Topic outline

  • البنيوية الأمريكية (الوصفية الأمريكية/ السلوكية/ التوزيعية) 1

    ارتبطت الدراسات اللسانية الأمريكية في بدايتها بالأنثروبولوجيا، حيث نشأت البنيوية الأمريكية (الوصفية) في أمريكا في غمرة الدراسات الحقلية للغات الهندية الأمريكية، إذ اهتم علماء اللغة بهذه العينات اللسانية الخام، فحاولوا وصفها وتبين خصائصها، وقد كان فرانز بواس Franz Boas(1858م- 1942م) صاحب فضل السبق والتأسيس لهذا المنهج الجديد، حيث قام بدراسة وصفية لعدد من اللغات الهندية الأمريكية وجمعها في كتاب (دليل اللغات الهندية الأمريكية) سنة 1911م، وكان لأعماله عميق الأثر في توجه الكثير من تلامذته. وقد توسع الاهتمام إلى اللغات الأمريكية الوسطى والجنوبية حيث أنجزت الكثير من رسائل الدكتوراه حول هذه اللغات الأصلية... وقد برز من بين تلاميذ بواس: إدوارد سابير Edward Sapir (1884م- 1939م) وليونارد بلومفيلد Leonard Bloomfield (1887م- 1949م).

    ولئن كان سابير-كأستاذه بواس- ميالا إلى التأكيد على الصلة القائمة بين بنية اللغة وطابع الحياة الإنسانية بما تتضمنه من جوانب نفسية واجتماعية معتبرا إياها جزءا من الثقافة الإنسانية وانعكاسا لها، إلا أن الفضل في تخليص الدرس اللغوي من الأنثروبولوجيا وإقامته على أسس متينة فرض من خلالها نفسه بنفسه يعود إلى المهندس الفعلي للاتجاه التوزيعي ليونارد بلومفيلد الذي يعتبر في أمريكا بمثابة دي سوسير في أوربا، حيث دفعه تأثره بالتيار الوضعي وعلم النفس السلوكي ( Behaviorisme) إلى مراجعة كتابه الصادر سنة 1914 (مقدمة في علم اللسان) حتى يتوافق مع تلك النظرة الآلية السلوكية التي تبناها في مرحلة لاحقة، فطرح بذلك كتابه (اللغة) الذي يساوي أو يفوق في القيمة كتاب دي سوسير حتى عده لسانيو أمريكا (إنجيل اللسانيات)

    إن اللغة عند بلومفيلد نوع من أنواع الاستجابة الآلية لمثير معين، فهي ليست سوى شكل من أشكال السلوك المرئي، وقد بسط هذا المفهوم من خلال قصة (جاك وجيل) " حيث كانا يسيران فإذا بجيل ترى تفاحة، وبدافع الجوع تقوم بإحداث صوت بحنجرتها ولسانها وشفتيها، فيقوم جاك بإحضار التفاحة ووضعها في يدها لتأكلها." فالجوع بمثابة مثير أو منبه، والصوت الذي أحدثته جيل (أي الكلام) بمثابة استجابة لذلك المثير، ويقوم في الوقت نفسه مقام المنبه بالنسبة إلى جاك الذي يستجيب له بإحضار التفاحة. فهو بهذا يعد التواصل اللغوي نوعا من الاستجابات لمثيرات تقدمها البيئة أو المحيط ومن ثم فإن اللغة لا تعدو عنده، وعند السلوكيين بصفة عامة، أن تكون عادات صوتية يكيفها حافز البيئة.

    إن اختصار بلومفيلد لمكونات العملية الكلامية في: الحدث السابق لعملية الكلام، والكلام، والحدث الذي يلي الكلام، جعله يلغي المفهوم الذهني للسلوك اللغوي، وقد انعكس ذلك على منهجه في التعامل مع البنية اللغوية فكان منهجا ميكانيكيا آليا يصر من خلاله على تحليل كل من الأنظمة الثلاثة الظاهرة للغة: النظام الصوتي، والنظام الصرفي، والنظام النحوي، كلٌ على حدة بمعزل عن النظام الآخر، مصرا في الوقت نفسه على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، ليس لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذا الاتجاه بأن المعنى لا يمكن إخضاعه لنوع الدراسة الوصفية العلمية الدقيقة التي يمكن أن تخضع لها الأنظمة الظاهرة الأخرى – الصوتي، الصرفي، التركيبي- حيث تحلل الجمل إلى مجموعة من المؤلفات المباشرة وصولا إلى المؤلفات النهائية ثم الفونيمات، وذلك من خلال استعراض المكونات اللغوية الجزئية للبنية، أو وحداتها التمييزية، وقد عرف ذلك التحليل بالاعتماد على المؤلِفات المباشرة – كما سنرى- تطورا ملموسا بعد أن اعتمده اللسانيون المتأثرون بالمنهج البلومفيلدي أمثال زليج هارِيس Zelig Haris، وشارل هوكيت Charles Hockett، وبرنارد بلوك  Bernard Bloch، إلى جانب بيك Kanneth Lee Pike  صاحب تسمية الطاقميمية.

    مراجع لتعميق الفهم:

    النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية/ ماري آن بافو- جورج إلياس رفاتي . تر: محمد الراضي

    أضواء على الدراسات اللسانية المعاصرة/ نايف خرما

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – المبحث التركيبي في الدراسة اللسانية الحديثة بين كتاب القواعد للسنة السابعة أساسي، وكتاب اللغة العربية للسنة الأولى من التعليم المتوسط- رسالة ماجستير /عبد السلام قدادرة –

     – مدخل إلى علم اللغة / محمود فهمي حجازي

    – مبادئ اللسانيات/ أحمد محمد قدور

     – اللسانيات، منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية / حنيفي بن ناصر، مختار لزعر

    – موجز تاريخ علم اللغة في الغرب/  روبنز

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – علم الدلالة / أحمد مختار عمر


  • البنيوية الأمريكية (الوصفية الأمريكية/ السلوكية/ التوزيعية) 2

    التركيب من منظور توزيعي:

    التوزيع منهج لتحليل الجانب اللغوي اتخذته مدرسة بلومفيلد فعُرفت به، فبعد أن استوحى الرجل معطيات علم النفس السلوكي قام بإسقاطها على المنهج الوصفي قاصدا بذلك توزيع الوحدات اللغوية المرئية وفق طريقة استبدال وحدة لغوية بوحدة أخرى من أجل تعيين القسم الذي تنتسب إليه من أقسام الحدث الكلامي، والمقصود من ذلك الإشارة إلى موقع العنصر اللساني بالنسبة إلى العناصر المحيطة

       فلهؤلاء البنيويين أو الوصفيين الأمريكيين الممثِّلين للمدرسة التوزيعية، وعلى رأسهم ليونارد بلومفيلد Leonard Bloomfield، منهجٌ خاص –كما أسلفنا- في التعامل مع البنية اللغوية مُمثَّلةَ في العناصر القابلة للملاحظة ضمن الحدث الكلامي المنجَز بالفعل، وقد عُرف ذلك المنهج التوزيعي بميله إلى تحليل الجمل تحليلا شكليا مقتصرا على وصفها والوقوف على توزيع مكوناتها في حدود ما يسمونه بالمؤلفات المباشرة و المؤلفات غير المباشرة أو النهائية، وهي حدود الوصف التي يقف عندها المحلل اللساني غيرَ متجاوزٍ لها، حتى عرفت تلك النظرية البلومفيلدية باسم نظرية المكونات أو المؤلِفات المباشرة.

    المؤلفات المباشرة Constituants immédiats: ليست الجملة مجرد رصف للوحدات الدالة، وإنما يحدث داخلها اتحادات أو تكتلات بين بعض الوحدات في شكل مجموعات متدرجة أهمها المركب الاسمي و المركب الفعلي باعتبارهما مجموعتين قابلتين للتقسيم كقابلية الجذع أو الغصن الكبير إلى التفرّع، ولذلك " تعد فكرة المكونات المباشرة بداية تفكير جديد في التحليل النحوي، لقد ثبت أن تتابع الكلمات في الجملة يقوم على علاقات محددة في داخلها، ونقرب هنا فكرة بلومفيلد بمثال عربي هو: الرياضي القوي انطلق سريعا. يمكن تقسيم الجملة السابقة إلى أربعة مكونات نهائية أو صغرى، وكل مكون هو كلمة واحدة. ولكنا نجد كلمتين الأولى والثانية: الرياضي القوي، تكونان معا مكونا واحدا، وهو تركيب من موصوف وصفة، ونجد الكلمتين الثالثة والرابعة تكونان مكونا ثانيا، وهو تركيب من الفعل والمفعول المطلق المبين للنوع." ولذلك يهدف هذا التحليل وفق المؤلفات المباشرة إلى   " إبراز أن الجملة لا تُختزل في التسلسل الخطي للمفردات، بقدر ما تتميز كذلك بتراتب العلاقات" ولذلك فإن تحديد المؤلفات المباشرة شبيه في النحو التقليدي للغة العربية بإعراب الجمل وأشباه الجمل، وهو وصف أو إعراب لابد منه.

