المبحث الثالث: خضوع الدولة للقانون (دولة القانون)
شاع كثيرا استعمال عبارة "دولة القانون" في السنوات الأخيرة في الأوساط السياسية، كما باتت تحتل مكانة بارزة في الدراسات الدستورية كخاصية تمتاز بها الدولة الحديثة، و المقصود به خضوع الحكام و كافة أجهزة الدولة التي تمارس السلطة للقيود التي يفرضها القانون بشكل عام والدستور بشكل خاص.
وقد ظهر هذا المبدأ عبر عدة مراحل وكان ذلك بعد زوال الدولة في شكلها القديم والتي كانت مجسد في الحاكم الذي لم يكن يخضع لأي نوع من القيود إلا قليلا، ثم بدأ الأمر يتغير بانتشار المسيحية وما حملته من قيم و أفكار وترسيخ لعديد من الحقوق الفردية، ولحقها الإسلام الذي لم يميز بين الحكام والمحكومين وجعل شؤون الحكم شورى بين المسلمين، ولكن معلى هذا كله فإن خضوع الدولة للقانون حملته أفكار عديد من فقهاء عصر التنوير، ثم كرستها الثورتين الأمريكية والفرنية.
وفي الحقيقة موضوع مبدأ خضوع الدولة للقانون يطرح من زاويتين أساسيتين، الأولى تتعلق بالنظريات التي تحاول تفسير خضوع الدولة للقانون، والثانية تنصب على دراسة ضمانات تحقق هذه الخاصية.
المطلب الأول: النظريات المفسرة للمبدأ
إذا كان رأي الفقه الدستوري الحديث أصبح مستقرا على كون خضوع الدولة للقانون خاصية أساسية من خصائص الدولة، فإنه مع ذلك يبقى الإشكال مطروحا حول كيفية تحقيق ذلك في ظل تمتع الدولة بالسيادة التي تجعلها لا تخضع إلى أي قيد؟ فجاءت مجموعة من النظريات التي حاولت أن تزيل هذا التعارض بالاعتماد على أسس مختلفة.
الفرع الأول: نظرية الحقوق الطبيعية
ترى هذه النظرية أن هناك مجموعة من الحقوق و الحريات التي يتميع بها الأفراد و هي مبادئ خالدة و أولية ولدت مع الإنسان و هي منبثقة منه باعتباره كائنا اجتماعيا يدخل في علاقات اجتماعية مع غيره، وهي سابقة في وجودها على وجود الدولة مما يجعلها تسمو عليها.
وبالتالي لا تستطيع النيل منها وما ظهور الدولة إلا لحماية هذه الحقوق و ما دامت هذه الحقوق سابقة على كل تنظيم سياسي فهي تخرج عن سلطات الدولة و يترتب عن ذلك احترام الدولة لهذه الحقوق، لتصبح هي القيد الوحيد لسيادة الدولة، وعليه فلا تعارض بين خضوع الدولة للقانون وما بين مبدأ السيادة ما دامت الدولة أصلا موجودة الحقوق الطبيعية هذه.
الفرع الثاني: نظرية القانون الطبيعي
بحسب هذه النظرية فإن الأفراد قبل وجود الدولة كانوا يعيشون تحت كنف القانون الطبيعي الذي ينظم حياتهم، وأن الدولة وجدت لتعزيز هذا القانون والسهر على أن يطبق من طرف الأفراد ، ولكن يبقى هذا القانون قيدا على سيادتها فهي ملزمة على احترامه وتطبيق أحكامه، ومن أمثلة القوانين الطبيعية نذكر العقد شريعة المتعاقدين ومبدأ الدفاع الشرعي وغيرها.
الفرع الثالث: نظرية التحديد الذاتي:
نشأت هذه النظرية في الفقه الألماني، و يرى أنصارها أن القانون من صنع الدولة باعتبار أن هذه الخيرة هي صاحبة السلطة العليا والسيادة الكاملة، وعليه فمن الصعب القول بأنها تتقيد به وتخضع له خضوعا مطلقا، ولكي يوفقوا بين السيادة وخضوع الدولة للقانون فإنهم يفسون انصياع الدولة للقواعد القانونية بإرادتها الذاتية، بمعنى أن الدولة لا تتقيد بالقانون إلا بإرادتها وهذا لا يتعارض مع سيادتها خاصة وأن القانون من صنعها ويستمد قوته الالزامية من إرادتها.
