مرحلة الاستكشاف
مقدمات الفتح
- انفرد الواقدي في كتابه "فتوح الشام" عن غيره من المؤرخين المسلمين بذكر استعانة حاكم الإسكندرية بحاكم برقة ضد المسلمين، حيث قال له: "...إنهم قد أتونا... وأخذوا مصر منا وأخذوا ملكنا وحكموا في بلادنا بعدنا، ولا بد لهم منك ولا غنى لهم عنك، والصواب أن نشمر لهم عن الهمم وتنجدنا على من بغى وأجرم..." ويذكر الواقدي أن رد صاحب برقة كان إيجابيا حيث ارسل لصاحب الإسكندرية جيشا لدعمه يقدر بأربعة آلاف جندي.
- بعد أن تم المسلمون فتح مصرو الإسكندرية بقيادة عمرو بن العاص سنة 22هـ/ م رأوا أن عليهم تأمين هذا الفتح فبادروا بإرسال الحملات الاستطلاعية غرب مصر، حيث وجه عمرو بن العاص ابن خالته عقبة بن نافع إلى زويلة وبرقة فافتتحهما، ثم توجه عمرو بن العاص بنفسه إلى برة وصالح أهلها على الجزية.
- بعد أن أتم فتح برقة وجد كان أمام عمرو بن العاص خياران؛ إما أن يواصل تحركه غربا بمحاذاة الساحل ليصل إلى طرابلس، أو أن يتجه جنوبا ليفتح الواحات الجنوبية التي تستقر بها لواتة ونفوسة وهوّارة.
رأى عمرو أن يقوم بالعمليتين معا فسار هو إلى طرابلس وأرسل عقبة بن نافع جنوبا إلى فزان (جنوب برقة) وبعد أن تمكن عمرو من دخول طرابلس أرسل بسر بن أرطأة إلى ودان (جنوب طرابلس) سنة 23هـ/ م حيث صالح أهلها على الجزية.[1]
- بعد أن أتم عمرو بن العاص فتح طرابلس راسل الخليفة عمرو بن الخطاب يُعلمه بما أنجزه ويستأذنه في مواصلة فتح إفريقية، لكن الخليفة رفض ذلك وطلب منه العودة إلى مصر.
لعل الخليفة عمرو بن العاص لم يرد المغامرة بجيوش المسلمين في اراضي إفريقية البعيدة، إضافة إلى أنه لم يشأ فتح جبهة جديدة تضاف إلى جبهتي الفرس في المشرق والروم في الشام، كما نشير إلى ان عمر بن الخطاب كان قد ارسل أمراً إلى عمرو بن العاص وهو في العريش (شرق مصر) يأمره بالتوقف في المكان الذي يصله فيه الكتاب (توقف أين وصلك كتابي هذا) إلا أن عمرو بن العاص عرف بذكائه محتوى الكتاب فلم يقرأه حتى أتم فتح مصر.[1]
تقييم لدور عمرو بن العاص
- لم يكن لعمرو بن العاص دور كبير في فتوحات بلاد المغرب، إنما اقتصر الأمر على فتوحات سهلة إلى حدا مكنت المسلمين من التعرف على المنطقة.
- رغم أنه سار بمحاذاة الساحل ولم يوغل في الداخل إلا ان عمرو بن العاص لم يهمل تلك المناطق ففتح فزان بعد زويلة وفتح ودان بعد طرابلس، وهذا الأمر أهمله عقبة بن نافع فيما بعد وكان سببا في ضياع جهوده.
- لم يستثمر المسلمون فتحهم لطرابلس ومصراته بالاستقرار فيهما، إذ سرعان ما عادت المدينتان إلى قبضة الروم.
ثانيا: فتوحات عبد الله بن سعد بن أبي السرح
- في سنة 25هـ/ م قام عثمان بن عفان بعزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر وتولية عبد الله بن سعد الذي واصل الحملات الاستطلاعية فكان يبعث المسلمين في جرائد الخيل يغيرون على أطراف إفريقيا ويغنمون منها
- راسل عبد الله بن سعد الخليفة عثمان يستأذنه في غزو إفريقية، فاستشار الأخير صحابته وأذن له سنة 27هـ/ م في غزوها ودعا الناس إلى المشاركة في هذه الحملة، كما أعان الجيش بألف بعير من ماله.
- وصلت القوات التي ارسلها عثمان غلى مصر لتضاف إلى جيش عبد الله بن سعد حتى بلغت عدته حوالي 20 الف مقاتل فخرج بهم قاصداً إفريقية وفي طريقه حاصر طرابلس التي كان أهلها قد نقضوا العهد وقاموا بتحصين مدينتهم، فلم يُطل حصارها ربحا للوقت وفضل التوجه إلى عاصمة إفريقية قرطاجنة.