    المؤلفات غير المباشرة أو النهائيةConstituants terminaux : هي الوحدات التمييزية الصغرى (مورفيم) الخاضعة للمؤلفات المباشرة، وهي آخر ما يصل إليه المحلِّلُ من وحداتٍ دالةٍ مُسهمةٍ في بناء الجملة. فإذا كانت المؤلفات المباشرة شبيهة في النحو التقليدي للغة العربية بإعراب الجمل وأشباهها، فإن المؤلفات غير المباشرة شبيهة في ذلك النحو التقليدي بإعراب المفردات.

    وباعتبار الجملة الوحدةَ الرئيسة في تحليل المستوى التركيبي، فإن طريقة التوزيعيين في تحليلها تقتضي المرور بمرحلتين:

    أ- التقطيع أو التقسيم: وهي العملية التي نتحصل من خلالها على المؤلفات المباشرة والمؤلفات غير المباشرة أو النهائية، وهي عملية شبيهةٌ بالتقطيع المزدوج لدى مارتيني من حيث انطلاقه من المستوى التركيبي نزولا نحو المستوى الصرفي، غير أنها تختلف عنه في درجات النزول، فإذا كان المستويان (التركيبي والصرفي) مفصولين بدرجة واحدة عند مارتيني، فإن بين المستوى التركيبي ممثَّلا في الجملة، وبين المستوى الصرفي ممثَّلا في المؤلفات غير المباشرة درجاتٌ تحتلها المؤلفاتُ المباشرة باعتبارها منزلةً بين المنزلتين(الجملة والمؤلفات غير المباشرة)، هذا فضلا عن اختلاف التحليلين المارتيني الوظيفي والبلومفيلدي التوزيعي في المصطلحات، ولهذا فإن " تحليل الجملة على الطريقة التوزيعية ينطلق من تجزئة الجملة إلى مكوناتها الموالية، ثم التدرج في تجزئة هذه المكونات إلى أجزاء أصغر حتى الوصول إلى أجزاء غير قابلة للتجزئة، وينتهي إلى ضبط الأقسام التوزيعية لهذه الأجزاء الصغرى، فهو تحليل هيكلي تصنيفي يعمد إلى رسم هيكل تفصيلي للتركيب اللغوي انطلاقا من مؤلفاته الكبرى إلى مؤلفاته الصغرى.

    وتقسم الجملة العربية التالية (الرجل الكريم يساعد المحتاجين) وفق ما يسمى بصندوق هوكيت Ch. Hockette كما يلي:

     

    ال

    (أداة تعريف)

    رجل

    (اسم موصوف)

    ال

    (أداة تعريف)

    كريم

    (اسم صفة)

    يساعد

    (فعل)

    ال

    (أداة تعريف)

    محتاج

    (اسم)

    ين

    (علامة جمع وإعراب)

    الرجل

    (مجموعة اسمية)

    الكريم

    (مجموعة اسمية)

    يساعد

    (فعل)

    المحتاجين

    (مجموعة اسمية)

    الرجل الكريم

     (ركن اسمي)

    يساعد المحتاجين

    (ركن فعلي)

    الرجل الكريم يساعد المحتاجين (الجملة)

    فكل ما أمكن تقسيمه فهو معدود ضمن المكونات المباشرة، وهي وفق هذا التدرج: الرجل الكريم/ يساعد المحتاجين/  الرجل/ الكريم/ المحتاجين.

    وكل ما توقف عنده التقسيم فهو معدود ضمن المكونات النهائية (مورفيم)، وهي وفق هذا الترتيب: ال/ رجل/ ال/ كريم/ يساعد/ ال/ محتاج/ ين.

    ب- التوزيع La distribution: إن الهدف من ذلك التقسيم إلى مكونات مباشرة ومكونات نهائية هو معرفة القسم التوزيعي الذي تحتله الوحدة أو القطعة و" الإشارة إلى موقع العنصر اللساني بالنسبة إلى العناصر المحيطة... ويكون بهذا دور المتكلم مجسدا في انتقاء مصطلحاته في المواقع المناسبة واختيار وحداته في التركيب المناسب له والمحقق لمحتوى كلامه."، ومن ثم فإن الوحدات الممثلة للقسم التوزيعي نفسه هي جميع الوحدات والقطع القابلة للتعويض والاستبدال في موقع ما من الجملة، كموقع الفاعلية أو المفعولية أو الابتداء أو الصفة أو المضاف إليه... سواء تعلق الأمر بالوحدات الممثلة للمكونات المباشرة أو بالوحدات الممثلة للمكونات النهائية. فالوحدة (أنت) الممثلة للمبتدأ والمحتلة للرتبة الأولى ضمن توزيع عناصر الجملة التالية (أنت طالبٌ جادٌّ) يمكن تعويضها بكثير من الوحدات المشتركة معها في القسم التوزيعي، مثل:(أنا، هو، هذا، ذلك، محمد، خالد، سيبويه، مايكل... )، والركن الفعلي في جملة (الرجل الكريم يساعد المحتاجين) يمكن استبداله بكثير من الأركانِ الفعليةِ الشبيهةِ به من حيث الشكل، والمحتلةِ للقسم التوزيعي نفسه، مثل:(الرجل الكريم يعاون البائسين/ الرجل الكريم يساند المظلومين/ الرجل الكريم ينصر المضطهدين/ الرجل الكريم يواسي المقهورين...) فكلّها- بغض النظر عن المعنى- أركان فعلية مكونة من فعل مضارع + مفعول به معرف بالألف واللام، دال على جمع المذكر السالم.

    مراجع لتعميق الفهم:

    النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية/ ماري آن بافو- جورج إلياس رفاتي . تر: محمد الراضي

    أضواء على الدراسات اللسانية المعاصرة/ نايف خرما

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – المبحث التركيبي في الدراسة اللسانية الحديثة بين كتاب القواعد للسنة السابعة أساسي، وكتاب اللغة العربية للسنة الأولى من التعليم المتوسط- رسالة ماجستير /عبد السلام قدادرة –

     – مدخل إلى علم اللغة / محمود فهمي حجازي

    – مبادئ اللسانيات/ أحمد محمد قدور

     – اللسانيات، منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية / حنيفي بن ناصر، مختار لزعر

    – موجز تاريخ علم اللغة في الغرب/  روبنز

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – علم الدلالة / أحمد مختار عمر


  • البنيوية الأمريكية (الوصفية الأمريكية/ السلوكية/ التوزيعية) 3

    إقصاء المعنى عند بلومفيلد:

    ينبغي ألا يُفهم من الإقصاء عدمُ اعتراف بلومفيلد بالمعنى، لأن ذلك ضرب من الجنون، وإنما يتعلق ذلك بما عُرف عن التوزيعيين من رفضهم البحثَ عن موجودات مفترضة تختفي وراء عناصر الجملة وتعد أسبابا لها، لأن كل شيء في الوصف اللساني –حسب التوزيعيين- يجري على السطح المنطوق أو المكتوب، وكل محاولة تسعى إلى البحث عن أشياء خلف السطح هي وهم منهجي عقيم، ولهذا يصر التوزيعيون على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، لا لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذا الاتجاه بأن المعنى –لطبيعته المجردة- لا يمكن إخضاعه للدراسة الوصفية الدقيقة.

       فبلومفيلد- ولكونه لا يؤمن إلا بما يمكن ملاحظته علانية- قد خالف النظرية التصورية المركزة على الفكرة أو التصور، وشكك في كل المصطلحات الذهنية كالعقل والتصور والفكرة... كما لم يركز إلا على الأحداث الممكن ملاحظتها وتسجيلها، وعلى علاقتها بالموقف الذي يتم إنتاجها فيه، ولذلك اعترف بلومفيلد بأن دراسة المعنى –نظرا لطبيعته المجردة- تعد أضعف حلقة في الدراسة اللغوية، إذ " لا يمكن أن يطمع للوصول بأي حالة للدقة العلمية المتاحة للتحليل الشكلي للمادة اللغوية كما تلاحظ وتسجل، وأن أي تحليل للمعاني يتطلب معرفة واسعة من خارج علم اللغة نفسه، وأن المعاني الصحيحة أو المفترضة لا يمكن أن تستعمل بشكل صحيح بوصفها معايير في الخطوات التحليلية لهذه الأسباب فقط، ولصعوبة الوصول للدقة فإن التحليل يخفق، وبذلك تخفق المعايير، ومن السهل أن نجد أمثلة على ذلك: فالسؤال عما إذا كان (غروب الشمس) شيئا أو حالة أو عملية في الزمان، سؤال يمكن الجدال حوله بلا نهاية، وكذلك وضع (حقل الحبوب) بوصفه فرديا أو جمعيا هو وضع غير محدد".