الفرع الرابع: نظرية التضامن الاجتماعي:
أسس هذه النظرية الفقيه الفرنسي ليون دوغي و يرى بأنه إذا كان القانون من صنع الدولة فإنه لا يعقل القول بخضوعها له لأن ذلك الخضوع لا يتحقق إلا إذا كان القانون صادر من سلطة أعلى من سلطة الدولة، والسلطة التي تعلو الدولة هي التضامن الاجتماعي الذي منه يكتسب القانون قوته الإلزامية وليس من سلطة الحكام و هذا يعني فصل القانون عن الدولة من حيث المصدر، فالدولة شأنها شأن الأفراد تكون ملزمة به و كذا الحاكمين لا يحق لهم إصدار أوامر و توجيهات للقيام بعمل معين إلا إذا استدعت ذلك مقتضيات التضامن الاجتماعي.
المطلب الثاني: ضمانات مبدأ خضوع الدولة للقانون
إذا كان أساس خضوع الدولة للقانون يطرح إشكالا فلسفيا فإن الواقع يبرز إشكالات أكثر أهمية تتعلق بكيفية ترجمت هذا المبدأ في الواقع العملي، وهنا أيضا يقترح الفقهاء مجموعة من الضمانات التي نذكرها فيما يلي:
أولا: وجود دستور مكتوب
من الأهمية بمكان أن تكون هناك وثيقة دستورية مكتوبة تحدد فيها قواعد ممارسة السلطة في الدولة، وتبين الأجهزة التي تمرسها والحدود التي يجب عليها أن تنتهي فيها، و على كل السلطات احترام المبادئ الواردة في هذه الوثيقة و إلا اعتبرت أعمالها غير مشروعة و يبين اختصاص كل سلطة، كما يضع قواعد تضمن حقوق و حريات الأفراد.
ثانيا: تكريس مبدأ الفصل بين السلطات
جاء في المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن أن "كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات الحقوق مكفولة، والفصل بين السلطات غير مكفول، هو مجتمع بدون دستور"، وعليه فإن مبدأ الفصل بين السلطات هو دعامة أساسية لضمان قيام نظام دستوري تتقيد فيه مختلف أجهزة بالقواعد القانونية، مع ملاحظة أن تقسم السلطات في الدولة يكفل احترام هذه السلطات للقانون على أساس الرقابة التي تقوم بها كل واحدة على الأخرى.
ثالثا: المعارضة السياسية
إن التعددية الحزبية السياسية في الدولة تسمح بوجود معارضة تعمل جاهدة على انتقاد ومعارضة الهيئة الحاكمة و كشف أخطائها من خالص القواعد القانونية و تنبيه الرأي العام ضدها، وبالنظر للوعي السياسي الذي تتمتع به المعارضة وحرصها على كشف أخطاء الحكومة فإن المعارضة السياسية تصبح بدورها دعامة أساسية لمبدأ خضوع الدولة للقانون.
رابعا: الرأي العام (الشعب)
بدوره يلعب الرأي العام دورا جوهريا في دفع أجهزة الدولة للتقيد بالقانون خاصة بالنسبة للدول التي تمتاز شعوبها بوعي سياسي كبير يسمح لها بالاطلاع على الوظائف التي تسند لأجهزة الدولة والتدخل في حال تجاوزها، أما بالنسبة للشعوب ناقصة الوعي فإنه من الواجب أن تتدخل المنظمات والجمعيات التي تنشط في محال الدفاع عن حقوق الإنسان، والنخبة في المجتمع من أساتذة وفقهاء وطلبة ليلعبوا دورهم في تعبئة الرأي العام لحمل السلطة على احترام الدستور والقواعد القانونية الأخرى.