8-الشخصية القانونية للمنظمات الدولية:
يقصد بالشخصية القانونية للمنظمة الدولية صلاحية هذه الأخيرة للتمتع بالحقوق والوفاء بالإلتزامات، فضلا عن تمتعها بإرادة قانونية مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء المنشئة لها. ويشترط القانون الدولي توافر عنصرين ضروريين لقيام الشخصية القانونية : الأول هو أن تكون الشخصية قادرة على إنشاء قواعد قانونية مع الشخصيات القانونية الأخرى عن طريق التراضي، أما العنصر الثاني فهو أن تكون الشخصية مخاطبة بأحكام القانون الدولي بمعنى أن تكون لها أهلية التمتع بالحقوق وأهلية الوفاء بالإلتزامات الموكلة لها.
وقد شهدت نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مولد اتجاه فقهي جديد يدعو إلى تمتيع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية، غير أنه ما لبث أن واجه معارضة قوية من اتجاه فقهي آخر أنكر على المنظمات الدولية شخصيتها القانونية باعتبار أن الدول وحدها هي أشخاص القانون الدولي لأنها هي التي تملك سلطة التصرف على المستوى الدولي بموجب حقوقها السيادية، في حين ذهب البعض الآخر إلى إنكار هذه الصفة على المنظمات الدولية على أساس استحالة نشأة الشخصية القانونية بمقتضى اتفاق دولي كون أن ذلك يتجاوز سلطات الدول.
وسيتم حسم هذا الخلاف الفقهي من طرف القضاء الدولي في الرأي الإستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية لسنة 1949 بناء على طلب تقدمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام المحكمة من أجل النظر في مدى أهلية المنظمة وحقها في رفع دعوى المسؤولية الدولية ضد الدولة أو الدول المسؤولة عن الأضرار التي تلحق بموظفي المنظمة وذلك على خلفية مقتل الكونت برنادوت أثناء قيامه بمهامه كوسيط للأمم المتحدة بفلسطين.
لقد أقرت محكمة العدل الدولية في هذا الرأي الاستشاري الشخصية القانونية لمنظمة الأمم المتحدة، مؤكدة أن الدول ليست وحدها أشخاص القانون الدولي العام، بحيث اعتبرت أن الهيئات الدولية التي نشأت نتيجة لتطورات الظروف الدولية يمكن اعتبارها أشخاصا قانونية من طبيعة متميزة عن طبيعة الدول، إذ تتمتع المنظمة الدولية بأهلية قانونية خاصة تتناسب مع مدى اتساع أو ضيق الأهداف التي أنشئت من أجلها.
نستنتج إذن بأن إضفاء الشخصية القانونية على المنظمات الدولية لا يعني أن تلك الصفة هي ذاتها التي تتمتع بها الدول وهو ما يؤكده الرأي الاستشاري الخاص بمحكمة العدل الدولية، مما يقودنا إلى الحديث عن الطبيعة الخاصة للشخصية القانونية الممنوحة للمنظمة الدولية. إذ تتميز بداية بكونها شخصية مشتقة بخلاف الشخصية الأصلية الثابتة للدول بمقتضى القانون الدولي، ويعني ذلك أن المنظمات الدولية تظل محكومة بقواعد قانونية مصدرها إرادة الدول، بحيث تنشأ بموجب اتفاق دولي يحدد حدود شخصيتها وطبيعتها وحياتها في ضوء تلك الإرادة المنشئة لها.
كما تتميز الشخصية القانونية للمنظمة الدولية بكونها شخصية وظيفية بحيث تكون محدودة بحدود الوظائف والأهداف الموكولة إليها بمقتضى ميثاقها المنشئ، هذا بخلاف الدول التي تتمتع بشخصية دولية غير منقوصة بموجب حقوقها السيادية. وتتسم تلك الشخصية أيضا بأن لها نطاق شخصي، فالدول غير الأعضاء بالمنظمة ليست ملزمة بالإعتراف بشخصيتها القانونية، مع وجود استثناء خاص بهيئة الأمم المتحدة التي تتمتع بشخصية قانونية موضوعية بحيث تسري على جميع الدول وهو ما أكده الرأي الإستشاري الخاص بمحكمة العدل الدولية لكونها تضم في عضويتها مجمل دول العالم، فضلا عن طبيعة أهدافها المتمثلة في تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
أما بالنسبة للآثار الناتجة عن اكتساب المنظمة الدولية للشخصية القانونية، فإن هذه الأخيرة ترتب تمتع المنظمة الدولية بمجموعة من الحقوق والإمتيازات وعلى رأسها صلاحية إنشاء القواعد الدولية الإتفاقية، فقد غدت الإتفاقيات الدولية التي تكون المنظمات الدولية طرفا فيها شائعة ومألوفة في الحياة الدولية، وتجدر الإشارة إلى أن المنظمة الدولية تمارس هذه الصلاحية حتى مع عدم وجود نص صريح يخولها ذلك على أساس لزومية هذه الأهلية لقيامها بوظائفها ومهامها عملا بنظرية الإختصاصات الضمنية. هذا دون إغفال الحقوق المترتبة على الأهلية القانونية من تعاقد وتمليك للعقارات والمنقولات، فضلا عن الحق في التقاضي عن معاملات المنظمة الدولية مع الشخصيات القانونية الأخرى.
كما تتمتع المنظمات الدولية بمجموعة من الحصانات والإمتيازات في مواجهة الدول الأعضاء والتي تعد ضرورية حتى تتمكن من ممارسة اختصاصاتها ووظائفها بفاعلية وبمعزل عن أي تأثير قد يصدر من الدول على إرادتها المستقلة، بحيث تتمتع المنظمة الدولية بالحصانة القضائية التي بموجبها يتم إعفاء المنظمة وموظفيها من الخضوع للقضاء المحلي والتشريعات الوطنية للدول، إضافة إلى حرمة المباني التي تمتلكها المنظمة الدولية، ووجوب معاملة رسائل المنظمات الدولية معاملة مشابهة لرسائل البعثات الدبلوماسية بما يعنيه ذلك من عدم فرض أية رقابة عليها.
كما لا تقتصر آثار تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية على تلك الحقوق والامتيازات، بل تشمل أيضا خضوعها للمسؤولية القانونية طبقا لذات القواعد التي يقررها القانون الدولي العام بشأن مسؤولية الدول ما لم يوجد اتفاق مناقض لذلك. وقد تكون هذه المسؤولية تعاقدية نتيجة لإخلال المنظمة بشروط العقد المبرم بينها وبين غيرها من الشخصيات القانونية، كما يمكن أن تكون هذه المسؤولية تقصيرية في حالة ضرر سببته المنظمة عن طريق الخطأ، ويغلب على التطبيق العملي الإقرار بمسؤولية المنظمة في حالة ضرر منسوب إليها حتى وإن لم يكن راجعا إلى خطأ محدد وهو ما يسمى بنظرية المخاطر.