        أما عن مفهوم المعنى فهو عند بلومفيلد محصلة الموقف الذي يحدث فيه الكلام المعين من خلال عنصرين أساسيين هما: المثير والاستجابة، باعتبارهما عنصرين قابلين للملاحظة في المنطوقات، ولذلك عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه (الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه، والاستجابة التي تستدعيها من السامع)، فعن طريق نطق صيغة لغوية يحثّ المتكلم سامعه على الاستجابة لموقف، هذا الموقف وتلك الاستجابة هما المعنى اللغوي للصيغة."

        إن هذه النظرية السلوكية الآلية المشبهة للسلوك اللغوي للإنسان بسلوك الحيوان من حيث الخضوع لمبدأ المثير والاستجابة قد تجاهلت تميّز الإنسان عن باقي الحيوانات بالعقل الذي يعد ملكة مبدعة لا توجد في غير جنس البشر، كما تجاهلت الجانب الخلاق في اللغة وهو الجانب الذي أكد عليه كثير من اللسانيين والفلاسفة العقلانيين أمثال ديكارت وهمبولت، وعوّل عليه تشومسكي في نقد التوجه السلوكي وتقويض أركانه.

     

    مراجع لتعميق الفهم:

    النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية/ ماري آن بافو- جورج إلياس رفاتي . تر: محمد الراضي

    أضواء على الدراسات اللسانية المعاصرة/ نايف خرما

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – المبحث التركيبي في الدراسة اللسانية الحديثة بين كتاب القواعد للسنة السابعة أساسي، وكتاب اللغة العربية للسنة الأولى من التعليم المتوسط- رسالة ماجستير /عبد السلام قدادرة –

     – مدخل إلى علم اللغة / محمود فهمي حجازي

    – مبادئ اللسانيات/ أحمد محمد قدور

     – اللسانيات، منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية / حنيفي بن ناصر، مختار لزعر

    – موجز تاريخ علم اللغة في الغرب/  روبنز

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – علم الدلالة / أحمد مختار عمر


  • نظرية تشومسكي التحويلية التوليدية 1

       لقد أضحى النمط التوزيعي يسعى إلى وصف البنية التركيبية للغات من أجل ضبط الأشكال اللسانية في أي لغة من اللغات، وتصنيفها، ووصل هذا التحليل إلى ذروته مع هارس(تلميذ بلومفيلد) الذي أثر كثيرا في تلميذه تشومسكي. هذا الأخير الذي وجه نقدا لاذعا للمدرسة السابقة.

        وقد قام هذا الاتجاه، التحويلي التوليدي، على أنقاض الاتجاه التوزيعي القائم أساسا على توزيع العناصر اللغوية التي ترد داخل السياقات التركيبية، على أنّ هذه الأخيرة تعد عملية وصفية تتم فقط على المستوى السطحي من البنية اللغوية دون مجاوزتها إلى البنية العميقة، الأمر الذي يفسر بوضوح تأثر تشومسكي بآراء المدرسة العقلانية التي سادت خلال القرن التاسع عشر والتي كان ديكارت من أشهر أعلامها، ومن ثم نظر تشومسكي إلى اللغة من الداخل، أي مقدرة ابن اللغة على استعمال وفهم لغته، خلافا للتوزيعيين الذين نظروا، إخلاصا منهم لمبادئهم، إلى اللغة من الخارج كما تفعل العلوم الطبيعية، ولذلك كانت آراء التوليدية التحويلية عن طبيعة اللغة عميقة للغاية ومناقضة للسطحية التي تميزت بها آراء سابقة.

       وأوّل هجوم قام به تشومسكي على المذهب السلوكي ذهابه منذ البدء إلى أن المصطلحات العلمية الفخمة والإحصاءات المؤثرة التي يكسو بها السلوكيون دراستهم ماهي إلا لون من ألوان الخداع والتمويه، يخفون به عجزهم عن تفسير الحقيقة البسيطة التى تقول: إن اللغة ليست نمطا من العادات، وإنها تختلف جوهريا عن طرق الاتصال عند الحيوان.

       كما عارض النظرية التوزيعية على أساس أن التحليل اللغوي لا ينبغي أن يكون وصفا لما قد قاله المتكلمون، وإنّما شرح وتعليل للعمليات الذهنية التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتكلم بجمل جديدة، وبهذا نجده ينتقل من النزعة التجريبية المعتمدة على المنهج السلوكي، كونه تبنى في بدايته أفكار أستاذه هارس، إلى النزعة الذهنية القائمة على تعليل وتفسير الحدث الكلامي والقدرة الضمنية التي تُظهر هذه الأشكال، فابتعد بذلك عن أفكار أستاذه هارس. ولكنّ هذا لم يمنعه من إهمال الدلالة والعزوف عنها كما فعل السلوكيون، ثم يعود ليستقل عن أفكارهم في كتابه (البنى النحوية) ملحا على ما أسماه ب (القدرة الخلاقة للغة الإنسانية) جاعلا من نظريته التوليدية نظرية تعكس قدرة الإنسان واستعداده الفطري على إنتاج وفهم جمل لم تقل ولم تسمع من قبل، فأراد بذلك تجاوز الوصف البنيوي والإجابة على جملة من التساؤلات أهمها:

    كيف يمكن للمتكلم أن يخرج هذه السلسلة من الأصوات؟ كيف يخرجها من الناحية الفيزيولوجية؟ ماهي القدرة التي تمكّنه من إخراج اللفظ الدال؟

       قد ألح تشومسكي منذ البدء على القدرة الإبداعية للغة الإنسانية، فكل المتكلمين بلغة ما قادرون على التحكم في إنتاج جمل وفهمها دون سماعهم بها من قبل، ولذلك جاء بنظرية النحو التوليدي، وهو عنده ( نظام من القواعد التي تقدم وصفا تركيبيا للجمل بطريقة واضحة، وأكثر تحديدا... وكل متكلم تكلم لغة، يكون قد استعملها واستبطن نحوا توليديا، وهذا لا يعني أنه على وعي بالقواعد الباطنية التي يكون قد استعملها أو سيكون على وعي بها... إن النحو التوليدي يهتم بما يعرفه المتكلم فعلا، وليس بما يمكنه أن يعرفه ) فهو تلك المعرفة اللاواعية بالنظام التركيبي، الدلالي والفونولوجي لأية لغة، والذي يسمح للمتكلم بإنتاج عدد غير محدود من الجمل الصحيحة نحويا ودلاليا بفضل الطاقة الترددية لقواعدها.

    مبادئ النحو التحويلي التوليدي:

    1/ الكفاية والأداء(الملكة والتأدية): يرى تشومسكي أن للغة وجهين، أحدهما ذهني خالص سماه الكفاية( الملكة LA COMPETENCE) والآخر عملي منطوق مسموع سماه الأداء (LA PERFORMANCE )

       أ/ الكفاية أو الملكة: وهي القدرة على بناء أنموذج لغوي ذهني مشترك بين المرسل والمستقبل، سداه الصوت، ولحمته الدلالة، وعلى أساسه تتمثل القواعد اللغوية، فهي لا تتعدى كونها المعرفة اللاواعية والضمنية بقواعد اللغة التي يكتسبها المتكلم منذ طفولته، وتبقى راسخة في ذهنه، فتمكنه فيما بعد من إنتاج العدد غير المحدود من الجمل الجديدة التي لما يسمعها من قبل، إنتاجا ابتكاريا لا مجرد تقليد ساكن، ثم التمييز بين ما هو سليم نحويا وبين غيره.

    وتتضمن الكفاية مهارات ذهنية متعددة من أهمها: التصور، ثم التنظيم الذي يجعل كلامنا منظما، ثم التتابع الذي يجعل المهارات الذهنية قادرة على البقاء والاستمرار، ثم الاستدعاء الذي يجعل اللغة مطواعا للحضور في المواقف الحياتية، ثم الاختيار الذي يجعلنا قادرين على انتقاء التعبير المناسب لكل موقف، ثم التقويم الذي يجعلنا نحكم على سلامة لغتنا أو خطئها.

       ب/ الأداء: إن تلك الملكة تتجسد في الواقع اللساني المادي من خلال المظهر الكلامي المعروف بالتأدية، وإذا كانت الملكة _كما عرفنا _ هي معرفة المتكلم السامع للغته، فإن أدق وصف للتأدية هو ذلك الوصف الذي يجعل اللغة واقعا حيا في المنطوق والمسموع، بحيث يتحد الأداء الصوتي مع المضمون الدلالي، وبذلك يكون الأداء هو الصورة الواعية التي تمثل الصورة المعقولة من اللغة، أو هو (الاستعمال الفعال للغة في مواقف مادية وواضحة... وإن نحو أية لغة يفترض أن يكون وصفا للملكة الذاتية الأصلية للمتكلم السامع المثالي).