- كان جريجوريوس الأرميني حاكما لإفريقية، وتذكر الروايات أنه استقل حديثا عن الإمبراطورية البيزنطية وارتحل عن عاصمته قرطاجنة التي كانت بمحاذاة الساحل إلى سبيطلة كي يتجنب حملات البيزنطيين البحرية، وأيضا حتى يتمكن من تلقي العون من البربر.
- استعد جرجير لملاقاة العرب عندما علم بقدومهم وجهز جيشا قدرته المصادر ب120 ألف مقاتل.
- التقى الجيشان قرب سبيطلة وبدأت المفاوضات بين الطرفين، حيث عرض المسلمون على جرجير الإسلام أو دفع الجزية، ورغم فشلها تأخر وقوع المعركة الحقيقية بين الطرفين عدة ايام اقتصر فيها الأمر على المناوشات الخفيفة.
- نظراً لانقطاع أخبار جيش المسلمين عن مركز الخلافة قام الخليفة عثمان بن عفان بإرسال عبد الله بن الزبير مع فئة قليلة لتحسس أخبارهم والتعرف عما جرى لهم.
- اعتمد المسلمون على خطة نسبت إلى ابن الزبير بحيث تركوا جزءاً من أبطال الجيش يرتاحون، وقامت بقية الجيش بمناوشة الروم كالعادة غير أنهم لم يتركوهم عندما حلت الظهيرة كما كان يجري سابقا، إنما استمروا في مناوشتهم حتى أرهقوهم ثم عاد كل طرف إلى معسكره وقد نال منه التعب.
- بعد ذلك أخذ ابن الزبير من كان مستريحا من جند المسلمين واغاروا على معسكر الروم ونجحوا في مباغتتهم وهزمهم وتمكن ابن الزبير من قتل جرجير.
- اهتمت المصادر كثيراً بالحديث عن ابنة جرجير بل جعلتها محوراً للمعركة وقد اختلفت هاته المصادر في تحديد مصيرها فهناك من ذكر أنها كانت من نصيب ابن الزبير الذي نقلها للحجاز وتزوجها، وهناك من قال بأنها كانت في سهم رجل أنصاري غير أنها انتحرت في طريقها للحجاز.
- دخل العرب بعد ذلك سبيطلة بعد حصار شديد وغنموا منها غنائم كثيرة، وأرسل عبد الله بن سعد السرايا في إفريقية.
- طلب رؤساء إفريقية بعد ذلك من المسلمين مغادرة إفريقية مقابل مقدار كبير من المال (ذكرت بعض المصادر أنه 300 قنطار من الذهب) وهو ما وافق عليه عبد الله بن سعد بن ابي السرح.
- لعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا قبل عبد الله بن سعد بهذا الطلب وفضل الانسحاب دون استغلال انتصاره في البقاء والاستقرار.
يبرر حسين مؤنس هذا الانسحاب بعدة أمور يمكن أن نلخصها فيما يلي:
• أن معركة سبيطلة لم تفتح أمام المسلمين كل إفريقية، وربما خافوا من تجمع البربر خلفهم إذا توجهوا إلى قرطاجنة فيصبحوا بين نارين.
• قضى المسلمون في إفريقية 15 شهراً جمعوا فيها غنائم كثيرة وربما خافهم من هجوم الروم أو البربر عليهم فيسلبونها منهم.
• لم يكن الوئام سائداً بين قادة الجيش وهناك شيئ من التوتر بين ابن الزبير وعبد الله بن سعد.
• أن جيش المسلمين تناقص عدده كثيراً بعد هذه المعركة.
• أن عبد الله بن أبي السرح طالت غيبته عن ولايته مصر وكان يميل إلى العودة إليها لنظر في أمورها.
ثالثا: حملة معاوية بن حُديج
- توقفت الفتوحات الإسلامية ببلاد المغرب بسب الفتنة الكبرى وما رافقها من أحداث.
- بعد أن استقرت الأمور لصالح الأمويين تمت تولية عمرو بن العاص مصر إلا أنه لم يرغب في فتح بلاد المغرب عكس ما كان عليه في ولايته الأولى وذلك راجع ربما إلى تقدمه في السن وانشغاله بأمور المشرق، فلم يبعث لإفريقية سوى بعض السرايا تصيب المناطق القريبة وتعود، وبعد وفاته سنة 44هـ قام معاوية بن أبي سفيان بتولية معاوية بن حديج قيادة الفتوح بإفريقية وولاه ما يفتحه بها في حين أقام على مصر عقبة بن نافع الجهني.
