ب- منطلقات لسانيات النص

كانت البدايات الأولى لظهور اللسانيات كعلم على يد "دي سوسير " وبلومفيلد" وتلاميذه ، ثم تطور هذا البحث في المدارس اللغوية الأوروبية والأمريكية، وظهر فيها أول توجه لساني معاصر في تحليل الخطاب على خلاف نحو الجملة عام 1952، على يد "هاريس " Zelling" Harris" في كتابه ""Discourse analysis، الذي قدّم فيه منهجا ورؤية فريدة في تحليل الخطاب، سواء كان منطوقا أم مكتوبا، هذا الخروج العلني عن الجملة كما يقول هاريس، هو وجود قصور في مستوى الجملة والعلاقات بين أجزائها، ثم تطورت الدراسات النصية على يد "فانديك " ، الذي يُعد المؤسس الحقيقي لعلم النص أو نحو النص ، وهو الذي وضع تصورا شاملا لنحو النص منذ 1972، حيث فرق بين النص والخطاب ، كما اهتم بالأبعاد البنيوية والسياقية، والأبعاد الثقافية ، ويُعد أهم الرواد في تطور النظرية ، وفي الثمانينيات صار هذا العلم له قواعده وأصوله وحدوده على يد كل من "روبرت بوجراند" و"درسلر "، الذي قدما فيه منهجاً شاملاً في كتابهما (مدخل إلى علم لغة النص) . حدد سبعة معايير للنصية، فيرى أنّ هناك معايير تتصل بالنص في ذاته ، وهما معيارا السبك والحبك، وما يتصل بمستعملي النص سواء أكان المستعمل منتجا أم متلقيا ، ويتفرع إلى معيارا القصد والقبول، ومعايير تتصل بالسياق المادي والثقافي المحيط بالنص.

لكن لسانيات النص لم تكن بمعزل عن الدراسات التراثية العربية ، فهناك إشارات واضحة عند أهل البلاغة والبيان وعلماء التفسير نذكر منهم : الجرجاني ، و الزمخشري والباقلاني ، والسكاكي ، و الرازي ، و الألوسي ، وحازم القرطاجني ، و ابن عاشور ، وسيد قطب . ولكن الشيء الذي أصلوا فيه هو الجانب النظري فقط .

نحو الجملة

لقد اهتم النحاة وأهل البلاغة في التراث العربي القديم بنحو الجملة وحملوا على عواتقهم مهمة دراستها الناحية الوضعية ، فبينوا مكوناتها ومختلف القواعد التي تحكمها وعلى ذلك قامت النظريات النحوية والاتجاهات اللسانية المختلفة والمتعاقبة. فالجملة بنية قارة في الكلام وقرارها هذا جعل النظريات التي اشتغلت بوصفها وتقنينها متينة متانة نسبية ، ونسبيتها متأتية من طبيعة الكلام نفسه 5[1].

نحو النص

لقد أهملت لسانيات الجملة بالجانب المقامي أو السياق ، بالإضافة إلى بعض العناصر التي ذكرها "روبرت دي بوجراند" في كتابه "النص والخطاب والإجراء" ، مبرزا أوجه الاختلاف بين نحو الجملة ونحو النص ونوجزها في العناصر الآتية 6[2]:

1 ـــ إنّ النص نظام فعال وواقعي ، على حين نجد الجملة تنتمي إلى نظام افتراضي(النحو).

2 ــــ تتحدد الجملة بمعيار أحادي خالص يتحدد على مستوى النحو.أما النص فيتحدد بمعايير عدة تنظم جودته وفاعليته ومدى ملامته للسياق.

3 ـــ في النص تتفاعل فيه مجموعة من المرتكزات كالمعارف والأعراف الاجتماعية والعوامل النفسية مستعينة بسياق الموقف ،في حين نجد الجملة محدودة في المواقف الإنسانية ،لأنها تستعمل لتعريف الناس كيفية بناء العلاقات النحوية فحسب.

4 ــــ يستند استغلال الجمل إلى المعرفة القاعدية التابعة لنظام افتراضي له صفة العمومية، اما استغلال النص فيستند إلى معرفة خبرات بوقائع فعلية خاصة.

5 ـــ يتأثر النص بالأعراف الاجتماعية والعوامل النفسية وبموقف وقوع النص بوجه خاص،

6 ـــ يُعد النص حدثا يقصد به المرسل إلى توجيه المرسل إليه ؛لإنشاء علاقات متنوعة مصحوبة بمواقف اجتماعية ،و لا يقتصر على العلاقات القواعدية، بينما الجملة تظهر العلاقات القواعدية بمعزل عن الزمن.

تعريف النص والخطاب

لقد اختلف العلماء في تحديد مفهوم مصطلح النص ،فهو كمثله "مثل كل تعريف، أمر صعب،لتعدد معايير هذا التعريف ، ومداخله، ومنطلقاته، تعدد الأشكال والمواقع والغايات التي تتوافر فيما نطلقه عليه اسم نص" 7[3]. وإنه لمن النادر أن يكون مفهوم النص في إطار اللسانيات والدراسات الأدبية قد حدد بشكل واضح ، إن بعضها يحدد تطبيقه على الخطاب المكتوب ، وبعضها الآخر يرى فيه مرادفا للخطاب ، ويعطيه الآخر توسعا سيميائيا منتقلا ، فيتكلم عن نص فيلمي ، ونص موسيقي ...الخ 8[4] ، ويمكن أن نورد بعض التعاريف الخاصة بالنص والخطاب وإعطاء الفروق بينهما فيما يلي:

النص سلسلة لسانية محكية أو مكتوبة ، وتشكل وحدة تواصلية ، ليس النص بنية مقطعية ملازمة ولكنه وحدة وظيفية تنتمي إلى نظام تواصلي. وهناك من يراه متوالية من الجمل بشرط أن تفضي هذه المتوالية إلى تحديد قصد المتكلم أو موضوع النص ، وهذا يتطلب متكلما أو منتجا للنص ومتلقيا لهذا النص ، وهو الذي يمثل الرسالة التي ينقلها المتكلم إلى المتلقي 9[5] .