    وإذا كانت الأولى( الكفاية) معرفةً بقواعد اللغة، فإن الثانية(الأداء) هي الانعكاس المباشر لها، لكن ذلك الانعكاس ذو طابع فردي يتمايز من شخص للآخر بحسب العوامل الخارجية كضعف الذاكرة، والتعب، والخوف، ودرجة الاهتمام بالموضوع... أما الملكة فعامة ومشتركة بين أبناء المجتمع اللغوي الواحد المتجانس ما داموا جميعا يملكون المعرفة نفسها بنظام اللغة.

    وفي الأخير يمكن القول بأن الملكة تظل الخاصية التي تميز الإنسان عن كافة المخلوقات، وتسقط عنه صفة الآلية والحيوانية المجردة من التفكير المبدع، وتيسر له الاستعمال النهائي للتعبير عن اللانهائي من الجمل وفهمها.


  • نظرية تشومسكي التحويلية التوليدية 2

    2/ التحويل والتوليد: تقوم هذه النظرية على اعتبار مبدأين كبيرين لهما وجود في اللغات الإنسانية كافة هما التوليد(GENERATION) والتحويل(TRANSFORMATION) وبهما سميت هذه النظرية.

    أ/ التوليد: هو القدرة على الإنتاج غير المحدود للجمل انطلاقا من العدد المحصور من القواعد، في كل لغة، وفهمها ثم تمييزها عما هو غير سليم نحويا، فهو ليس الإنتاج المادي للجمل، بل القدرة على التمييز بين ما هو نحوي وغيره وطرد الثاني من مجاله اللساني، وهذا بفضل القدرة الذاتية لقواعد اللغة. ويمكن فهم التوليد بكونه انبثاق تركيب أو مجموعة من التراكيب من جملة هي الأصل وتسمى الجملة الأصل بالجملة التوليديةgenerative sentence. وأهم وصف للجملة التوليدية أنها الجملة التي تؤدي معنى مفيدا، مع كونها أقلّ عدد من الكلمات، ومع كونّها أيضا خالية من كل ضروب التحويل فجملة {جاء خالد} جملة توليدية، وأما جملة {خالد جاء} فليست توليدية، فكونها أقل عدد من الكلمات لم يجعلها توليدية لأنّ فيها تقديما وتأخيرا، وهما من وجوه التحويل. هذا إذا اعتبرنا أنّ فيها تقديما وتأخيرا، أما إذا اعتبرناها جملة اسمية لم تكن توليدية كذلك لأنّها ليست أقل عدد من الكلمات فهي جملة مركبة من جملتين: جملة المبتدأ والخبر، والجملة الفعلية.

    ب/ التحويل: أما التحويل فعلاقة تربط بين البنية العميقة والبنية السطحية، أي بين التركيب الباطني للجملة وتركيبها الظاهري، فهو عملية نحوية تجري بين البنيتين، وقد نادى به هارس harris من قبل أن يدرسه تلميذه تشومسكي على نحو مفصل، فحسب هارس، يجري التحويل باشتقاق جملة أو مجموعة من الجمل من جملة تسمى الجملة النواة ف { فهم زيد الدرس} جملة نواة، وهي مثبتة، مبنية للمعلوم، وجملة { فُهِمَ الدرس} جملة محولة مبني فعلها للمجهول، وقد حدث التحويل على النحو التالي:

    1/ الفعل+ مورفيم البناء المعلوم+ اسم+ اسم{ فهم زيد الدرس}.

    2/الفعل+ مورفيم البناء المجهول+ اسم { فُهِم الدرس}.

    وملخص مبدأ التحويل عند تشومسكي، أنّ أهل اللغة قادرون على تحويل الجملة الواحدة إلى عدد كبير من الجمل، فإذا أخذنا جملة { عزفت الفرقة الموسيقية لحن الرجوع الأخير} وأجرينا عليها تحويلات انتهينا إلى اشتقاق جمل كثيرة:

    _ عُزِفَتْ الموسيقى لحن الرجوع الأخير{ بالبناء للمجهول}

    _ عُزف لحن الرجوع الأخير { بالبناء للمجهول و الحذف}

    _ الفرقة الموسيقية عزفت لحن الرجوع الأخير{ بالتقديم و التأخير}

    _ الفرقة عزفت لحن الرجوع الأخير {بالتقديم و التأخير و الحذف}

    و قد تتحول الجملة الخبرية { افتتحت الندوة أعمالها} إلى استفهامية كثيرة الأنماط:

    _ هل افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصديقي}

    _متى افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، الزمان}

    _ أين افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، المكان}

    _ كيف افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، الهيئة}

    _ لماذا افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، السبب}

    _ من افتتح أعمال الندوة؟ { استفهام تصوري، الذات}

    ويصبح التحويل بابا مفتوحا على مصراعيه للنّفي، والتأكيد، والبناء للمجهول، والعطف، والزيادة، والحذف، والتقديم والتأخير وغير ذلك...

    3/ البنية العميقة والبنية السطحية: هذه الثنائية من أجل فهم دلالة الجملة.

    أ/ البنية العميقة: هي التركيب الباطني المجرد الموجود في ذهن المتكلم وجودا فطريا، وهي أول مرحلة من عملية الإنتاج الدلالي للجملة، إنها التركيب المستتر الذي يحمل عناصر التفسير الدلالي.

    ب/ البنية السطحية: أما البنية السطحية فتتمثل في التركيب التسلسلي السطحي للوحدات الكلامية المادية، المنطوقة أو المكتوبة، إنها التفسير الصوتي للجملة.

    ومن ثم فكل جملة في إطار النحو التحويلي التوليدي تضم بنيتين عميقة وأخرى سطحية، ويقوم المكون التحويلي بالربط بينهما، كما يتم تحديد هاتين البنيتين على مرحلتين هما:

       أولا: استخراج أو تحديد البنية العميقة التي تعد أول عنصر ناتج عن عملية اشتقاق الجملة، وهي تضم كافة المعطيات الدلالية، كما أنها عالمية.

       ثانيا: تحديد البنية السطحية وهي آخر مرحلة من العملية الاشتقاقية، وتعد المظهر الخارجي للجملة الناتج عن العملية التحويلية التي تحول البنية العميقة إلى شكلها المنطوق الفيزيائي{ ب، س}

       وإن التمثيل الذهني المجرد { البنية العميقة} ظاهرة مشتركة بين جميع البشر في جميع اللغات الإنسانية لكونه انعكاسا مباشرا للتفكير، ولذلك فهو عالمي. أما البنية السطحية فمختلفة بين الأشخاص، متباينة بتباين اللغات لأنها التمثيل الصوتي للكلام المجاري للتنظيم الخاص بكل لغة.

    _ ينشأ سؤال محّير عند بعض الدارسين عن العلاقة بين التوليد والبنية العميقة deep structure من جانب، والتحويل والبنية السطحية surface structure من جانب آخر، وحتى نستجلي هذه العلاقة لابد أن نقف على حقيقة كل واحدة من البنيتين، أما البنية العميقة فلها صورتان في التحقق الذهني:

    _ أولهما: أن يكون لها تحقق مادي موجود في الاستعمالات اللغوية الجارية على ألسنة أبناء اللغة، كما هو الحال في أقل عدد من الكلمات يكون جملة مثبتة مثل: ( الطقس معتدل) وتكون هذه الجملة:

    أ/_ توليدية باعتبارها أساسا لكل ما يشتق منها.

    ب/_ بنية عميقة.

    وفي الحالتين لابد أن تتوفر فيها صفات أربع(saad)

    _ أن تكون جملة بسيطة simple غير مركبة، وإلا لم تكن بنية عميقة مثل: { الكتاب موضوعه مفيد} فهذه ليست جملة بسيطة.

    _ أن تكون مبنية للمعلوم active لا مبنية للمجهول.

    _ أن تكون مثبتةaffirmative لا منفية.

    _ أن تكون تقريرية déterminâte لا إنشائية.

    _ ثانيهما: ألا يكون للبنية العميقة تحقق منطوق، ففي مثل قولك: { المصنع قريب} تعني ما يأتي: مصنع+ تعريف+ وصف إخباري" قريب"، هذا هو المعنى الحقيقي لهذه الجملة، ولكنك لا تنطق ذلك، بل تحققه بشيء آخر فتقول: المصنع قريب، وعلى ذلك تكون الجملة المنطوقة " المصنع قريب" هي البنية السطحية بهذا الاعتبار فقط و لكنها مع ذلك جملة توليدية لا تحويلية.

