التعريف بنظرية الحتمية التكنولوجية
تعد (ن ح ت)[1] لوسائل الإعلام والاتصال من النظريات الحديثة التي تتطرق إلى الحديث عن دور وسائل الإعلام وطبيعة تأثيرها على مختلف المجتمعات ,كما تعد واحدة من النظريات المميزة لأنها واكبت التطور التكنولوجي إذ تعتبر جزءا من العملية التكنولوجية التي بدأت تغير وجه المجتمع كله .
وبشكل عام يمكن القول أن هناك أسلوبان أو طريقتان للنظر إلى وسائل الإعلام من منظور هذه النظرية :
أن وسائل الإعلام لنشر المعلومات والترفيه والتعلم .
وسائل الإعلام جزء من سلسلة من التطور التكنولوجي.
وهذا يعني أننا إذا نظرنا إليها أنها وسيلة لنشر المعلومات والترفيه والتعليم، فنحن نهتم أكثر بمضمونها وطريقة استخدامها والهدف من ذلك الاستخدام وإذا نظرنا إليها كجزء من العملية التكنولوجية التي بدأت تغير وجه المجتمع كله شأنها في ذلك شأن التطورات الفنية الأخرى، فنحن نهتم حينئذ بتأثيراتها، بصرف النظر عن مضمونها.
يقول مارشال ما كلوهان أن مضمون وسائل الإعلام لا يمكن النظر إليه مستقلا عن تكنولوجية الوسائل الإعلامية نفسها، فالكيفية التي تعرض بها المؤسسة الإعلامية الموضوعات، والجمهور الذي توجه له رسالتها، يؤثران على ما تقوله تلك الوسائل، ولكن طبيعة وسائل الإعلام التي يتصل بها الإنسان تشكل المجتمعات أكثر مما يشكلها مضمون الاتصال فحينما ينظر ما كلوهان إلى التاريخ يأخذ موقفا نستطيع أن نسميه بالحتمية التكنولوجية، فبينما كان كارل ماركس يؤمن بالحتمية الاقتصادية، وبأن التنظيم الاقتصادي للمجتمع يشكل جانبا أساسيا من جوانب حتميته.

وقد تم التأكيد على كل هذه التحولات من طرف ما كلوهان مارشال الذي يعتبر من أشهر المثقفين في النصف الثاني من القرن العشرين.
مراحل تطور الاتصال الانساني عند مارشال ماكلوهان
يقسم ما كلوهان في رأيه تطور التاريخ الإنساني إلى أربع مراحل:
المرحلة الشفوية: تعتمد كلية على الاتصال الشفهي، مرحلة ما قبل التعلم أي المرحلة القبلية وقد استغرقت معظم التاريخ البشري
مرحلة كتابة النسخ: التي ظهرت بعد هومر في اليونان القديمة واستمرت ألفي عام
مرحلة عصر الطباعة : من سنة 1500 م إلى سنة 1900 تقريبا
مرحلة وسائل الإعلام الإلكترونية :من سنة 1900 تقريبا إلى يومنا هذا. يقول ما كلوهان أن التغير الأساسي في التطور الحضاري منذ أن تعلم الإنسان أن يتصل كان من الاتصال الشفهي إلى الاتصال السطري إلى الاتصال الشفهي مرة أخرى.
الاتصال الشفهي
وفقا لما يقول ما كلوهان فإن الناس يتكيفون مع الظروف المحيطة عن طريق توازن الحواس الخمس السمع، البصر، اللمس، الشم والتذوق مع بعضها البعض، وكل اختراع تكنولوجيا جديد يعمل على تغيير التوازنيين الحواس فقبل اختراع
جوتنبرغ للحروف المتحركة في القرن الخامس عشر كان التوازن القبلي القديم يسيطر على حواس الناس، حيث كانت حاسة السمع هي المسيطرة فالإنسان في عصر ما قبل التعلم كان يعيش في عالم به أشياء كثيرة في الوقت نفسه، في عالم الأذن حيث يفرض الواقع نفسه على الفرد من جميع النواحي، ولم يكن لهذا الزمن حدود ولا اتجاه ولا أفق وعاش الإنسان في ظلام عقله في عالم العاطفة معتمدا على الإلهام البدائي أو الخوف، وكان الزمن والمسافة يتم إدراكهما سمعيا، وكان الشعر الذي يغنى من أكبر أدوات التحضر، وكان الاتصال الشفهي هو الرابطة مع الماضي وكانت المعاني ذات المستويات المتعددة هي الطابع العام وهي معاني كانت قريبة جدا من الواقع، وكلمة الإنسان ملزمة، وذاكرته قوية جدا والصورة الذهنية التي تصاحب أفكاره سمعية، فهو يستخدم كل حواسه، ولكن في حدود الصوت، ونظرا لأن الناس في ظل هذا النظام كانوا يحصلون على معلوماتهم أساسا عن طريق الاستماع إليهم من أناس آخرين وقد أثر أسلوب الاتصال على الناس وجعلهم عاطفيين أكثر، وذلك لأن الكلمة المنطوقة عاطفية أكثر من الكلمة المكتوبة، فهي تحمل عاطفة بالإضافة إلى المعنى، وكانت طريقة تنغيم الكلمات تنقل الغضب أو الموافقة أو الرعب أو السرور أو التحكم...