- تحرك معاوية بن حديج على راس جيش يقدر ب10 آلاف مقاتل فيهم كثير من الصحابة والتابعين ونزل موضعا يُعرف بقمونية.
- سمع معاوية بن حديج بقدوم جيش من الروم قدره ابن الأثير ب30 ألف مقاتل فتوجه للقائه، ولم يحدث صدام حاسم بين الطرفين، إذ انسحب الروم بعد مناوشات خفيفة، ويبدوا أن هذا الجيش لم يأت لصد المسلمين وإنما كان هدفه إعادة الاستقرار لإفريقية وإعادة ضمها للإمبراطورية البيزنطية بعد أن طرد سكانها عامل الإمبراطور البيزنطي.
- توجه معاوية بن حديج بعد ذلك شمالا إلى مكان يدعى القرن وأرسل عبد الله بن الزبير على رأس جيش يتتبع الروم فتمكن من دخول سوسة بعد أن انسحبوا منها.
- كما أرسل معاوية بن حديج جيشا على راسه عبد الملك بن مروان إلى حصن جلولاء كي يفتتحه، ويبدوا أن اختيار هذا القائد لم يكن في محله نظراً لحداثة سنه (19 سنة) واختلافه فيما بعد مع قائد الحملة على اقتسام غنائم جلولاء.
- لم يُطل عبد الملك بن مروان محاصرة جلولاء حتى قرر الانسحاب عنها وأثناء قيامه بذلك انهار سورها فتمكن المسلمون من دخولها.
- بعد عودة عبد الملك بن مروان إلى معاوية بن حديج اختلف القائدان في مسألة توزيع الغنائم؛ إذ رأى عبد الملك بن مروان أنها حكر على من توجه معه إلى جلولاء، أما معاوية بن حديج فأراد توزيعها على كامل الجيش، وبعد اختلافهما رفعا الأمر إلى الخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي أقر رأي معاوية بن حديج.
- تذكر بعض الروايات أن معاوية بن حديج قد ابتنى دوراً سماها قيروانا في موضع القيروان قبل أن يأتي عقبة، لكن هذه الرواية مشكوك في صحتها إذ يجوز أن يكون قد ابتنى بعض المساكن للجند، أما أن يكون قد فكر في بناء المدينة فهو أمر غير وارد إذ لا وجود له عند أصحاب المصادر الأصلية كابن عبد الحكم والبلاذري.
- بعد ذلك توجه معاوية بن حديج إلى بنزرت فافتتحها ولم تذكر المصادر تفاصيل كثيرة عن هذا الفتح غير أن هناك حادثة مهمة وقعت خلال هذا الفتح حيث شذ عبد الملك بن مروان عن الجيش فمرة بامرأة من سكان بنزرت فأحسنت إليه وأكرمت مثواه، فشكر لها ذلك ولما ولي الخلافة أمر بالإحسان إليها ولأهلها، والذي يُفهم من هذه الحادثة أن بعض أهل البلاد كانوا يرحبون بالعرب ويتلقونهم كمخلصين من الروم، وأن العرب لم يكونوا ينهبون البلاد النهب الذريع كما يصورهم عدد من المستشرقين.
- أخطأ بعض المؤرخين (ابن عذارى، ابن ناجي...) حين ذكروا أن معاوية في حملته توجه إلى غزو صقلية سنة 45هـ، والواقع أنهم اخلطوا بين حملة سابقة في عهد عثمان بن عفان قادها معاوية بن ابي سفيان سنة 26هـ على قبرص ورودس ومنها ارسل جيشا مع معاوية بن حديج لغزو صقلية.
- كان معاوية بن حديج قد ترك عاملا على طرابلس اسمه رويفع بن ثابت الأنصاري، وقد قام هذا الأخير بغزو جزيرة جربة القريبة من السواحل.
قيمة حملة معاوية بن حديج
عاد معاوية بن حديج دون أن يحقق إنجازات كبيرة حيث اكتفى بفتح مدينتي سوسة وبنزرت ولم يتقدم إلى فتح مدينة كبيرة مثل قرطاجنة، كما أنه تخلى عن المدن التي فتحها وعاد إلى مصر دون تثبيت أقدام المسلمين بإفريقية رغم أنه لم يجبر على العودة إليها إنما عاد مخيراً، وعموما يمكن اعتبار هذه الحملة ضمن مقدمات الفتح الطويلة التي قادها المسلمون للتعرف على البلاد.