    وكذلك عند قولنا:{ هذا مرفوض} فالمعنى هو:

    شيء ما+ أشير إليه + وصف إخباري (مرفوض) وتكون هذه هي البنية العميقة، وأما جملة (هذا مرفوض) المنطوقة فبنية سطحية بهذا الاعتبار، وعلى الرغم من ذلك فهي جملة توليدية لا تحويلية ( saad)

    وهكذا تكون العلاقة بين التوليد والبنية العميقة مضطربة بعض الشيء وكذلك العلاقة بينهما وبين التحويل و البنية السطحية، وقد دفع هذا الاضطراب تشومسكي إلى عدم التركيز على البنية العميقة في المراحل اللاحقة من مراحل بناء النظرية.

    مراجع لتعميق الفهم:

    – اللسانيات، المجال والوظيفة والمنهج. د/ سمير استيتية

    النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية/ ماري آن بافو- جورج إلياس رفاتي . تر: محمد الراضي

    أضواء على الدراسات اللسانية المعاصرة/ نايف خرما

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – مبادئ اللسانيات/ أحمد محمد قدور

     – اللسانيات، منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية / حنيفي بن ناصر، مختار لزعر

    – موجز تاريخ علم اللغة في الغرب/  روبنز

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن


  • نظرية تشومسكي التحويلية التوليدية 3

    الإبداعية: إن الإبداعية استعمال لنظام اللغة استعمالا ابتكاريا تجدديا، لا مجرد تقليد سلبي لقواعده... فكل لغة تتكون من مجموعة من الأصوات، ومع ذلك فهي تنتج أو تولد جملا لا نهاية لها... فإذا كان الأمر كذلك فإن اللغة خلاقة creative بطبيعتها، أي إن كل متكلم يستطيع أن ينطق جملا لم يسبق أن نطقها أحد من قبل، ويستطيع أن يفهم جملا لم يسبق له أن سمعها من قبل، وعليه فالتوليد عملية إبداعية تميز الإنسان، أبله كان أو ذكيا عن بقية المخلوقات الحيوانية، وتسقط عنه صفة الآلية.

    النحوية: إن الهدف الأساسي للنحو التوليدي التحويلي هو التمييز بين الجمل النحوية grammaticale البسيطة، وبين الجمل غير النحوية agrammaticale المنحرفة عن قواعد النظام اللغوي الضمني، والواجب إبعادها عنه « فالجملة تكون نحوية في لغة ما إذا كانت جيدة التركيب، وتكون غير نحوية إذا انحرفت بطريقة أو بأخرى عن المبادئ التي تحدد نحوية هذه اللغة»

    إن نظرية النحو التوليدي التحويلي لا يقتصر هدفها على مجرد التمييز بين ما هو نحوي وغيره، وطرد الأخير من مجالها، بل إنها تصبو إلى محاولة تصحيح غير النحوي انطلاقا من قواعد نظامها اللغوي، وهذه ميزة تضطلع بهت دون غيرها، وهذه القدرة على التمييز تسمى:

    الحدس: وهو جزء من معرفة الإنسان بقواعد اللغة، حيث اتجه تشومسكي إلى تحليل تراكيب اللغة وتفسيرها اعتمادا على حدس المتكلم ومعرفته الضمنية لقواعد لغته، إذ إنّ الحدس هو الذي يكشف إما عن الالتباس في بعض الجمل، وإما يبين التعادل القائم بينها، وقد كان الحدس اللغوي عنده شيئا ثانويا في مرحلته الأولى، ولكنّه أولى له أهمية كبرى في مرحلته الثانية رافضا بذلك تطبيق القوالب الجاهزة مسبقا على اللغات، معتقدا في نهاية المطاف أنّ مصدر المعلومات الملائمة في التحليل اللغوي هو الحكم النّابع من الحدس الذي يصدره الناطقون بتلك اللغة.

    ظاهرة الغموض: قد يكون للبناء الخارجي للجملة الواحدة معنيان متمايزان، والتركيب التالي « نقدُ تشومسكي» مثلا يدل على أنه نقَدَ أو انتُقد، فهذا الغموض في التركيب دفع تشومسكي إلى البحث عن البنية الأصلية للتركيب النووي لكل جملة منطوقة أو مكتوبة ليتسنى استيعاب معناها. إن هذين التركيبين، النووي المستتر، والخارجي الظاهر نطقا أو كتابة هما البنية العميقة والبنية السطحية في النحو التوليدي التحويلي.

    مراجع لتعميق الفهم:

    – اللسانيات، المجال والوظيفة والمنهج. د/ سمير استيتية

    النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية/ ماري آن بافو- جورج إلياس رفاتي . تر: محمد الراضي

    أضواء على الدراسات اللسانية المعاصرة/ نايف خرما

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    – مبادئ اللسانيات/ أحمد محمد قدور

     – اللسانيات، منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية / حنيفي بن ناصر، مختار لزعر

    – موجز تاريخ علم اللغة في الغرب/  روبنز

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن


  • النظرية الخليلية الحديثة التعريف: (عبد الرحمن الحاج صالح 1928م- 2017م) 1

    على الرغم من أن علم اللسانيات بنظرياته ومدارسه المتعددة علمٌ غربي التربة والمنشأ، إلا أن كثيرا من البيئات في العالم، شرقِه وغربِه، شمالِه وجنوبِه، قد تأثرت بتلك الحركة الفكرية في مجال البحث اللغوي، ولذلك، وفي ظل ذلك التنوع المعرفي والتباين في النظريات والتسابق بين المدارس، تتدافع كثيرٌ من الأسئلة التي تدور حول موضع العرب من البحث اللساني الحديث، ألهم إسهامات في هذا المجال؟ أيمكن تسمية تلك الإسهامات - إن كانت موجودة- لسانياتٍ عربيةً؟ وإن كان لها وجود، فمن هم روادها؟ وما هي أهم المرتكزات التي أقاموا عليها أبحاثهم؟

        للإجابة عن بعض تلك التساؤلات، لا بأس أن نسوق هنا نصا طويلا من كتاب(بحوث ودراسات في اللسانيات العربية) للدكتور عبد الرحمن الحاج صالح، يلخص فيه واقع البحث اللساني العربي الحديث، وموقعَ نظريته الخليلية، ذات النزعة الوسطية، من اللسانيات العربية، يقول فيه:" أما مكانة هذه النزعة من النزعات الأخرى في العالم العربي فهي تتوسط في اعتقادنا بين اتجاهين:

     اتجاه يتجاهل تماما أو إلى حد بعيد اللسانيات الحديثة ويعتمد أساسا على المفاهيم اللغوية التي تبلورت كما قلنا عند المتأخرين ويخلط أصحابه بين المفاهيم العربية الأصيلة ومفاهيم هؤلاء المتأخرين.

    واتجاه آخر يتجاهل تماما أو إلى حد ما التراث العربي أو يجعل -مثل الاتجاه الأول- كلَّ التراث واحدا، وبعض أصحابه على الرغم من معرفتهم لهذا التراث فإنهم مقتنعون اقتناعا تاما أنه قد تجاوزه الزمان، أو هو وجهة نظر لا يمكن أن تساوي وجهات نظر اللسانيات الغربية.

    ومع ذلك فهذا لا يمنع من أن يكون من بعض ذوي هذا الاتجاه أو ذاك علماءُ كبار تفتخر بهم الأمة العربية. أما الاتجاه الأول فقد برز الكثير ممن أدرك أغراض العلماء المبدعين (مع شيء من التعلق بمفاهيم المتأخرين) ويدل على ذلك تحقيقُهم المتقن للمخطوطات وتعليقاتهم عليها ونذكر منهم جماعة المحققين لكتاب سيبويه (طبعة بولاق)...

    وما يقال عن الاتجاه الأول يمكن أن يقال عن الثاني فقد برز فيه أيضا باحثون جد ممتازين، ومنهم من برع براعة في فهم المدارس الحديثة في اللسانيات، وربما استطاع البعض منهم أن يتجاوزوا مرحلة الاقتباس السلبي ولم يقع كلهم في حضيض التقليد، بل اجتهدوا وفضلهم كبير في تعريف اللسانيات لجمهور المثقفين. أما نزعاتهم ومشاربهم فهي في الغالب تابعة للمنابع العلمية التي استقوا منها معلوماتهم ومشايخِ اللسانيات الذين تتلمذوا عليهم في خارج العالم العربي. فقد كانت أقدم مدرسة انتهل منها المحدثون هي مدرسة فرث (Firth) الانكليزية بالأربعينيات والخمسينيات، وكانت نزعة وصفية في الغالب، وتندرج مع النزعة الأخرى (المعاصرة لها) في تلك الحركة الواسعة التي أثارها سوسور والأمير تروباتسكوي الروسي، وفي المدرسة البنوية (بشيء كبير من التكيّف هنا وهناك)... وقد وُجد بعد ذلك جيل من أهل المغرب تبنى هو أيضا مبادئ البنوية، وصاحب هذا المقال هو نفسه مع بعض الزملاء قد كان ممن ساهموا في التعريف لهذه المدرسة قديما دون انتماء إليها.