الاتصال السطري
يمكننا القول نقول أن مجتمعات ما قبل التعليم كانت تحتفظ بالمضمون الثقافي في ذاكرة أجيال متعاقبة، ولكن تغير أسلوب تخزين المعرفة حينما أصبحت المعلومات تختزن عن طريق الحروف الهجائية وبهذا حلت العين محل الأذن كوسيلة الحس الأساسية، التي يكتسب بفضلها الفرد معلوماته، وسهل الكلام البشري (الذي تجمد زمنيا) الآن بفضل الحروف الهجائية إقامة إدارات بيروقراطية، واتجاهات قبلية.
التواصل عن طريق المطبوع
هنا قد أكمل اختراع جوتنبرغ ثورة الحروف الهجائية، فأسرعت الكتب بعملية فك الشيفرة التي نسميها قراءة، وتعدد النسخ المتطابقة، وساعد المطبوع على نشر الفردي لأنه شجع – كوسيلة أو أداة شخصية التعلم المبادرة والاعتماد على الذات، ولكن عزل المطبوع البشر فأصبحوا يدرسون وحدهم، ويكتبون وحدهم، وأصبحت لهم وجهات نظر شخصية عبروا بها عن أنفسهم للجمهور الجديد الذي خلقه المطبوع وأصبح التعليم الموحد ممكن وبفضل الصحافة المطبوعة حدث تغير جذري، فبدأ الأفراد يعتمد الحصول على معلوماتهم أساسا على الكلمة المطبوعة بدلا على الكلمة المنطوقة، وأصبح المطبوع يعتبر تقدما منتظما للتجريد وللرموز البصرية، وساعد المطبوع على تطوير عاد عمل فئات أي وضع كل شيء بنظام في فئات المهن والأسعار والمكاتب والتخصصات، وأدى المطبوع في النهاية إلى خلق الاقتصاد الحديث والبيروقراطية والجيش الحديث والقومية نفسها.
يرى ما كلوهان في كتابه مجرة جوتنبرغ سنة 1962 أن اختراع الطباعة بالحروف المتحركة ساعد على تشكيل ثقافة أوروبا الغربية في الفترة ما بين 1500 م و 1900 م فقد شجع الإنتاج الجماهيري للمواد المطبوعة على انتشار القومية لأنه سمح بانتشار المعلومات بشكل أكبر وأوسع وأسرع عما تسمح به الوسائل المكتوبة باليد، كذلك أثرت الأشكال السطرية على الموسيقى وجعلتها تتخلى عن التكوين القائم على التكرار وكان الإنسان في عصر النهضة ينظر إلى الحياة كما ينظر إلى المطبوع – كشيء مستمر- كذلك مكن الكتاب المطبوع الناس من التفكير وحدهم وشجع الاكتشاف الفردي، كما يرى ما كلوهان أن جميع الأشكال الميكانيكية برزت من الحروف المتحركة، فالحروف نموذج لكل الآلات، هذه الثورة حدثت بفضل المطبوع فصلت القلب عن العقل والعلم عن الفن مما أدى على سيطرة التكنولوجيا والمنطق السطري
العودة الى الاتصال الشفهي
يسمي مارشال ما كلوهان المرحلة التي نعيشها حاليا عصر الدوائر الإلكترونية كما تتمثل بشكل خاص في التلفزيون والكمبيوتر فالإلكترونيات بتوسيعها وتقليدها لعمل العقل البشري، وضعت نهاية لأسلوب تجريد الواقع، وإعادة القبلية للفرد مرة أخرى، مما أحدث نتائج ثقافية واسعة النطاق,وفي ذات الصدد يشير ما كلوهان أن الأنماط الكهربائية للاتصال، مثل التلغراف والراديو والتلفزيون والسينما والهاتف والعقول الإلكترونية، تشكل هي الأخرى الحضارة في القرن العشرين وما بعده، وبينما شاهد إنسان عصر النهضة الطباعة، فإن الإنسان الحديث يجرب قوى كثيرة للاتصال في نفس الوقت، وأصبحت عادة قراءة الكتاب تختلف عن الطريقة التي ننظر بها إلى الجريدة، ففي حالة الجريدة لا نبدأ بقصة واحدة نقرأها ثم نبدأ قصة أخرى، ولكن تنتقل أعيننا في الصفحات لتستوعب مجموعة غير مستمرة من العناوين والعناوين الفرعية والفقرات التي تقدم الموضوعات والصور والإعلانات.
