان لهذه المقومات من الضخامة والقوة ما يعطيها مكانة دولية متفوقة على غيرها، وأن هذه المقومات لها تأثيرات دولية وليس محلية وطنية فقط، فما يجعل هذه المقومات مميزة لدى الدول هو حجمها وانعكاس هذا الحجم على السياسة الدولية.
وحسب الواقعية الجديدة هناك مجموعة من المؤشرات التي يتم أخدها بعين الاعتبار لقياس قدرات الدولة. فقياس القوة الاقتصادية للدولة، يتم من خلال الناتج الإجمالي المحلي وحجم الصادرات، بينما ينظر لكل من حجم الإنفاق العسكري، حجم القوات المسلحة، وامتلاك الأسلحة النووية كمؤشرات لقياس القوة العسكرية. أما عدد السكان، فإنه يُقاس بالنسبة للواقعيين الجدد بعدد السكان العاملين والذين يمكن تَعْبِئتهم كجنود في حالات الضرورة، ومساحة الدولة تُحدد كذلك مدى إمكانية هزيمتها) الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية) كل هذه العوامل تعد بالنسبة للواقعيين قوة كامنة تصب في خانة بناء قوة عسكرية. ويؤكد الواقعيون الجدد أن قياس الموقع النسبي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قدرات الدولة بالمقارنة مع باقي الدول خاصة الدول المنافسة لها والتي تشكل بالنسبة لها مجموعة مرجعية لتحديد قوتها، حيث أنه من خلال قياس هذه الإمكانيات مجتمعة يتم تصنيف الدول ضمن خانة القوة الكبرى أو قوة متوسطة أو قوة عظمى. موقع الدولة النسبي في النظام الدولي هو الذي يفسر سلوكها ولهذا نجد أن سلوك القوى الكبرى مثلا ينحو نفس المنحى وهو ما يفسر تشابه السياسات الخارجية للدول التي لديها نفس الموقع النسبي في النظام الدولي، على الرغم من الاختلاف على الصعيد الداخلي. وعليه، فإن تغير سلوك الدولة مرهون بتحسن موقعها النسبي بحيث أنه كلما تحسن موقعها كلما أدى ذلك إلى تغير سلوكها الخارجي وهذا يرجع إلى تزايد طموحاتها، وهذا ما دفع بالواقعيين الجدد إلى الجزم بأن السياسة الخارجية الألمانية بعد نهاية الحرب الباردة ستتغير إلى سياسة أقل تعاونا مع حلفائها التقليديين في أوروبا فهذه الدولة تحسن موقعها النسبي حيث زادت مساحتها بعد الوحدة وزاد عدد سكانها كما تحسن اقتصادها بشكل كبير بعد الوحدة.
بغض النظرِ عما إن كنا نتحدثُ عن القوةِ العسكرية أو القوة الاقتصادية، فإنه من الواضح أن القوى الكبرى تتصرَّفُ تصرُّفًا مختلفًا عن القوى الصغرى؛ فقد انتهت العديدُ من الدراسات إلى أن الدول التي تتمتع بقدر أكبرَ من مكونات القوة، تُعَد أكثرَ نشاطًا في مجال السياسة الخارجية من الدول التي تمتلكُ قدرًا أقلَّ من تلك المكونات، ولا شك أن هذا النشاطَ هو مح صِلة لتوافُر الموارد، واتساع نطاق المصالح على مستوى العالم بأَسْره.
يُعَد مفهومُ القوة من المفاهيم المركزية والمراوغة في الوقت نفسه؛ فهو:
من ناحية أولى: مفهومٌ مركزي؛ لأنه يلعب دورًا حيويًّا في سلوك السياسة الخارجية.
ومن ناحية أخرى: مفهومٌ مراوغ؛ ذلك أنه من الصعبِ التمييزُ بين القدرة على التصرُّف وبين الممارسة الفعلية للقوة؛ لأنهما غيرُ متلازمينِ، فامتلاك القوةِ لا يؤدي إلى ممارسةِ النفوذ؛ لأن العواملَ الإدراكية قد تؤدِي إلى سوءِ فَهْم صانع القرار لمقدرات ونوايا الآخرين، زِدْ على ذلك أن الميلَ إلى ردع العدوانية مرادفةً للقوة، قد أدَّى إلى مزيدٍ من الخلطِ بين القوة والنفوذ، ومن ثَم، فإنه من الصعب قياسُ القوة، وما يتم قياسُه في الواقع هو مكوناتُ القوةِ الوطنية لا القوة من ناحية ثانية: القوة مفهومٌ نسبي ومتبادل؛ لأن أثرَ القوة يختلف من قضيةٍ إلى أخرى، وذلك بحُكم تأثير مجموعةٍ من العوامل الأخرى.
يشكل الموقعُ الجغرافي عنصرًا من عناصر قوة الدولة، بيدَ أنَّ العواملَ الجغرافية تقيد ولكنها لا تملي السياسة الخارجية للدولة؛ فقد أدى تطويرُ الصواريخ النووية إلى الإقلالِ من أثر العوامل الجغرافية، وبالذات الموقع الجغرافي، ولكن يُمكن القول: إن الحدودَ الإقليمية للدول تلعب دورًا مهمًّا، وبالذات في الأقاليم الأقل تطورًا.
تلعَبُ القوةُ العسكرية في العصر الحديث دورًا حاسمًا؛ فللقوةِ العسكرية قيمةٌ ردعيَّة، ولكنَّ الدارسين يختلفون حول ما إن كان تعاظُمُ القوة العسكرية للدولة يحقق بالفعل تلك القيمة.