    ثم ظهرت المدرسة التوليدية الأمريكية، وانتبه إلى أهميتها أكثر من واحد من المثقفين العرب، واتخذها بعضهم وخاصة في المغرب العربي قاعدة لبحوثهم... وظهرت نظرية الحديث أو الخطاب في شتى العواصم الأوربية، وتتلمذ بعض الباحثين العرب على أساتذتها. كما ظهرت أيضا اللسانيات التطبيقية، وكان العالم الثالث أحوج ما يكون إلى هذه اللسانيات، نظرا إلى المشاكل الإنمائية العويصة التي يعانونها. وكانت مدرستنا الخليلية أكثر النزعات اهتماما بها، خصوصا بما ظهر في أيامنا من استعمال التكنولوجيا في البحوث اللغوية، ولاسيما التطبيقية منها. وهناك أعمال كبيرة تنجز الآن في البلدان العربية في هذا الميدان التطبيقي، كأعمال الأستاذ الأخضر غزال بالمملكة المغربية، وأعمال معهد العلوم اللسانية بالجزائر، وأعمال الباحثين في دولة الكويت وغيرها...

    إلا أن هناك بعض من يميل إلى التقليد للغربيين، ولاسيما أولئك الذين يتعصبون لمدرسة واحدة، وقد يتهجم بعضهم على النحاة العرب فيقارنون بين مفاهيمهم – دون أن يفهموها- وبين تصورات اللسانيات بل المدرسة الواحدة منها جاعلين هذه الأخيرة الأصلَ المسلَّمَ به، فإذا لم يجدوا عند العرب ما يوافق هذا الأصل رفضوا أقوالهم رفضا واستهزأوا بهم. ونعتقد أن من حق الباحث أن ينتمي إلى أي مدرسة شاء مما يراه صوابا، ولكن ليس من حق الباحث أن يتجاهل المدارس الأخرى وخاصة مدرسة المبدعين من علمائنا القدامى."

        يتعلق الحديث إذن - للإجابة عن تلك التساؤلات المتعلقة بموضع العرب من البحث اللساني الحديث- بمبادرات فردية منسوبة إلى مفكرين ينتمون إلى بيئات عربية مختلفة، مشرقيةٍ ومغربيةٍ، ولعل أشهر هؤلاء المفكرين الجزائري عبد الرحمان الحاج صالح، والمصري تمام حسان، واللبناني ميشال زكريا، والمغربي عبد القادر الفاسي الفهري. وهم ذوو مرجعيات مختلفة تعكس تنوع البحث اللساني العربي الحديث:

    عبد الرحمن الحاج صالح: ينكشف جانب من الدراسات اللسانية العربية الحديثة التي قدمها الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح من خلال إجابتنا عن الأسئلة التالية:

    من هو عبد الرحمن الحاج صالح؟ وما هي أهم مؤلفاته؟ وفيم تمثل نشاطه اللساني؟

    التعريف بعبد الرحمن الحاج صالح: (1928م- 2017م) يلقب بأبي اللسانيات والرائد في لغة الضاد، هو مؤسس الدرس اللساني في الجامعة الجزائرية، ومؤسس مجلة اللسانيات ذات السمعة العلمية المرموقة في الوطن العربي والعالم الغربي، ومن الرواد الذين عرّفوا القارئ العربي بمبادئ اللسانيات الغربية الحديثة، من مواليد مدينة وهران بالجزائر في 08 جويلية 1927م، تعلم في الكتّاب والمدارس الحكومية ومدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ليشد الرحال بعد ذلك –عام 1954م- إلى مصر، وهناك أكثر من التردد على جامع الأزهر مستفيدا من دروس اللغة العربية، وإثر ذلك لفتت انتباهَه عبقريةُ الخليل بن أحمد فعكف على دراسة آرائه ردحا من الزمن، ثم سافر إلى الغرب حيث الجامعات الأوربية، فواصل تعلّمه بها آخذا من علومها ولغاتها، ومكللا بشهاداتها، فهو حائز على شهادات علمية في اللغة والرياضيات والعلوم السياسية، متحصل على شهادة الدكتوراه في اللسانيات سنة 1979م من جامعة السوربون بباريس، عمل أستاذا للسانيات بجامعة الرباط سنة 1960م، وعين سنة 1964م رئيسا لقسم اللغة العربية وقسم اللسانيات بجامعة الجزائر، ثم انتخب عميدا لكلية الآداب بتلك الجامعة إلى غاية 1968م. أنشأ ماجستير علوم اللسان سنة 1980م، وعين رئيسا لمجمع اللغة العربية بالجزائر سنة 2000م، وهو عضو في المجامع اللغوية العربية كلها(القاهرة، دمشق، عمان، بغداد)، يحسن عدة لغات وهو الأمر الذي مكنه من أن يكون عضوا في كثير من الهيئات الثقافية الأجنبية (الفرنسية والألمانية)، تحصل على جائزة الملك فيصل عام 2010م  توفي –رحمه الله- في 05 مارس 2017م.

    أهم مؤلفات عبد الرحمن الحاج صالح: للدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عشرات البحوث والدراسات اللغوية المنشورة في مختلف المجلاّت العلمية المتخصصة باللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنجليزية، وذلك وفق متطلبات الرؤية الحديثة، سواء فيما تعلق بالنهوض بالعربية وتعليمها اعتمادا على أحدث التقنيات، أو ما تعلق بحوسبة اللغة، أو بمعالجة بعض الأمراض، فضلا عما تعلق بالتعريف باللسانيات الغربية الحديثة... ومن تلك البحوث سلسلة بعنوان (مدخل إلى علم اللسان الحديث) منشورة بمجلة اللسانيات في عددها الأول(1971م) والثاني(1971م) والثالث(1972م) والسابع(1997م). أما عن أهم كتبه الخاصة بعلوم اللغة العربية واللسانيات فيمكن ذكر منها ما يلي:

    - بحوث ودراسات في علوم اللسان(جزءان): وهو منشور بالعربية والفرنسية والإنجليزية.

    - بحوث ودراسات في اللسانيات العربية (جزءان).

    - سلسلة علوم اللسان عند العرب، وتضم:

         أ- السماع اللغوي عند العرب ومفهوم الفصاحة.

       ب- منطق العرب في علوم اللسان,

       ج- الخطاب والتخاطب في نظرية الوضع والاستعمال العربية.

       د- البنى النحوية العربية.

    - النظرية الخليلية الحديثة، مفاهيمها الأساسية.

    - علم اللسان العربي وعلم اللسان العام (مجلدان).

    - مشاركته في معجم علوم اللسان.

    - مشاركته في سبعينيات القرن العشرين بعضَ علماء المغرب العربي في إنجاز كتاب:(الرصيد اللغوي الوظيفي) أو (الرصيد اللغوي العربي للطفل).

    - ترجمته لكتاب (الأمثال الشعبية الجزائرية- بالأمثال يتضح المقال) لقادة بوتارن.

    النشاط اللساني لعبد الرحمن الحاج صالح: يتمثل نشاطه اللساني - فضلا عما ذكرناه في ترجمته- في بعض ما تميز به عن اللسانيين العرب وحاز فيه قصب السبق، وسنقتصر في ذلك على نشاطين كبيرين هما: تأسيسه النظرية الخليلية الحديثة، ودعوته لتجسيد مشروع الذخيرة العربية أو الانترنيت العربي.

    أولا- النظرية الخليلية الحديثة: نظرية لسانية عربية حديثة تحاول البرهنة على أن للعلماء العرب الأوائل منهجا علميا في الدرس اللغوي لا يقل أهمية عن المناهج الغربية الحديثة، ومن ثم عُدت تصحيحا لما وقع فيه نحاة العرب المتأخرون من أخطاء لابتعادهم عن المنهج العلمي الذي سار عليه سلفهم، حيث ألحّت على ضرورة " الرجوع إلى التراث العلمي العربي الأصيل... والنظر فيما تركه أولئك العلماء الفطاحل الذين عاشوا في الصدر الأول من الإسلام حتى القرن الرابع الهجري، وتفهّم ما قالوه وأثبتوه من الحقائق العلمية التي قلما توصل إلى مثلها كلُّ من جاء قبلهم من علماء الهند واليونان، ومن بعدهم كعلماء اللسانيات الحديثة في الغرب."

       وقد ظهرت هذه النظرية سنة 1979م من خلال رسالة دكتوراه الدولة التي تحصل عليها عبد الرحمن الحاج صالح تلك السنة من جامعة السوربون بفرنسا، والتي رافع من خلالها عما اختص به العرب، دون سواهم، من أصالة وإبداع في المفاهيم مما لم يُعرف عند غيرهم من السابقين كاليونانيين ومن اللاحقين كأصحاب اللسانيات الغربية الحديثة، يقول صاحبها:" إن هذه المدرسة نتجت عن جهود متواصلة، وقد بدأت في التفكير فيما يقول الخليل وأنا طالب في الجامعة الأزهرية، وبخاصة في كلية اللغة العربية، وقارنت بين ما اطلعت عليه في كتاب سيبويه آنذاك من أقوال الخليل وما قرأته، وكنت أقرؤه على شيوخنا في هذه الجامعة العتيقة، فلاحظت الفروق الكثيرة التي توجد بين ما ذهب إليه الخليلُ وشيوخُه وتلامذتُه وخاصة سيبويه، وبين ما يقوله المتأخرون من النحاة، بل لاحظت فرقا كبيرا لا في النزعة العقلية ولا في مناهج التحليل وفي الاتجاه العلمي فقط، بل في كل شيء ذكروه، وأخص بالذكر من المتأخرين هذا الرجل الذي صار ما أنتجه من الكتب ومن الأعمال كأنه قرآن النحو!! وهو ابن مالك وهو من المتأخرين وألفيته مشهورة..."

        فهذه النظرية، وإن كانت نظرية لسانية جديدة متميزة عن مختلف النظريات اللسانية الغربية كالبنيوية والتوليدية التحويلية، إلا أنها تمثل امتدادا لنظرية النحو العربي الأصيلة التي أرسى دعائمها الخليل بن أحمد (ت 175ه) وشيوخه من قبله، ثم تلامذته من بعده ممن شافهوا فصحاء العرب واعتدّوا بالسماع كسيبويه(180ه) والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (215ه)، ومن جاء بعدهم كالمازني (247ه) والمبرد (286ه) والزجاج (316ه) والزجاجي (340ه) وابن السراج (316ه) والسيرافي (368ه) والفارسي(377ه) والرمّاني (384ه) وابن جني(392ه)، وبعض من جاء بعد هؤلاء أمثال عبد القاهر الجرجاني(471ه) والرضي الإستراباذي(687ه)، دون تعلقها بنزعة أولئك المتأخرين الذين اختصروا النحو في أراجيز وألفيةٍ متأثرين في ذلك بالمنطق الأرسطي كما هي حال ابن مالك وابن هشام...، ولذلك فإن نسبتها إلى الخليل ليس سوى من باب التغليب، لأنها تتعلق في الأصل بمجمل ما أبدعه أولئك السابقون في مجال النحو وعلوم اللسان بصفة عامة من آراء أصيلة غير مقلَّدة، وإن كان الخليل أسبقَهم وأكثرَهم عبقرية، فهو " نابغة العرب، وسيد أهل الأدب، ومخترع العروض، ومبتكر المعجمات، وصاحب الشكل العربي المستعمل الآن."

       كما أن تعلق هذه النظرية بنظرية النحو العربي التي تشكلت طيلة قرون، وذلك منذ القرن الهجري الثاني لا يعني أبدا أنها مجرد تقليد لما أتى به السابقون، وإنما هي قراءةٌ علميةٌ جديدة ٌللفكر والمنطق الذي نظر من خلاله أولئك السابقون إلى اللغة، وإعادةُ صياغةٍ لأهم مفاهيمه، وذلك باستغلال ما توصلت إليه النظريات اللسانية الحديثة من نتائج، وباستخدام الوسائل والأجهزة التكنولوجية في تحليل الظواهر اللغوية قصد فهمها، ولذلك يرى عبد الرحمن الحاج صالح أنها أصلح نظرية لقراءة تراثنا قراءة معاصرة، ويقرّ قائلا:" قد حاولنا منذ ما يقرب من ثلاثين سنة أن نحلل ما وصل إلينا من تراث فيما يخص ميدان اللغة، وبخاصة ما تركه لنا سيبويه وأتباعه ممن ينتمي إلى المدرسة الخليلية، وكل ذلك بالنظر في الوقت نفسه فيما توصلت إليه اللسانيات الغربية. وكانت النتيجة أن تكوّن مع مرور الزمان فريق من الباحثين المختصين في علوم اللسان بمعناها الحديث يريد أن يواصل ما ابتدأه الخليل وسيبويه"، وهو التحليل الذي مكّن رائد هذه النظرية من أن يخرج " بمفاهيم جديدة مستعينا بدرايته الواسعة باللسانيات الحديثة على اختلاف مدارسها، وبما لديه من إلمام باللغة وبنيتها، ومسار اكتساب اللغة، وتطور اللغة ووظائفها وغير ذلك من النظريات الحديثة، كل ذلك ساعده على أن يكتشف أن علماءنا كانوا روادا في هذا الميدان."

       وقد تمثلت ريادة أولئك الأوائل وتميزهم بما اصطبغ به نظرهم اللغوي من نزعة علمية رياضية أصيلة عمّت مختلف علومهم اللغوية في المجال الصوتي والمعجمي والعروضي والنحوي... دون أي تأثر بمنطق أرسطو خاصة في القرنين الأوليين، وهي النزعة التي تبدو جلية في أعمال ذلك الرجل الموسوعي –الخليل- كضبط نظام اللغة، وتأسيس علم العروض، والتميز في المجال الصوتي، وتأليف معجم العين، واختراع الشكل... يقول عبد الرحمن الحاج صالح:" قد لاحظ كل معاصرينا أن الأفكار الأساسية التي بُني عليها التحليل عند الخليل بن أحمد هي رياضية محضة، فهذا شيء لا يتفق مع ما يتصوره اللسانيون في وقتنا: فإن كان النحو العربي في زمن الخليل وسيبويه بدائيا بالنسبة للسانيات الحديثة فما هذا الاتجاه الرياضي الذي أجمع معاصرونا على الاعتراف بوجوده عند الخليل؟!

    وقال: لاحظ بعض الباحثين أن كتاب العين قد بُني على فكرة استفراغ جميع التراكيب التي تحتلها الحروف الصوامت العربية غير المزيدة فيها: الثنائية والثلاثية منها، وهذا كان يسمى عندهم بقسمة التراكيب في الرياضيات الحديثة Combinatoire والمفهوم العاملي Factorielle ومفهوم الزمرة الدائرية وغير ذلك، وله الكثير من التفاسير والتعليلات العلمية العجيبة للظواهر اللغوية العربية."

     

    مراجع لتعميق الفهم:

    عبد الرحمن الحاج صالح – بحوث ودراسات في اللسانيات العربية

    عبد الرحمن الحاج صالح- مقال بعنوان: النظرية الخليلية الحديثة- مجلة اللغة والأدب، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر- العدد 10 – 1996م

    عبد الرحمن الحاج صالح- الأسس العلمية لتطوير تدريس اللغة العربية- ندوة اتحاد الجامعات العربية- جامعة الجزائر- 1984 م

    التواتي بن التواتي- المدارس اللسانية في العصر الحديث ومناهجها في البحث


  • النظرية الخليلية الحديثة(عبد الرحمن الحاج صالح 1928م- 2017م) 2

    مرتكزات النظرية الخليلية:

     تبيّن هذه المرتكزات أهم المفاهيم والمبادئ التي قام عليها التحليل اللغوي الخليلي، وقد استخرجها عبد الرحمن الحاج صالح من نظرية النحو العربي التي عُرفت خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة واتسمت بالأصالة التي تعني عنده " أن يكون الشيء أو الإنسان مبدعا مهما كان عصره، أي أن لا يكون نسخة لغيره مهما كان الزمان، وقد تكون أصالةٌ في زمن قديم، وقد تكون أصالة في زماننا هذا، وقد يكون الرجل فريدا من نوعه في ميدان خاص أو استعماله لبعض الوسائل العقلية وهذا ينطبق على الخليل: لم يُر مثله قط في استعماله للوسائل العقلية الرياضية في ميدان اللغة..." ويمكن الاقتصار فيما يتعلق بتلك المرتكزات على ما يلي:

    1- اللسان وضع واستعمال: الوضع هو النظام اللغوي الخاصّ المكوَّن من العلامات الصوتية وهو متعلق بجماعة الناطقين به لا بالفرد الذي ليس له منه سوى الاستعمال. أما الاستعمال فمتعلق بكلام الفرد أو بالأداء الفعلي لذلك النظام أو الوضع في واقع الخطاب، فهو جزئيٌّ مقارنة بالوضع الذي يعتبر كليا. ومقابلة الوضع للاستعمال عند لغويي العرب الأوائل هي نفسها ثنائية اللسان والكلام عند دي سوسير، غير أن اللغة عندهم وضع واستعمال وليست وضعا فقط، ولذلك لم يقتصر أولئك العلماء في تحليلاتهم للغة على ضرب من الاستعمال دون غيره لأن استعمال الفرد وأداءه لا يدل على الوضع دائما، ولذلك ذهب النحويون الأوائل إلى أن الاستعمال الفعلي للغة في جميع الأحوال الخطابية التي تستلزمها الحياة اليومية هو الذي ينبغي أن يكون المقياس الأول والأساسي في بناء كل منهج للبحث اللغوي.

    2- مفهوم المثال: يرى عبد الرحمان الحاج صالح أن " النحو كله مُثُل، لأنها الصيغ والرسوم -وهو شيء صوري(Formal)- التي تبنى عليها كل وحدات اللغة إفرادا وتركيبا، فهي تصوير وتمثيل لما تحدثه الحدود الإجرائية، وعلى هذا فمثال الكلمة هو بناؤها ووزنها، لأنه يمثَّل بكيفية صورية مجردة للهيئة التي يكون عليها هذا الجزء من اللفظة الذي يسمى بالكلمة... ثم حصروا هذه المُثل فأحصى منها سيبويه ما يقرب من 300 (وأحصوا بعده أكثر من ألف ومائتين وأكثرها قليلة الاستعمال)." ثم يقول:" لابد من التنبيه على أن مثال الكلمة(ومثال اللفظة) هو شيء تجهله تماما اللسانيات الغربية ولا يعرفه من اللسانيين إلا من اطلع على ما كتبه النحاة العرب، أو ما أُثر عنهم (عن طريق المستشرقين)."

    3- مفهوم العامل: يتعلق العامل بمستوى الجملة دون سواه من مستويات اللغة، وقد اهتدى النحاة الأوائل إلى قيمته، فبه تتحدد الوظائف التركيبية لعناصر الجملة، وبه تظهر على تلك العناصر حركات إعرابية مختلفة، يقول الحاج صالح:" الزوائد على اليمين تغير اللفظ والمعنى، بل تؤثر وتتحكم في بقية التركيب كالتأثير في أواخر الكلم(الإعراب)."

    4- مفهوما الموضع والعلامة العدمية: يسمى المحل الذي قد يظهر فيه عنصرٌ ما بالموضع، وهو (الموضع) مفهوم تجريدي قد يخلو أحيانا من العنصر فيسمَّى علامة عدمية، ولذلك فالموضع شيء وما يحتوى عليه شيء آخر. فالعامل اللفظي -مثلا- عنصرٌ مؤثرٌ ظاهرٌ من خلال موضع معين، أما العامل المعنوي، كالابتداء، فيمثل علامة عدمية لخلوِّ الموضع من أي عنصر ظاهر، وبالعلامة العدمية تتمايز الأصول عن الفروع كتمايز المفرد والمذكر والمكبر وغيرها من الأصول بخلوها من أي علامة تدل على ذلك مقارنة بفروعها المعروفة بعلامات ظاهرة دالةٍ على المثنى أو الجمع، أو المؤنث، أو المصغر.

    5- مفهوم القياس: يعتبر القياس من أهم الأصول التي قامت عليها نظرية النحو العربية الأصيلة، ويعتبر من الأدوات التي توصف بها البنى وتُستنبط بها القواعد اللغوية، يقول عنه الحاج صالح:" حمل شيء على شيء لوجود بنية جامعة بينهما، أو استنباط هذه البنية وإثباتها بهذا الحمل(القياس)، وهذا في الرياضيات هو ما يسمى بمقابلة النظير بالنظير... ثم هذا القياس النحوي هو أيضا مثال مولد للعبارات السليمة، ولذلك يتم به تفريع الفروع ابتداء من الأصل."

    6- مفهوم الأصل والفرع: مما أقام عليه العرب الأوائل نظريتهم تمييزهم بين الأصل والفرع في جميع مستويات اللغة إفرادا وتركيبا، فالأصل ما يُبنى عليه ولا يُبنى على غيره، فهو العنصر الثابت، وليس له علامة ظاهرة (علامته عدمية)، كالمذكر والنكرة...، أما الفروع فمتغيرات لأنها تعني الأصل مع الزيادة (الفرع= الأصل + عنصر غير مستمر"الزائد")، فالاشتقاق -مثلا- تفريع من أصل واحد، والمؤنث فرع عن المذكر، والمعرفة فرع عن النكرة، والمادة الأصلية (ك، ت، ب) أصل و(كتب، يكتب، كاتب...) فروع.

    ثانيا- مشروع الذخيرة العربية أو الإنترنيت العربي: الذخيرة من المشاريع الحضارية الكبرى المتمخضة عن النظرية الخليلية لعبد الرحمان الحاج صالح، حيث يمثل نظرة استشرافية في المجال اللغوي اعتمادا على التكنولوجيا الحديثة وخاصة الإعلام الآلي من خلال حوسبة اللغة، وهو عبارة عن بنك معلوماتي يختزن كنوز ومصادر التراث العربي سواء منه اللغوي والعلمي، ومن ثم يهدف إلى التمكين للغة العربية بالاستعمال الفعلي الواسع للعربية الموحَّدة بين الأقطار العربية، ويكون ذلك بالعمل الجادّ على توحيد المصطلح العلمي والقضاء على الفوضى التي تشهدها ساحته، وبالاعتماد على الانترنيت حتى تشيع تلك المصطلحات الموحدة دون سواها، وتكون في متناول جميع أبناء العرب.

     أما عن فكرة هذا المشروع فتعود إلى سنة 1986م إثر انعقاد مؤتمر التعريب بعمّان، وقد رحبت به الجامعة العربية وتبناه مجلسها الوزاري سنة 2004م، يقول صاحب المشروع:     " حاولت أن اقنع زملائي الباحثين على أهمية الرجوع إلى الاستعمال الحقيقي للغة العربية واستثمار الأجهزة الحاسوبية الحالية وإشراك أكبر عدد من المؤسسات العلمية لإنجاز المشروع لامتيازه بأبعاد تتجاوز المؤسسة الواحدة بل البلد الواحد. ثم عَرَضَت الجزائرُ على المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم هذا المشروع في ديسمبر 1988م فوافق أعضاؤه على تبنّيه في حدود إمكانيات المنظمة."

    أما عن أهداف المشروع فيذكر منها الحاج صالح ما يلي:

    - الذخيرة كبنك معلومات آلي فإنه يهدف إلى تمكين الباحث العربي، أيا كان وأينما كان، من العثور على معلومات شتى من واقع استعمال العربية بكيفية آلية وفي وقت وجيز، وذلك اعتمادا على بنك آلي- يجب إنجازه- للغة العربية المستعملة بالفعل، يتضمن أمهات الكتب التراثية الأدبية والعلمية والتقنية وغيرها، وعلى الإنتاج الفكري العربي المعاصر. وعلى هذا فهو بنك نصوص تراثية وحديثة مخزنة في الحواسيب لا بنك مفردات.

    - الذخيرة مصدر لمختلف المعاجم والدراسات التي ستستخرج منه، كالمعجم الآلي الجامع لألفاظ العربية المستعملة عبر العصور، والمعجم الآلي للمصطلحات العلمية والتقنية المستعملة بالفعل، والذي سيجزأ إلى معاجم متخصصة بحسب فنون المعرفة ومجالات المفاهيم، إضافة إلى كل من: المعجم التاريخي للغة العربية، ومعجم الألفاظ الحضارية(القديمة والحديثة)، ومعجم الأعلام الجغرافية، ومعجم الألفاظ الدخيلة والمولدة، ومعجم الألفاظ المتجانسة والمترادفة والمشتركة والأضداد، وغير ذلك من المعاجم المفيدة.

    - ومن مزاياها أنها تمثل الاستعمال الحقيقي للغة العربية في جميع البلدان العربية منذ الجاهلية إلى العصر الحاضر، وهو(الاستعمال) مرتبط بوجود كل النصوص ذات الأهمية فيها، المحررة منها والمنطوقة الفصيحة في الآداب، والحضارة، والدين، والعلوم، والثقافة العامة، والفنون وكذا الحياة اليومية... كل ذلك مجموعا في حواسيب قادرة على استيعاب ذلك الكم الهائل من النصوص، وعلى إجابتنا -بسرعة النور- عما نطرحه عليها من أسئلة غير محدودة عبر العالم.

     

    مراجع لتعميق الفهم:

    عبد الرحمن الحاج صالح – بحوث ودراسات في اللسانيات العربية

    عبد الرحمن الحاج صالح- مقال بعنوان: النظرية الخليلية الحديثة- مجلة اللغة والأدب، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر- العدد 10 – 1996م

    عبد الرحمن الحاج صالح- الأسس العلمية لتطوير تدريس اللغة العربية- ندوة اتحاد الجامعات العربية- جامعة الجزائر- 1984 م

    التواتي بن التواتي- المدارس اللسانية في العصر الحديث ومناهجها في البحث


  • Topic 9