وعلى الرغم من أن أهميةَ القوة الاقتصادية قد ازدادت نتيجةَ تزايد الاعتماد الاقتصادي المتبادل، والخوف من الحرب النووية، فإن هناك قيودًا عديدةً على إمكان استعمال الأداتين الاقتصاديتين الرئيستين، وهما التجارة والمعونة؛ فقد ثبَت عدمُ جدوى المقاطعة الاقتصادية كأداةٍ للتأثير في السياسةِ الخارجية للدول الأخرى، وإن كانت المقاطعةُ البترولية قد حقَّقت بعضَ النجاح في هذا الصدد.
عموما، تؤثِر مكونات القوة النسبية على خياراتِ السياسة الخارجية للدول؛ فالدولُ الكبرى أكثرُ نشاطًا في مجال السياسة الخارجية وأكثرُ ميلاً إلى الدخولِ في صراعات دولية من الدول الصغرى، والدولُ الصغرى تفضِل الدبلوماسيةَ الجماعية على الدبلوماسية الثنائية، وتلجأُ إلى الوساطةِ كأداةٍ لتسوية المنازعات بينها أكثرَ مما تفعل الدولُ الكبرى، كذلك فالأحلافُ تتكوَّن في الغالبِ من دولٍ غيرِ متكافئة في الحجم، وقد لوحظ أن الأحلافَ التي تُعقَدُ بين الدول الصغرى غالبًا ما تكونُ غير فعَّالة، وأن عدم الانحياز لا ينتج آثارًا إيجابية بالنسبة للدولة الصغرى غير المنحازة إلا إن كانت تلك الدولةُ مستعدةً لعدم لعب دور نشيط في السياسة الدولية، وألا تكون استفزازية في سياستِها الخارجية.
توازن القوى هو المفهوم الأثير لدى دعاة الواقعية، الذي يتحقق من خلاله السلام الدولي والأمن والاستقرار ومنع الحروب. ويُقصد به وجود نظام تتعدد فيه القوى صاحبة التأثير بحيث لا تستطيع أي دولة بمفردها هزيمة الآخرين وفرض هيمنتها على النظام الدولي، أو قدرة أي تحالف بين عدد من الدول هزيمة التحالفات الأخرى، ويكون هناك دور متميز للدولة «ماسكة الميزان» التي تلقي بقوتها ضد الدولة أو التحالف الذي يسعى إلى تغيير التوازن الدولي، ومن ثم، تتم إدارة الصراع الدولي من خلال توازن القوى الذي يصون الوضع القائم وكيان أطرافه من الدو ل.
هكذا، يصبح توازن القوى رادعاً للدول التي تسعى إلى تغيير الوضع القائم، إذ يكون من الصعب على هذه الدول أن تبدأ حرباً تدرك أنها سوف تنتهي حتماً بخسارتها.
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ازدادت المفارقة بين التفوق المطلق للولايات المتحدة في المجال العسكري، والتراجع النسبي لقدراتها الاقتصادية في مواجهة الصعود الصيني – الآسيوي، وتناقصت نسبة مشاركة الناتج المحلي الأمريكي نسبةً إلى الناتج المحلي بشكل محسوس وتحدث الزعماء الأمريكيون صراحة عن ضرورة المشاركة في تحمل أعباء الدفاع، وكان دونالد ترامب أكثرهم صراحة في هذا الأمر.
تتلخص مضامين السياسية الخارجية للدول الكبرى في إعادة توزيع مراكز النفوذ واقتسام دول العالم الضعيفة عبر إلحاقها بالتكتلات الاقتصادية الناهضة. في هذا السياق نلاحظ عدة أشكال من التكتلات الاقتصادية: يتمثل الأول منها بحركة الاندماج الكبرى بين الشركات الدولية في مراكز الهيمنة الدولية، بينما يتجسد الشكل الثاني بمسعى الدول الكبرى في إلحاق الدول الوطنية بالتكتلات الاقتصادية الدولية انطلاقا من تبعيتها الكولونيالية السابقة، وبهذا المسعى نشير الى ان الدول الوطنية ذات التبعية الكولونيالية السابقة تتجاوب بهذا الشكل أو ذلك مع التوجهات الأساسية لسياسة الدول الكبرى في حل مشاكلها الداخلية .أما الشكل الاخير نراه في مسعى المراكز الإقليمية الناهضة الى بناء تكتلات إقليمية لتشكل سياجاً اقتصاديا بوجه مطامع الدول الكبرى وشركاتها الدولية . وبهذا السياق يمكن التأكيد على أن السياسية الخارجية الصينية الهادفة الى ربط كثرة من البلدان الأفريقية والآسيوية بعلاقات اقتصادية ترتكز في أحد جوانبها على مبادئ التكافؤ وتوازن المصالح بعيدا عن التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول.
تسعى السياسة الخارجية لمراكز الهيمنة الدولية إلى منع الدول الإقليمية الناهضة: البرازيل، الهند، تركيا، وإيران فضلا عن الصين وروسيا من التحول إلى مراكز إقليمية مؤثرة بهدف إبقاء تطور العلاقات الدولية ضمن مجال سيطرة المراكز الدولية الكبرى.
تشكل منطقة الشرق الأوسط بسبب ثرواتها النفطية وأسواقها الواعدة مجالا حيوياً لأمن الدول الكبرى وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية.