مدارس لسانية 4
Aperçu des sections
-
يتعلق بهذه المدرسة كل ما تناولناه في المحاضرتين الثالثة والرابعة من مادة اللسانيات العامة الخاصة بالسداسي الثالث أثناء تطرقنا لأفكار دي سوسير وأهم ما ركز عليه في صياغة نظريته البنيوية من ثنائيات انطلاقا من فكرة النظام( ينظر مطبوعة اللسانيات العامة )... فهو- كما يقول عبد الرحمن الحاج صالح - أول من أظهر للناس -من خلال دروسه- أهمية الدراسة البنوية بوصفه وتحليله لمفاهيمها ومناهجها واحتجاجه المقنع لصحتها وعظيم فائدتها. ولعل أهم ما تميزت به أفكار دي سوسير ما يلي:
- كيفية تحديده للعلاقة القائمة بين الدال والمدلول في الأذهان وفي الأعيان وبنائه بذلك نظرية للدليل اللغوي تفسر ماهية الدلالة اللغوية إلى حد ما. ومن ثم ذهب إلى أن العلامة اللغوية "محصلة ارتباط بين الدال والمدلول" وذلك باعتبارها " موضوعا قابلا للتحليل ضمن مستويين يسميهما سوسير تباعا بالدال والمدلول" لا تربط اسما بشيء، فهي غير ثنائية (الاسم والمسمى) كما أنها تختلف عنده عن ثنائية (اللفظ والمعنى) وذلك لما تميزت به من طبيعة سيكولوجية شملت طرفيها (الدال والمدلول)، وفي هذا الفهم الخاص للعلامة اللغوية باعتبارها كيانا ثنائيا يتألف من الربط بين عنصرين بيانٌ لطبيعة هذين العنصرين، وهي طبيعة متماشية مع نظرته البنوية.
فقد بين دي سوسير من خلال هذه الثنائية خطأ ما يذهب إليه بعض الناس من اعتقادهم أن اللغة ليست سوى عملية لتسمية الأشياء، وكأنها قائمة من الألفاظ يقابل فيها كل لفظ الشيءَ الذي يدل عليه، يقول دي سوسير- مع تعليق لعبد الرحمان الحاج صالح-:" يظن بعض الناس أن اللسان إنما هو في أصله مجموع ألفاظ، أي قائمة من الأسماء تطلق على عدد مماثل من المسميات... وفي تصورهم هذا نظر... إن الدليل اللغوي لا يربط بين شيء ولفظ، بل بين مفهوم وصورة صوتية ( أي يربط لا الشيء المسمى باسمه الملفوظ بل مفهوم ذلك الشيء أو تصوره في الذهن بصورة لفظه الذهنية) فهذه الصورة الصوتية ليست هي الصوت المادي لأنه شيء فيزيائي محض، بل انطباع هذا الصوت في النفس والصورة الصادرة عما تشاهده حواسنا... فالدليل اللغوي إذاً كيان نفساني ذو وجهين."... كما يذهب دي سوسير إلى أن العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية (الدال والمدلول) علاقة اعتباطية غير معللة.
- تمييزه الصريح -وكيفية احتجاجه لهذا التمييز- بين اللسان كوضع أو مجموعة منتظمة من الرموز تصطلح عليه الجماعة ويشترك في استعماله جميع أفرادها، وبين الكلام كتأدية فردية للسان، وخروجه بعد ذلك إلى الحكم بأن اللسان بهذا المعنى أي بما هو قدر مشترك، هو صورة وليس بمادة.
- تحديده ،بناء على هذا، لموضوع اللسانيات: هو اللسان لا الكلام في حد ذاته، وإن كان اللسان لا يظهر ولا يمكن مشاهدته إلا من خلال الكلام.
- تمييزه الفاصل بين نوعين من الدراسة: الزمانية والآنية، فقد ذهب دي سوسير إلى الإقرار بوجود نوعين من الدراسة يجب التمييز بينهما، وهما الدراسة الآنية أو السكونية، والدراسة الزمانية أو التطورية، حيث تقدم لنا كل دراسةٍ حقائقَ عن اللغة مختلفةً عما تقدمه الدراسة الأخرى " وهذا منه محاولة إصلاح للآراء الخاطئة التي أضلت أكثر اللغويين الغربيين منذ أن افتتنوا بمفهوم التطور كمفهوم إجرائي في تحليل الظواهر، وقابلوا به المعيارية النحوية أو المنطقية العقيمة."
- العلاقات التركيبية syntagmatiques ( التوزيع) والعلاقات الاستبدالية أو الترابطية Paradigmatiques (الاختيار أو الاستبدال): فاللغة ليست مجرد رصف للعناصر ولكنها تضافر عمليتين متزامنتين هما التوزيع والاختيار المتعلقان -على التوالي- بالعلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية، فهما المسؤولتان عن الأداء الصحيح للغة،، ولذلك لا تحدث عملية التركيب التي تعقِد بين مجموعة محدودة من الوحدات التي تظهر على السطح أثناء الكلام إلا بالتزامن مع عملية أخرى مهمةٍ في الدماغ يتم من خلالها اختيار أيٍّ من تلك العناصر المترابطة ذهنيا أولى بالظهور على مستوى التركيب.
-
تعود الجذور الأولى لتأسيس مدرسة أو حلقة براغ الوظيفية إلى العالم اللساني التشيكي ماثيسيوس الذي كانت من دعواته الأولى دراسة اللغة بطريقة جديدة، تختلف عن الدراسة التاريخية، ومعنى ذلك إنه من المؤسسين لعلم اللسانيات الوصفية، وهو العلم الذي ظهر بشكل مستقل منذ أن قدم دي سوسير محاضراته في جنيف.
وقد ظهرت هذه المدرسة الوظيفية سنة 1926م، أي بعد عشر سنوات من صدور كتاب دي سوسير الذي نشره تلميذاه (بالي وسيشهاي) سنة 1916م، فكوﱠنت جماعة من علماء تشيكسلوفاكيا حلقة دراسة ضمت باحثين تشيكيين ( ماثيسيوس، ترنكا، هافرانك، فاشيك) ولسانيين روسيين( كارسفسكي، تروباتسكوي) إضافة إلى رومان جاكوبسن على الرغم من كونه بولندي الأصل. وقد كان لرومان جاكوبسن ونيكولاي تروباتسكوي أثر بالغ في نشاط هذه الحلقة التي تتميز بتناولها اللغةَ من حيث الوظيفة، حيث أكدت منذ المؤتمر الدولي الأول للغويين المنعقد في لاهاي بهولندا 1928م على الطابع الوظيفي للغة، وما اللسانيات الوظيفية إلا فرع من فروع البنيوية، بيد أنها ترى أن البنية النحوية والدلالية والفونولوجية للغات تحدﱠد بالوظائف المختلفة التي تقوم بها في المجتمع.
ومنذ تلك السنة ظهرت الفونولوجيا على مسرح النشاط العلمي العالمي بصفة رسمية وسميت لذلك بالمدرسة الوظيفية، ولا يقصد بالوظيفية أن أعضاء المدرسة كانوا يرون أن للغة وظيفة فحسب، إذ إن ذلك من البديهيات التي لم تكن لتميزهم عن غيرهم، لكن المقصود أنهم تناولوا اللغة بالدرس والتحليل لهدف إبراز الوظائف التي تؤديها مكوناتها المختلفة أثناء الاستعمال، وهذا ما ميز البراغيين عن غيرهم من اللسانيين خاصة التوزيعيين، فاللساني من أتباع بلومفيلد (وهو توزيعي أمريكي) يكتفي بالوصف، بينما كان البراغيون كمن ينظر إلى محرك السيارة، أي إلى الوظائف التي تؤديها أجزاؤه المختلفة ومكوناته العاملة، وكيف تؤثر طبيعة كل جزء على طبيعة وعمل الأجزاء الأخرى. ولذلك ترى هذه المدرسة أن طبيعة الوظائف اللسانية هي التي تحدد بنية اللغة، وأن اللغة أداة لها وظيفة تقوم بها أو تنوﱡع واسع في الوظائف، أو هي نظام من الوظائف، وكل وظيفة نظام من العلامات، هذا فضلا عن اهتمامها باتجاهات اللغة الجمالية والأدبية خاصة عند رومان جاكوبسن من خلال حديثه عن وظائف اللغة...، وبذلك تأسست العلاقة بين علم اللغة الوصفي والنقد الأدبي. ولم يكتف أصحاب هذه النظرية بالوصف كما يقول سامبسون Sampson بل تعدوه إلى التفسير مجيبين عن سؤالين رئيسيين:1: ماذا تشبه اللغات؟ 2: ولماذا جاءت على هذه الشاكلة؟
ومادام الأمر متعلقا بوصف البنية اللغوية فإن دراسة البراغيين للغة لم تختلف كثيرا عن دراسة بقية التيارات البنيوية التي عاصرتها، باستثناء ما تميزت به عنها من تناولها للغة من الزاوية الوظيفية وسعيها للتفسير، ولذلك نجدها قد تبنت معظم الأسس التي قامت عليها مدرسة جونيف، ولولا تلك المفاهيم التي أتى بها دي سوسير، كالتمييز بين اللغة والكلام، والآنية والتعاقبية، والدال والمدلول، وغيرها من المصطلحات لما تسنى لعلماء مدرسة براغ وغيرهم التوصل إلى دراسة الأصوات من منظور جديد، فقد تأثروا برأيه في الفونيم باعتباره الجانب غير المادي للصوت، وهو جانب وظيفته التفريق بين المعاني، وذلك من خلال رأيه المشهور المفرق بين ما سماه الكلام( المنطوق بالفعل، الصادر عن الإنسان في الوقت المعين) وبين ما سماه اللسان ( أي اللغة المعينة باعتبارها نظاما جماعيا)... إن هذا التفريق السوسوري بين الكلام واللسان هو أساس التفريق البراغي بين الفونتيك والفونولوجيا، ومن ثم التفريق بين الصوت(الكلامي) والصوت الوظيفي(الفونيم).
فالمبدأ الأساسي في نظرية الفونولوجيا يعتمد على فكرة سوسير التي ترى اللغة نسقا أو نظاما من العلامات يتقابل بعضها مع البعض الآخر، وأن وصف هذه الوحدات أو العناصر لا يتم إلا بالنظر إلى علاقة كل عنصر بما عداه من العناصر الأخرى، فهي أيضا تعميق منهجي لها، وتأخذ بثنائيته التي تفرق بين اللغة والكلام، فالكلام يقابل مصطلح الفونتيك الذي يدرس الصوت الكلامي باعتباره مادة تدرس من حيث نطقها وانتقالها واستقبالها، أما اللغة فتقابل الفونولوجيا التي تدرس وظيفة هذه الأصوات المنتمية إلى لغة معينة، دون اشتراط نطقها.
-
إن من أهم إنجازات براغ الصوتية طرحها نظرية الفونولوجيا وما ارتبط بهذه النظرية من بحوث معمقة حول الفونيم أو الوحدة الصوتية حتى سميت بالمدرسة الفونيمية، حيث لم تحظ مدرسة بشهرة كتلك التي حظيت بها مدرسة براغ فيما يتعلق بالفونولوجيا والبحث الفونيمي، بل إن بعض اللغويين لم يستحضر في ذهنه من براغ سوى جهودها في التحليل الفونولوجي، ولا عجب في ذلك فقد حظي المستوى الصوتي للغة باهتمامهم حتى اتهمها خصومها بأنها فعلت ذلك على حساب المستويات العليا التي عالجتها بصورة أقل وبطريقة غير كافية. وربما تعد أكبر إنجازات المدرسة مناقشاتها حول الفونيم منذ حلقتها التأسيسية الأولى باعتباره أهم مبحث في الفونولوجيا والتي تعنى بدراسة الأصوات التي تؤدي وظيفة أي تتدخل في تشكيل معنى الكلمة وتمييزها عن غيرها، وذلك في إطار لغة معينة( وتسمى تلك الأصوات التمييزية فونيمات).
الفونيم أصغر وحدة صوتية غير دالة، ولكنها يتغير بها معنى الكلمة إذا استبدلت بوحدة صوتية أخرى، فهو تشكل صوتي لا دلالة له في حد ذاته. وإذا عوض الصوت صوتا آخر ولم ينشأ عن ذلك تغيير في المعنى لم يسمﱠ فونيما وإنما هو بدل منه (ألوفون)، ومعنى ذلك أن الفونيم صوت (صامت أو صائت) وليس كل صوت فونيما، يقول تروباتسكوي:" تدرس الأصواتيات الراهنة العوامل المادية لأصوات الكلام البشري: سواء ذبذبات الهواء المناسبة، أم أوضاع وحركات الأعضاء المنتجة لتلك الأصوات. وخلافا لذلك، فإن ما تدرسه الصواتة الراهنة ليس الأصوات بل الفونيمات، أي العناصر المكونة للدال اللغوي، وهي عناصر غير ملموسة، بما أن الدال نفسه غير ملموس " ( النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية ص 209)
والفونيم إضافة إلى تكوينه العضوي المحدد قادر على التفريق بين معاني الكلمات بمجرد استبداله، ولذلك يعد وحدة من وحدات الوصف في الصوتيات الوظيفية (الفونولوجيا) فالفونيم وحدة صوتية وظيفية مميزة بين المعاني، ومثال ذلك في اللغة العربية:
القاف في الفعل (قال) عبارة عن فونيم، فإذا أحللنا محل القاف نونا أو ميما أو سينا أو جيما أو طاء أو... تغير المعنى، إذ سنحصل على التوالي على (نال)، (مال)، (سال)، (جال)، (طال)... وهي كلمات مشتركة في كل الأصوات باستثناء الصوت الأول، فذاك الصوت الأول سبب اختلافها في المعنى، وتلك هي وظيفته التمييزية.
وبالمقابل إذا أحللنا محل القاف ﭭافا صارت (ﭭال)، وعلى ذلك فالقاف فونيم أما الﭭاف فمجرد ألوفون لأنه لم يسهم في تغيير المعنى، وإنما أدى ما يؤديه القاف من وظيفة، ولم يدل سوى على تأدية لهجية.
وقد يظهر الفونيم في العربية على شكل حركة، فالفعل (غرُب) بضم الراء غير الفعل (غرَب) بفتح الراء، وهما مختلفان عن الفعل(غرِب) بكسر الراء، إذ يعنى الأول الغموض كقولنا: غرُبت اللفظة، ويعنى الثاني الغياب والاختفاء كقولنا: غرَبت الشمس، بينما يعني الأخير المكسورُ الراءِ: إصابة العين في مؤقها.
-
يمثل هذه المدرسة اللساني لويس يلمسليف Louis Hjelmslev(1899م- 196م) الذي ولد بكوبنهاجن بالدانمارك، وبعد الدراسة الجامعية بجامعة كوبنهاجن التي شغل والدُه - وهو أستاذ رياضيات- رئاستها، غادر بلاده فدرس بلثوانيا سنة 1921، وببراغ سنة 1923، ثم بفرنسا سنتي 1926 و 1927م، وهناك تابع محاضرات ميي Meillet وفَندريس Vendryes، كما تعرف خاصة على أفكار دي سوسير ومناهجه التي ساعدته على إرساء دعائم نظريته العالمية الجديدة (الغلوسيماتيك)
تأسست تلك المدرسة بكوبنهاجن في ثلاثينيات القرن العشرين (بين 1933 و 1936م) على يد مجموعة من العلماء على رأسهم يلمسليف يحدوهم الأمل في ترك بصمة خاصة بهم تميزهم عن غيرهم من اللسانيين، لاسيما البراغيين لما لقيته دراساتهم من نجاح، ومنذ عام 1044م بدأت أعمال الحلقة اللسانية لكوبنهاجن تتوالى على منوال أعمال الحلقة اللسانية لمدرسة براغ، يقول عبد الرحمان الحاج صالح:" ظهرت في الربع الثاني من القرن العشرين نزعة بنوية جد متأثرة بأفكار سوسسور وأشهر من كان يمثلها هم بروندال V.Brondal ويلمسليف L. Hjelmslev وأولدال H.Uldallوهذان اللغويان الأخيران هما اللذان أسسا ما سمياه بال Glossématique وهي تمثل نظرية سوسور في أقصى درجات التجريد الصوري." فعلى الرغم من أن يلمسليف لم يكن إلا شارحا لأفكار دي سوسير، إذ كانت آراؤه عبارة عن نظريات سوسيرية، خاصة فيما يتعلق بالعلامة اللغوية، أو العلاقات، أو صورية اللغة... ولكن كل ذلك وفق نظرة صورية مجردة، حيث أضفى يلمسليف وزملاؤه على دراساتهم اللغوية صبغة علمية، وكسوها بمصطلحات غريبة، وصاغوا عناصرَ للغة في رموز جبرية، وتراكيبَها في معادلات رياضية، وهو ما أحدث ردود أفعال عنيفةً من قبل اللسانيين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والفلسفية. ونتيجة لصعوبتها، وطبيعة مصطلحاتها غير المتجانسة لم تنل تلك الأفكار الاهتمام الذي تستحق، ومن الانتقادات التي وجهت لغلوسيماتيك يلمسليف أنها نسخة نظرية وشخصية للسانيات دي سوسير غير أنه طبقها على نحو فيه مغالاة منطقية.
ترى هذه المدرسة بأن اللسان ليس قائمة مفردات بل أن جوهر اللسان يكمن في تلك العلاقات النسقية الموجودة بين وحداته التي تشكله ولا مناص له منها. فاللغة كيان صوري مستقل وهي شكل أكثر من كونها مادة، ويخضع هذا الشكل أو الكيان لنسق من العلاقات الداخلية يمكن دراستها بنوع من المعادلات الجبرية، ومن هنا فهي ترى اللغة تركيبا رياضيا أو شكلا صوريا بعيدا عن المظهر الدلالي أو الصوتي. بعبارة أخرى إن يلمسليف ينظر إلى واقع الحدث اللساني نظرة شكلية محضة لا يخرج في ذلك عما أشار إليه دي سوسير وهما:
- كَونُ أن اللغة شكل ولا يمكن أن تكون جوهرا (مادة).
- كَونُ أن دراسة اللغة ينبغي أن تتم وفق مستويين اثنين: مستوى المضمون Contenu، ثم مستوى التعبير Expression.
فكل لغة تتكون من هذين المستويين، أي إنها أدلة ذات مظهرين: مظهر صوتي وآخر دلالي، وفي كلا هاذين المستويين يُهتم بالشكل لا بالجوهر، ومما يجب التنبيه عليه أن هذين المستويين متحدان في الدليل اللساني في نظرية سوسير غير مستقل أحدهما عن الآخر، لأن مستوى التعبير هو(الدال) ومستوى المضمون أو المحتوى هو(المدلول)، ولما كانت العلامة اللغوية – حسب سوسير- ذات وجهين، فهي – حسب يلمسليف- ذات مستويين، ولكن لايُهتم في كل مستوى إلا بما كان شكلا، دون ما كان جوهرا أو مادة.
وترتكز منهجية التحليل عند يلمسليف على البحث عن الوحدات المكونة للسان عن طريق الاستبدال، ففي مستوى التعبير، مثلا، نستبدل – بعد التحليل إلى المكونات النهائية- القافَ من الفعل (قام) بالنون لنحصل على (نام) – وفق ما هو معروف عند البراغيين- فالاختلاف بين الوحدات ناجم عن استبدال أو مقابلة عنصر مكونٍ بآخر. ومستوى المضمون أيضا قابل-حسبه- للتحليل لمكوناته النهائية وفق ما هو معروف في نظرية التحليل التجزيئي أو التكويني للمعنى، التي ترى أن معنى الكلمة مجموعة من العناصر التكوينية أو النويات المعنوية، أو المكونات الدلالية. وهي تقوم على تشذير كل معنى من معاني الكلمة إلى سلسلة من العناصر الأولية مرتبة بطريقة تسمح لها بأن تتقدم من العام إلى الخاص. فكلمة (رجل) مثلا تحلل بحسب هذه النظرية على النحو التالي:
رجل: اسم / محسوس / معدود / حي / بشري / ذكر / بالغ...
أما كلمة (امرأة) فتحلل على النحو التالي:
امرأة: اسم / محسوس / معدود / حي / بشري / أنثى / بالغ...
فكلمة امرأة اختلفت عن كلمة رجل في مكون واحد هو مكون الجنس، واشتركتا في سائر المكونات الأخرى.
-
يمثل هذه المدرسة اللساني الفرنسي الشهير أندري مارتينيAndrée Martinet (1908م- 1999م) الذي ولد بمقاطعة السافوا بفرنسا وتابع في شبابه دروس بعض مشاهير اللسانيات أمثال موسِي وفَندريس وميي، فضلا عن انكبابه على دراسة اللغة الإنجليزية، وقد نال شهادة الدكتوراه في دراسة اللغات الجرمانية سنة1937م، ليصبح مديرا للدراسات الفونولوجية بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في عام 1938م. وقد كانت له في ثلاثينيات القرن العشرين اتصالات مكثفة مع علماء نادي براغ اللساني خاصة مع تروباتسكوي، كما شارك في أعمال هذا النادي التي كانت تنشر بانتظام، هذا فضلا عن متابعته عن كثب تطورَ نظرية الغلوسيماتيك بفضل الإقامات المتكررة بالدانمارك وأواصر الصداقة التي كانت تربطه بصاحبها لويس يلمسليف... يضاف إلى كل ذلك استقراره بالولايات المتحدة الأمريكية من 1946م إلى 1955م، حيث شاهد نمو وتطور اللسانيات الأمريكية على يدي إدوارد سابير وليونارد بلومفيلد، وهناك شغل العديد من المناصب المتعلقة بالبحث اللساني: فقد عين مديرا للمجلة العلمية اللسانية "الكلمة" من 194م إلى 1960م، وحمل مسؤولية إدارة معهد اللسانيات بجامعة كولومبيا بنيويورك، كما عين مديرا "للجمعية العالمية للغة المساعدة" التي كانت ترمي إلى إنشاء لغة عالمية جديدة. وقد ألف مارتيني ما يزيد عن مائتين وسبعين مؤلفا في مجال اللسانيات العامة، واللسانيات الوصفية، والفونولوجيا الوظيفية، والفونولوجيا التاريخية، ومن أشهر هذه المؤلفات: نطق الفرنسية المعاصرة – نظرة وظيفية للغة – اقتصاد التغيرات الصوتية – مبادئ اللسانيات العامة.
مارتيني والتقطيع المزدوج:
إن مجموع أعمال مارتيني تشكل نظرية في إطار لسانيات وظيفية، وإن المبدأ النظري الأساس عنده هو تعريفه اللغةَ " كأداة للتواصل ذات تمفصل مزدوج وأداة للتمظهر الصوتي" ومن هنا ينطلق في بناء مفاهيم ستكون مركز اقتراحاته اللسانية ( النظريات اللسانية الكبرى ص 222) وإن أهم تلك المفاهيم التي تدور حولها رحى الوظيفية التقطيعُ المزدوج ( مونيمات - فونيمات ) باعتباره أهم خصائص اللسان البشري، فاللغات البشرية مؤسسة، في الواقع، على تشفير من طبقتين " وكل وحدة من الودات الناتجة عن التمفصل الأول تتمفصل بدورها إلى وحدات من نمط آخر"
مستوى التمفصل الأول: يجعل التمفصل الأول الوحدات الدالة الصغرى تتآلف في ما بينها بحيث تنتظم " التجربة المشتركة بين جميع أعضاء الجماعة اللغوية" كما أن الإمكانية اللامتناهية للتواصل تمنح لكل متكلم، في الآن نفسه، القدرةَ على إنتاج ملفوظات فريدة.
وتتوفر وحدات التمفصل الأول على معنى وصورة صوتية، إنهما دلائل بوجهين، دال ومدلول، يطلق عليهما مارتينيه اسم وحدات دالة. وقد وضع هذا المفهوم ليعرﱢف به وحدات أو بنيات لها ورود تواصلي، معتبرا أن مفهوم الصرفية (morphème) غير إجرائي.
وما كان لهذا التمفصل الأول أن يكون ممكنا إلا لأن الوحدات الدالة تتكون هي نفسها من توالي وحدات أصغر لا تحمل معنى، أي فونيمات: وهذا هو التمفصل الثاني.
مستوى التمفصل الثاني: إذا كانت قائمة الوحدات الدالة (المونيمات) للغة ما مفتوحة (لأن اللغات كلها في تطور مستمر) فإن قائمة الفونيمات مغلقة، وتشكل نسقا كما بين ذلك تروباتسكوي.
إن التمفصل المزدوج يتيح إنتاج كمية هائلة من الرسائل الممكنة، بما أن النسق الصوتي المقتصد جدا يسمح بصياغة آلاف الوحدات الدالة التي هي نفسها يمكن تأليفها لإنتاج عدد لا متناه من الملفوظات،( النظريات اللسانية الكبرى ص 223، 224) وهذا ما يسمى بالاقتصاد اللغوي، وهو إجابة عن سؤالنا: ما الذي مكن الألسنة البشرية الطبيعية، خلافا لنُظُم التواصل الأخرى الحيوانية أو الاصطناعية، من التعبير عن غير المحدود من الأغراض والمعاني بعدد محدود من الفونيمات والمونيمات؟
مارتيني والاقتصاد اللغوي:
ورد مصطلح الاقتصاد اللغوي في مؤلف مارتيني " اقتصاد التغيرات الصوتية" الذي يعد أعظم عمل له في الفونولوجيا الزمانية، حيث يرى أن الإنسان يعيش في صراع قائم بين عالمه الداخلي وعالمه الخارجي، فالعالم الخارجي في تطور مستمر، ويتطلب ابتكار مفردات جديدة، والطبيعة الإنسانية الداخلية ميالة إلى الخمول والجمود، واستعمالِ النزر القليل من المفردات الموجودة حولها. وبالإضافة إلى هذا فإن ثمة صراعا بين حاجيات التواصل التي تؤدي إلى تطوير اللغة من جهة وخمول الأعضاء ونزوعها إلى الاقتصاد في الجهد الذي تتطلبه عملية التلفظ أو التذكر من جهة أخرى. (اللسانيات، النشأة والتطور ص 155)
وفي هذا الإطار يندرج ذلك السؤال الغريب الذي طرحه أحد علماء اللغة المحدثين قائلا: هل تستطيع أن تدلني على أحد يستطيع أن يستغل النفايات بطريقة أخرى أكثر كفاءة وأهمية من استغلال الإنسان لنفايات عملية التنفس؟! لتكون الإجابة بالنفي المطلق، لأن ما تميزت به اللغات الإنسانية من تمفصل مزدوج مكنها- انطلاقا من استخدامها عددا محدودا جدا من الأصوات التي لا معنى لأي منها على انفراد- من تركيب عدد لا يحصى من الوحدات الصوتية ذات المعنى. ولذلك يعود الفضل فيما تُعرف به اللغة من اقتصاد إلى تلك الخصيصة التي مرونة تميزت بها كل الألسنة البشرية الطبيعية، فمكنتها من التعبير انطلاقا من المحدود من الوحدات غير الدالة ( الفونيمات) والوحدات الدالة( المونيمات) عن غير النهائي من المعاني والأغراض، فهو – الاقتصاد اللغوي- حسب مارتيني من أظهر آثار التقطيع المزدوج... ولو كان علينا أن نخص كل وحدة دنيا دالةٍ بإنتاج صوتي منفرد وأصم، أي غير قابل للتحليل، للزمنا أن نميز بين آلاف من هذه الإنتاجات، وهو ما يتجاوز قدرةَ البشر على تنويع النطقِ وطاقتَهم على إرهاف السمع.
-
على الرغم من عراقة البحث اللغوي البريطاني الذي تعود بدايته الفعلية إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وما عرفه من نمو وتطور منذ القرن السادس عشر خاصة في مجال الصوتيات واللهجات وتعليمية اللغات والتهجئة والتخطيط اللغوي... وغيرها من القضايا العملية التطبيقية، إلا أن هذه المدرسة قد اقترنت باسم اللغوي جون روبيرت فيرث Firth J.R. (1890م- 1960م) الذي يعتبر أول من جعل اللسانيات علما معترفا به في بريطانيا خاصة بعد تأثره بالأنثروبولوجي البولندي المعروف مالينوفسكي B.Malinowski في حديثه عن سياق الحال context of situation، وقد كانت نظريته تحديا لبنائية – سلوكية- بلومفيلد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. كما كانت لبنة من لبنات الدراسة اللغوية البريطانية، ومعلوم أن الدافع الرئيس الذي حرك تلك الدراسات هو اتساع رقعة الإمبراطورية البريطانية بشكل مذهل، وازدياد الحاجة الماسة لدراسة اللغات الشرقية والإفريقية لأغراض متعددة، فكان من بين هؤلاء اللسانيين وليم جونز الذي كشف النقاب عن القرابة القائمة بين اللغة السنسكريتية واللغات الأوربية الكلاسيكية، وفيرث الذي أعطى نفسا جديدا للدراسات اللغوية البريطانية وجعلها تصطبغ بصبغته الخاصة.
فالسياقية الفيرثية –إذن- ثمرة جهود متوالية عبر قرون من الزمن اصطبغت بها الدراسات اللسانية البريطانية التي شارك فيها –قبل فيرث- علماء كبار منهم: عائلة بال خاصة ألكسندر ملفيل بال Alexander Melville Bell(1890م- 1960م)، وابنه ألكسندر جراهام بال Alexander Graham Bell(1890م- 1960م) مخترع جهاز الهاتف.
وهنري سويت Henry Sweet (1845م- 1912م) وهو أشهر اللسانيين التاريخيين البريطانيين في القرن التاسع عشر، وقد كان متأثرا بأعمال عائلة بال مهتما بالصوتيات متمكنا فيها، وقد عد بحق أب الأبجدية الصوتية العالمية.
ودانيال جونز Daniel Johns(1881م- 1967م) الذي سار مقتفيا منهج سويت في الدراسة الصوتية.
وقد تميزت هذه المدرسة – خاصة في عهدها الفيرثي- بفلسفة الأحديّة، إيمانا من صاحبها بأن ثمة مبدأً غائيا واحدا ألا وهو المادة، فكان يرفض باستمرار بناء فكره اللغوي على ما يسمى بالثنائيات التي يصعب تحقيقها من الناحية العملية، وذلك على خلاف ما ذهب إليه دي سوسير تماما.
ولتفضيل علماء بريطانيا الأشياءَ العملية التطبيقية على الأشياء النظرية فإنهم لم يدرسوا اللغات لذلتها-خلافا لما دعا إليه دي سوسير- بل درسوها رغبة في منفعتها العاجلة، ومن ثم اهتموا بالكلام الفعلي أو استعمال اللغة في إطار المجتمع، خلافا لكثير من المدارس الأخرى التي أهملته وركزت على اللغة كنظام صوري مجرد، وهو ما جعل المدرسة البريطانية تولى العناية للجانب الاجتماعي في الدراسة اللسانية، ولذلك سميت بالمدرسة الاجتماعية، يقول فيرث:" إن اللغة ينبغي أن تدرس بوصفها جزءا من المسار الاجتماعي، أي كشكل من أشكال الحياة الإنسانية، وليس كمجموعة من العلامات الاعتباطية أو الإشارات."
ولما كان المعنى هو الأساس في عملية التواصل القائمة بين المتكلم والمستمع، وهو ما يهدف المتكلم إلى إيصاله في رسالته إلى متلقٍ أو أفراد المجتمع، فلقد ركزت على دراسته ووصفت الضوابط التي تتحكم في الاستخدام الفعلي للغة لدى الجماعة اللغوية، وهو ما قادها إلى التأكيد على السياق في تحديد معاني الكلمات، ولهذا تنعت بالمدرسة السياقية، وهو الأمر الذي جعلها مدرسة غير بنيوية.
والسياق هو مجموعة الظروف الطبيعية والاجتماعية والثقافية والنفسية التي يوجد ضمنها ملفوظ معين أو خطاب، وترى اللسانيات أن السياق هو مجموع العناصر الصوتية والصرفية والتركيبية التي تسبق أو تلحق وحدة لسانية داخل ملفوظ معين. ولذلك لا يُبحث عن معنى الكلمة بل عن استعمالها. لأن لها معنى أساسيا وآخر سياقيا، فالسياق هو الذي يوضح الغرض المقصود الذي من أجله وظفت هذه الكلمة أو تلك، ومن ثم لا يمكن الاعتماد على المعنى الحرفي للكلمة ولا المعنى الحرفي للجملة في بعض الاستعمالات، وفي هذا الإطار يقول برتراند رسل:" الكلمة تحمل معنى غامضا لدرجة ما، ولكن المعنى يكتشف فقط عن طريق ملاحظة استعماله، الاستعمال يأتي أولا وحينئذ يتقطر المعنى منه."، ومثال ذلك الفعل(ضرب) الذي يحمل دلالة مطلقة لعدم ارتباطها بسياق لغوي معين، غير أن معناه سرعان ما يتحدد ويتضح بمجرد تسييقه كقولنا:
- ضرب السيد خادمه (بمعنى عاقب)
- ضرب اللاعب الكرة(بمعنى سدد ورمى)
- ضرب الأستاذ مثالا من التاريخ القديم(بمعنى قدم)
- ضرب الرجل أخماسا في أسداس(بمعنى فكر)
- ضرب الرجل في الأرض(بمعنى سافر)
فالفعل واحد في تلك التراكيب، لكنه اتخذ معاني متعددة ولدتها السياقات اللغوية المختلفة التي ورد فيها.
وفي المقابل لو سمعنا جملة (أتممت العملية) في بيئات لوقفنا على المراد منها من خلال ملاحظة السياق غير اللغوي كشخصية المتحدث وزمان ومكان الحديث والأثر الذي يتركه الحديث على من يسمعه... فيكون معنى تلك الجملة عملية حسابية إذا سمعناه من تلميذ أو في محيط المدرسة، ويكون معناها عملية عسكرية إذا سمعناها من عسكري أو في محيط الثكنة، بينما يكون معناها عملية جراحية إذا سمعناها من طبيب أو في محيط المستشفى. فعلى الرغم من أن الجملة واحدة إلا أن معانيها مختلفة تبعا لاختلاف السياقات غير اللغوية التي أحاطت بها.
فمن أجل الوقوف على المعنى الصحيح للكلمة أكدت النظرية على أهمية الوقوف على السياقات المختلفة التي ترد فيها، سواء منها السياقات اللغوية والسياقات غير اللغوية (الموقفية)، لأن معنى العبارات لا يتضح ولا يكون جليا إلا إذا روعيت الأنماط الحياتية للجماعة المتكلمة، وكذا الحياة الثقافية والعاطفية والعلاقات التي تؤلف بين الأفراد داخل المجتمع، فمعنى الكلام ليس سوى حصيلة لهذه العلاقات، وإهمالها يؤدي حتما إلى غيابِ المعنى وعدمِ الوقوف على حقيقته، ولذلك يصر فيرث على اعتبار اللغة جزءا من المسار الاجتماعي، ومن ثم فإن استخراج الدلالات اللسانية لا يكون ناجحا إلا إذا رُبطت اللغة بالقضايا الاجتماعية، السياسية، الإنسانية للمجتمع.
إذن إن فيرث يرى أنه لا يتم تحرير المعنى والوقوف عليه إلا بمراعاة السياقين اللغوي وغير اللغوي اللذين ورد فيهما الحدث الكلامي، ومن ثم لا يُعرف معنى أي نص لغوي إلا بتحليله في المستويات اللغوية المختلفة، ثم بيان وظيفة هذا النص اللغوي ومقامه، ثم بيان الأثر الذي يتركه على من يسمعه... فالمعنى عنده يحتاج لبيانه إلى دراسة النواحي الصوتية والصرفية والنحوية والقاموسية، والوظيفة الدلالية لسياق الحال، ثم تستخلص نتائج تلك الدراسات، ويضم بعضها إلى بعض للتوصل إلى المعنى المطلوب، فكلمة(ولد) مثلا لها معنى مركب هو مجموع عدة وظائف وخصائص تتبين في: الوظيفة الصوتية، والمعنى القاموسي، والمعنى الصرفي، والمعنى النحوي، والمعنى الاجتماعي حسب اختلاف المقام والأحوال والملابسات الخارجية، وشخصية المتكلم والسامع، والناحية الصوتية من تنغيم وموسيقى، وما يصحب الكلام من حركات جسمية.
وقد صرح فيرث بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية أي وضعها في سياقات مختلفة. ومن ثم كان سياق الحال (الموقف) عنده مكونا من مجموع العناصر المكونة للحدث الكلامي، وتشمل هذه العناصر التكوين الثقافي للمشاركين في هذا الحدث، والظروف الاجتماعية المحيطة به، والأثر الذي يتركه على المشاركين فيه. فالمعنى يفسر عنده بأنه " الوظيفة في سياق."
ومما يمكن التنبيه عليه في هذا المقام الاعتراف بأن علماء العرب القدامى قد تنبهوا إلى أهمية المقام – سياق الحال- في فهم دلالات الألفاظ، حتى قالوا: لكل مقام مقال، ولكل مقتضى حال، ومن ذلك اعتناؤهم - خاصة المفسرين منهم – بأسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم، وهي –أي أسباب النزول- من السياق غير اللغوي(الموقف).
-
ارتبطت الدراسات اللسانية الأمريكية في بدايتها بالأنثروبولوجيا، حيث نشأت البنيوية الأمريكية (الوصفية) في أمريكا في غمرة الدراسات الحقلية للغات الهندية الأمريكية، إذ اهتم علماء اللغة بهذه العينات اللسانية الخام، فحاولوا وصفها وتبين خصائصها، وقد كان فرانز بواس Franz Boas(1858م- 1942م) صاحب فضل السبق والتأسيس لهذا المنهج الجديد، حيث قام بدراسة وصفية لعدد من اللغات الهندية الأمريكية وجمعها في كتاب (دليل اللغات الهندية الأمريكية) سنة 1911م، وكان لأعماله عميق الأثر في توجه الكثير من تلامذته. وقد توسع الاهتمام إلى اللغات الأمريكية الوسطى والجنوبية حيث أنجزت الكثير من رسائل الدكتوراه حول هذه اللغات الأصلية... وقد برز من بين تلاميذ بواس: إدوارد سابير Edward Sapir (1884م- 1939م) وليونارد بلومفيلد Leonard Bloomfield (1887م- 1949م).
ولئن كان سابير-كأستاذه بواس- ميالا إلى التأكيد على الصلة القائمة بين بنية اللغة وطابع الحياة الإنسانية بما تتضمنه من جوانب نفسية واجتماعية معتبرا إياها جزءا من الثقافة الإنسانية وانعكاسا لها، إلا أن الفضل في تخليص الدرس اللغوي من الأنثروبولوجيا وإقامته على أسس متينة فرض من خلالها نفسه بنفسه يعود إلى المهندس الفعلي للاتجاه التوزيعي ليونارد بلومفيلد الذي يعتبر في أمريكا بمثابة دي سوسير في أوربا، حيث دفعه تأثره بالتيار الوضعي وعلم النفس السلوكي ( Behaviorisme) إلى مراجعة كتابه الصادر سنة 1914 (مقدمة في علم اللسان) حتى يتوافق مع تلك النظرة الآلية السلوكية التي تبناها في مرحلة لاحقة، فطرح بذلك كتابه (اللغة) الذي يساوي أو يفوق في القيمة كتاب دي سوسير حتى عده لسانيو أمريكا (إنجيل اللسانيات)
إن اللغة عند بلومفيلد نوع من أنواع الاستجابة الآلية لمثير معين، فهي ليست سوى شكل من أشكال السلوك المرئي، وقد بسط هذا المفهوم من خلال قصة (جاك وجيل) " حيث كانا يسيران فإذا بجيل ترى تفاحة، وبدافع الجوع تقوم بإحداث صوت بحنجرتها ولسانها وشفتيها، فيقوم جاك بإحضار التفاحة ووضعها في يدها لتأكلها." فالجوع بمثابة مثير أو منبه، والصوت الذي أحدثته جيل (أي الكلام) بمثابة استجابة لذلك المثير، ويقوم في الوقت نفسه مقام المنبه بالنسبة إلى جاك الذي يستجيب له بإحضار التفاحة. فهو بهذا يعد التواصل اللغوي نوعا من الاستجابات لمثيرات تقدمها البيئة أو المحيط ومن ثم فإن اللغة لا تعدو عنده، وعند السلوكيين بصفة عامة، أن تكون عادات صوتية يكيفها حافز البيئة.
إن اختصار بلومفيلد لمكونات العملية الكلامية في: الحدث السابق لعملية الكلام، والكلام، والحدث الذي يلي الكلام، جعله يلغي المفهوم الذهني للسلوك اللغوي، وقد انعكس ذلك على منهجه في التعامل مع البنية اللغوية فكان منهجا ميكانيكيا آليا يصر من خلاله على تحليل كل من الأنظمة الثلاثة الظاهرة للغة: النظام الصوتي، والنظام الصرفي، والنظام النحوي، كلٌ على حدة بمعزل عن النظام الآخر، مصرا في الوقت نفسه على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، ليس لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذا الاتجاه بأن المعنى لا يمكن إخضاعه لنوع الدراسة الوصفية العلمية الدقيقة التي يمكن أن تخضع لها الأنظمة الظاهرة الأخرى – الصوتي، الصرفي، التركيبي- حيث تحلل الجمل إلى مجموعة من المؤلفات المباشرة وصولا إلى المؤلفات النهائية ثم الفونيمات، وذلك من خلال استعراض المكونات اللغوية الجزئية للبنية، أو وحداتها التمييزية، وقد عرف ذلك التحليل بالاعتماد على المؤلِفات المباشرة – كما سنرى- تطورا ملموسا بعد أن اعتمده اللسانيون المتأثرون بالمنهج البلومفيلدي أمثال زليج هارِيس Zelig Haris، وشارل هوكيت Charles Hockett، وبرنارد بلوك Bernard Bloch، إلى جانب بيك Kanneth Lee Pike صاحب تسمية الطاقميمية.
التركيب من منظور توزيعي:
التوزيع منهج لتحليل الجانب اللغوي اتخذته مدرسة بلومفيلد فعُرفت به، فبعد أن استوحى الرجل معطيات علم النفس السلوكي قام بإسقاطها على المنهج الوصفي قاصدا بذلك توزيع الوحدات اللغوية المرئية وفق طريقة استبدال وحدة لغوية بوحدة أخرى من أجل تعيين القسم الذي تنتسب إليه من أقسام الحدث الكلامي، والمقصود من ذلك الإشارة إلى موقع العنصر اللساني بالنسبة إلى العناصر المحيطة
فلهؤلاء البنيويين أو الوصفيين الأمريكيين الممثِّلين للمدرسة التوزيعية، وعلى رأسهم ليونارد بلومفيلد Leonard Bloomfield، منهجٌ خاص –كما أسلفنا- في التعامل مع البنية اللغوية مُمثَّلةَ في العناصر القابلة للملاحظة ضمن الحدث الكلامي المنجَز بالفعل، وقد عُرف ذلك المنهج التوزيعي بميله إلى تحليل الجمل تحليلا شكليا مقتصرا على وصفها والوقوف على توزيع مكوناتها في حدود ما يسمونه بالمؤلفات المباشرة و المؤلفات غير المباشرة أو النهائية، وهي حدود الوصف التي يقف عندها المحلل اللساني غيرَ متجاوزٍ لها، حتى عرفت تلك النظرية البلومفيلدية باسم نظرية المكونات أو المؤلِفات المباشرة.
المؤلفات المباشرة Constituants immédiats: ليست الجملة مجرد رصف للوحدات الدالة، وإنما يحدث داخلها اتحادات أو تكتلات بين بعض الوحدات في شكل مجموعات متدرجة أهمها المركب الاسمي و المركب الفعلي باعتبارهما مجموعتين قابلتين للتقسيم كقابلية الجذع أو الغصن الكبير إلى التفرّع، ولذلك " تعد فكرة المكونات المباشرة بداية تفكير جديد في التحليل النحوي، لقد ثبت أن تتابع الكلمات في الجملة يقوم على علاقات محددة في داخلها، ونقرب هنا فكرة بلومفيلد بمثال عربي هو: الرياضي القوي انطلق سريعا. يمكن تقسيم الجملة السابقة إلى أربعة مكونات نهائية أو صغرى، وكل مكون هو كلمة واحدة. ولكنا نجد كلمتين الأولى والثانية: الرياضي القوي، تكونان معا مكونا واحدا، وهو تركيب من موصوف وصفة، ونجد الكلمتين الثالثة والرابعة تكونان مكونا ثانيا، وهو تركيب من الفعل والمفعول المطلق المبين للنوع." ولذلك يهدف هذا التحليل وفق المؤلفات المباشرة إلى " إبراز أن الجملة لا تُختزل في التسلسل الخطي للمفردات، بقدر ما تتميز كذلك بتراتب العلاقات" ولذلك فإن تحديد المؤلفات المباشرة شبيه في النحو التقليدي للغة العربية بإعراب الجمل وأشباه الجمل، وهو وصف أو إعراب لابد منه.
المؤلفات غير المباشرة أو النهائيةConstituants terminaux : هي الوحدات التمييزية الصغرى (مورفيم) الخاضعة للمؤلفات المباشرة، وهي آخر ما يصل إليه المحلِّلُ من وحداتٍ دالةٍ مُسهمةٍ في بناء الجملة. فإذا كانت المؤلفات المباشرة شبيهة في النحو التقليدي للغة العربية بإعراب الجمل وأشباهها، فإن المؤلفات غير المباشرة شبيهة في ذلك النحو التقليدي بإعراب المفردات.
وباعتبار الجملة الوحدةَ الرئيسة في تحليل المستوى التركيبي، فإن طريقة التوزيعيين في تحليلها تقتضي المرور بمرحلتين:
أ- التقطيع أو التقسيم: وهي العملية التي نتحصل من خلالها على المؤلفات المباشرة والمؤلفات غير المباشرة أو النهائية، وهي عملية شبيهةٌ بالتقطيع المزدوج لدى مارتيني من حيث انطلاقه من المستوى التركيبي نزولا نحو المستوى الصرفي، غير أنها تختلف عنه في درجات النزول، فإذا كان المستويان (التركيبي والصرفي) مفصولين بدرجة واحدة عند مارتيني، فإن بين المستوى التركيبي ممثَّلا في الجملة، وبين المستوى الصرفي ممثَّلا في المؤلفات غير المباشرة درجاتٌ تحتلها المؤلفاتُ المباشرة باعتبارها منزلةً بين المنزلتين(الجملة والمؤلفات غير المباشرة)، هذا فضلا عن اختلاف التحليلين المارتيني الوظيفي والبلومفيلدي التوزيعي في المصطلحات، ولهذا فإن " تحليل الجملة على الطريقة التوزيعية ينطلق من تجزئة الجملة إلى مكوناتها الموالية، ثم التدرج في تجزئة هذه المكونات إلى أجزاء أصغر حتى الوصول إلى أجزاء غير قابلة للتجزئة، وينتهي إلى ضبط الأقسام التوزيعية لهذه الأجزاء الصغرى، فهو تحليل هيكلي تصنيفي يعمد إلى رسم هيكل تفصيلي للتركيب اللغوي انطلاقا من مؤلفاته الكبرى إلى مؤلفاته الصغرى.
وتقسم الجملة العربية التالية (الرجل الكريم يساعد المحتاجين) وفق ما يسمى بصندوق هوكيت Ch. Hockette كما يلي:
ال
(أداة تعريف)
رجل
(اسم موصوف)
ال
(أداة تعريف)
كريم
(اسم صفة)
يساعد
(فعل)
ال
(أداة تعريف)
محتاج
(اسم)
ين
(علامة جمع وإعراب)
الرجل
(مجموعة اسمية)
الكريم
(مجموعة اسمية)
يساعد
(فعل)
المحتاجين
(مجموعة اسمية)
الرجل الكريم
(ركن اسمي)
يساعد المحتاجين
(ركن فعلي)
الرجل الكريم يساعد المحتاجين (الجملة)
فكل ما أمكن تقسيمه فهو معدود ضمن المكونات المباشرة، وهي وفق هذا التدرج: الرجل الكريم/ يساعد المحتاجين/ الرجل/ الكريم/ المحتاجين.
وكل ما توقف عنده التقسيم فهو معدود ضمن المكونات النهائية (مورفيم)، وهي وفق هذا الترتيب: ال/ رجل/ ال/ كريم/ يساعد/ ال/ محتاج/ ين.
ب- التوزيع La distribution: إن الهدف من ذلك التقسيم إلى مكونات مباشرة ومكونات نهائية هو معرفة القسم التوزيعي الذي تحتله الوحدة أو القطعة و" الإشارة إلى موقع العنصر اللساني بالنسبة إلى العناصر المحيطة... ويكون بهذا دور المتكلم مجسدا في انتقاء مصطلحاته في المواقع المناسبة واختيار وحداته في التركيب المناسب له والمحقق لمحتوى كلامه."، ومن ثم فإن الوحدات الممثلة للقسم التوزيعي نفسه هي جميع الوحدات والقطع القابلة للتعويض والاستبدال في موقع ما من الجملة، كموقع الفاعلية أو المفعولية أو الابتداء أو الصفة أو المضاف إليه... سواء تعلق الأمر بالوحدات الممثلة للمكونات المباشرة أو بالوحدات الممثلة للمكونات النهائية. فالوحدة (أنت) الممثلة للمبتدأ والمحتلة للرتبة الأولى ضمن توزيع عناصر الجملة التالية (أنت طالبٌ جادٌّ) يمكن تعويضها بكثير من الوحدات المشتركة معها في القسم التوزيعي، مثل:(أنا، هو، هذا، ذلك، محمد، خالد، سيبويه، مايكل... )، والركن الفعلي في جملة (الرجل الكريم يساعد المحتاجين) يمكن استبداله بكثير من الأركانِ الفعليةِ الشبيهةِ به من حيث الشكل، والمحتلةِ للقسم التوزيعي نفسه، مثل:(الرجل الكريم يعاون البائسين/ الرجل الكريم يساند المظلومين/ الرجل الكريم ينصر المضطهدين/ الرجل الكريم يواسي المقهورين...) فكلّها- بغض النظر عن المعنى- أركان فعلية مكونة من فعل مضارع + مفعول به معرف بالألف واللام، دال على جمع المذكر السالم.
إقصاء المعنى عند بلومفيلد:
ينبغي ألا يُفهم من الإقصاء عدمُ اعتراف بلومفيلد بالمعنى، لأن ذلك ضرب من الجنون، وإنما يتعلق ذلك بما عُرف عن التوزيعيين من رفضهم البحثَ عن موجودات مفترضة تختفي وراء عناصر الجملة وتعد أسبابا لها، لأن كل شيء في الوصف اللساني –حسب التوزيعيين- يجري على السطح المنطوق أو المكتوب، وكل محاولة تسعى إلى البحث عن أشياء خلف السطح هي وهم منهجي عقيم، ولهذا يصر التوزيعيون على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، لا لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذا الاتجاه بأن المعنى –لطبيعته المجردة- لا يمكن إخضاعه للدراسة الوصفية الدقيقة.
فبلومفيلد- ولكونه لا يؤمن إلا بما يمكن ملاحظته علانية- قد خالف النظرية التصورية المركزة على الفكرة أو التصور، وشكك في كل المصطلحات الذهنية كالعقل والتصور والفكرة... كما لم يركز إلا على الأحداث الممكن ملاحظتها وتسجيلها، وعلى علاقتها بالموقف الذي يتم إنتاجها فيه، ولذلك اعترف بلومفيلد بأن دراسة المعنى –نظرا لطبيعته المجردة- تعد أضعف حلقة في الدراسة اللغوية، إذ " لا يمكن أن يطمع للوصول بأي حالة للدقة العلمية المتاحة للتحليل الشكلي للمادة اللغوية كما تلاحظ وتسجل، وأن أي تحليل للمعاني يتطلب معرفة واسعة من خارج علم اللغة نفسه، وأن المعاني الصحيحة أو المفترضة لا يمكن أن تستعمل بشكل صحيح بوصفها معايير في الخطوات التحليلية لهذه الأسباب فقط، ولصعوبة الوصول للدقة فإن التحليل يخفق، وبذلك تخفق المعايير، ومن السهل أن نجد أمثلة على ذلك: فالسؤال عما إذا كان (غروب الشمس) شيئا أو حالة أو عملية في الزمان، سؤال يمكن الجدال حوله بلا نهاية، وكذلك وضع (حقل الحبوب) بوصفه فرديا أو جمعيا هو وضع غير محدد".
أما عن مفهوم المعنى فهو عند بلومفيلد محصلة الموقف الذي يحدث فيه الكلام المعين من خلال عنصرين أساسيين هما: المثير والاستجابة، باعتبارهما عنصرين قابلين للملاحظة في المنطوقات، ولذلك عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه (الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه، والاستجابة التي تستدعيها من السامع)، فعن طريق نطق صيغة لغوية يحثّ المتكلم سامعه على الاستجابة لموقف، هذا الموقف وتلك الاستجابة هما المعنى اللغوي للصيغة."
إن هذه النظرية السلوكية الآلية المشبهة للسلوك اللغوي للإنسان بسلوك الحيوان من حيث الخضوع لمبدأ المثير والاستجابة قد تجاهلت تميّز الإنسان عن باقي الحيوانات بالعقل الذي يعد ملكة مبدعة لا توجد في غير جنس البشر، كما تجاهلت الجانب الخلاق في اللغة وهو الجانب الذي أكد عليه كثير من اللسانيين والفلاسفة العقلانيين أمثال ديكارت وهمبولت، وعوّل عليه تشومسكي في نقد التوجه السلوكي وتقويض أركانه.
-
لقد أضحى النمط التوزيعي يسعى إلى وصف البنية التركيبية للغات من أجل ضبط الأشكال اللسانية في أي لغة من اللغات، وتصنيفها، ووصل هذا التحليل إلى ذروته مع هارس(تلميذ بلومفيلد) الذي أثر كثيرا في تلميذه تشومسكي. هذا الأخير الذي وجه نقدا لاذعا للمدرسة السابقة.
وقد قام هذا الاتجاه، التحويلي التوليدي، على أنقاض الاتجاه التوزيعي القائم أساسا على توزيع العناصر اللغوية التي ترد داخل السياقات التركيبية، على أنّ هذه الأخيرة تعد عملية وصفية تتم فقط على المستوى السطحي من البنية اللغوية دون مجاوزتها إلى البنية العميقة، الأمر الذي يفسر بوضوح تأثر تشومسكي بآراء المدرسة العقلانية التي سادت خلال القرن التاسع عشر والتي كان ديكارت من أشهر أعلامها، ومن ثم نظر تشومسكي إلى اللغة من الداخل، أي مقدرة ابن اللغة على استعمال وفهم لغته، خلافا للتوزيعيين الذين نظروا، إخلاصا منهم لمبادئهم، إلى اللغة من الخارج كما تفعل العلوم الطبيعية، ولذلك كانت آراء التوليدية التحويلية عن طبيعة اللغة عميقة للغاية ومناقضة للسطحية التي تميزت بها آراء سابقة.
وأوّل هجوم قام به تشومسكي على المذهب السلوكي ذهابه منذ البدء إلى أن المصطلحات العلمية الفخمة والإحصاءات المؤثرة التي يكسو بها السلوكيون دراستهم ماهي إلا لون من ألوان الخداع والتمويه، يخفون به عجزهم عن تفسير الحقيقة البسيطة التى تقول: إن اللغة ليست نمطا من العادات، وإنها تختلف جوهريا عن طرق الاتصال عند الحيوان.
كما عارض النظرية التوزيعية على أساس أن التحليل اللغوي لا ينبغي أن يكون وصفا لما قد قاله المتكلمون، وإنّما شرح وتعليل للعمليات الذهنية التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتكلم بجمل جديدة، وبهذا نجده ينتقل من النزعة التجريبية المعتمدة على المنهج السلوكي، كونه تبنى في بدايته أفكار أستاذه هارس، إلى النزعة الذهنية القائمة على تعليل وتفسير الحدث الكلامي والقدرة الضمنية التي تُظهر هذه الأشكال، فابتعد بذلك عن أفكار أستاذه هارس. ولكنّ هذا لم يمنعه من إهمال الدلالة والعزوف عنها كما فعل السلوكيون، ثم يعود ليستقل عن أفكارهم في كتابه (البنى النحوية) ملحا على ما أسماه ب (القدرة الخلاقة للغة الإنسانية) جاعلا من نظريته التوليدية نظرية تعكس قدرة الإنسان واستعداده الفطري على إنتاج وفهم جمل لم تقل ولم تسمع من قبل، فأراد بذلك تجاوز الوصف البنيوي والإجابة على جملة من التساؤلات أهمها:
كيف يمكن للمتكلم أن يخرج هذه السلسلة من الأصوات؟ كيف يخرجها من الناحية الفيزيولوجية؟ ماهي القدرة التي تمكّنه من إخراج اللفظ الدال؟
قد ألح تشومسكي منذ البدء على القدرة الإبداعية للغة الإنسانية، فكل المتكلمين بلغة ما قادرون على التحكم في إنتاج جمل وفهمها دون سماعهم بها من قبل، ولذلك جاء بنظرية النحو التوليدي، وهو عنده ( نظام من القواعد التي تقدم وصفا تركيبيا للجمل بطريقة واضحة، وأكثر تحديدا... وكل متكلم تكلم لغة، يكون قد استعملها واستبطن نحوا توليديا، وهذا لا يعني أنه على وعي بالقواعد الباطنية التي يكون قد استعملها أو سيكون على وعي بها... إن النحو التوليدي يهتم بما يعرفه المتكلم فعلا، وليس بما يمكنه أن يعرفه ) فهو تلك المعرفة اللاواعية بالنظام التركيبي، الدلالي والفونولوجي لأية لغة، والذي يسمح للمتكلم بإنتاج عدد غير محدود من الجمل الصحيحة نحويا ودلاليا بفضل الطاقة الترددية لقواعدها.
مبادئ النحو التحويلي التوليدي:
1/ الكفاية والأداء(الملكة والتأدية): يرى تشومسكي أن للغة وجهين، أحدهما ذهني خالص سماه الكفاية( الملكة LA COMPETENCE) والآخر عملي منطوق مسموع سماه الأداء (LA PERFORMANCE )
أ/ الكفاية أو الملكة: وهي القدرة على بناء أنموذج لغوي ذهني مشترك بين المرسل والمستقبل، سداه الصوت، ولحمته الدلالة، وعلى أساسه تتمثل القواعد اللغوية، فهي لا تتعدى كونها المعرفة اللاواعية والضمنية بقواعد اللغة التي يكتسبها المتكلم منذ طفولته، وتبقى راسخة في ذهنه، فتمكنه فيما بعد من إنتاج العدد غير المحدود من الجمل الجديدة التي لما يسمعها من قبل، إنتاجا ابتكاريا لا مجرد تقليد ساكن، ثم التمييز بين ما هو سليم نحويا وبين غيره.
وتتضمن الكفاية مهارات ذهنية متعددة من أهمها: التصور، ثم التنظيم الذي يجعل كلامنا منظما، ثم التتابع الذي يجعل المهارات الذهنية قادرة على البقاء والاستمرار، ثم الاستدعاء الذي يجعل اللغة مطواعا للحضور في المواقف الحياتية، ثم الاختيار الذي يجعلنا قادرين على انتقاء التعبير المناسب لكل موقف، ثم التقويم الذي يجعلنا نحكم على سلامة لغتنا أو خطئها.
ب/ الأداء: إن تلك الملكة تتجسد في الواقع اللساني المادي من خلال المظهر الكلامي المعروف بالتأدية، وإذا كانت الملكة _كما عرفنا _ هي معرفة المتكلم السامع للغته، فإن أدق وصف للتأدية هو ذلك الوصف الذي يجعل اللغة واقعا حيا في المنطوق والمسموع، بحيث يتحد الأداء الصوتي مع المضمون الدلالي، وبذلك يكون الأداء هو الصورة الواعية التي تمثل الصورة المعقولة من اللغة، أو هو (الاستعمال الفعال للغة في مواقف مادية وواضحة... وإن نحو أية لغة يفترض أن يكون وصفا للملكة الذاتية الأصلية للمتكلم السامع المثالي).
وإذا كانت الأولى( الكفاية) معرفةً بقواعد اللغة، فإن الثانية(الأداء) هي الانعكاس المباشر لها، لكن ذلك الانعكاس ذو طابع فردي يتمايز من شخص للآخر بحسب العوامل الخارجية كضعف الذاكرة، والتعب، والخوف، ودرجة الاهتمام بالموضوع... أما الملكة فعامة ومشتركة بين أبناء المجتمع اللغوي الواحد المتجانس ما داموا جميعا يملكون المعرفة نفسها بنظام اللغة.
وفي الأخير يمكن القول بأن الملكة تظل الخاصية التي تميز الإنسان عن كافة المخلوقات، وتسقط عنه صفة الآلية والحيوانية المجردة من التفكير المبدع، وتيسر له الاستعمال النهائي للتعبير عن اللانهائي من الجمل وفهمها.
2/ التحويل والتوليد: تقوم هذه النظرية على اعتبار مبدأين كبيرين لهما وجود في اللغات الإنسانية كافة هما التوليد(GENERATION) والتحويل(TRANSFORMATION) وبهما سميت هذه النظرية.
أ/ التوليد: هو القدرة على الإنتاج غير المحدود للجمل انطلاقا من العدد المحصور من القواعد، في كل لغة، وفهمها ثم تمييزها عما هو غير سليم نحويا، فهو ليس الإنتاج المادي للجمل، بل القدرة على التمييز بين ما هو نحوي وغيره وطرد الثاني من مجاله اللساني، وهذا بفضل القدرة الذاتية لقواعد اللغة. ويمكن فهم التوليد بكونه انبثاق تركيب أو مجموعة من التراكيب من جملة هي الأصل وتسمى الجملة الأصل بالجملة التوليديةgenerative sentence. وأهم وصف للجملة التوليدية أنها الجملة التي تؤدي معنى مفيدا، مع كونها أقلّ عدد من الكلمات، ومع كونّها أيضا خالية من كل ضروب التحويل فجملة {جاء خالد} جملة توليدية، وأما جملة {خالد جاء} فليست توليدية، فكونها أقل عدد من الكلمات لم يجعلها توليدية لأنّ فيها تقديما وتأخيرا، وهما من وجوه التحويل. هذا إذا اعتبرنا أنّ فيها تقديما وتأخيرا، أما إذا اعتبرناها جملة اسمية لم تكن توليدية كذلك لأنّها ليست أقل عدد من الكلمات فهي جملة مركبة من جملتين: جملة المبتدأ والخبر، والجملة الفعلية.
ب/ التحويل: أما التحويل فعلاقة تربط بين البنية العميقة والبنية السطحية، أي بين التركيب الباطني للجملة وتركيبها الظاهري، فهو عملية نحوية تجري بين البنيتين، وقد نادى به هارس harris من قبل أن يدرسه تلميذه تشومسكي على نحو مفصل، فحسب هارس، يجري التحويل باشتقاق جملة أو مجموعة من الجمل من جملة تسمى الجملة النواة ف { فهم زيد الدرس} جملة نواة، وهي مثبتة، مبنية للمعلوم، وجملة { فُهِمَ الدرس} جملة محولة مبني فعلها للمجهول، وقد حدث التحويل على النحو التالي:
1/ الفعل+ مورفيم البناء المعلوم+ اسم+ اسم{ فهم زيد الدرس}.
2/الفعل+ مورفيم البناء المجهول+ اسم { فُهِم الدرس}.
وملخص مبدأ التحويل عند تشومسكي، أنّ أهل اللغة قادرون على تحويل الجملة الواحدة إلى عدد كبير من الجمل، فإذا أخذنا جملة { عزفت الفرقة الموسيقية لحن الرجوع الأخير} وأجرينا عليها تحويلات انتهينا إلى اشتقاق جمل كثيرة:
_ عُزِفَتْ الموسيقى لحن الرجوع الأخير{ بالبناء للمجهول}
_ عُزف لحن الرجوع الأخير { بالبناء للمجهول و الحذف}
_ الفرقة الموسيقية عزفت لحن الرجوع الأخير{ بالتقديم و التأخير}
_ الفرقة عزفت لحن الرجوع الأخير {بالتقديم و التأخير و الحذف}
و قد تتحول الجملة الخبرية { افتتحت الندوة أعمالها} إلى استفهامية كثيرة الأنماط:
_ هل افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصديقي}
_متى افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، الزمان}
_ أين افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، المكان}
_ كيف افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، الهيئة}
_ لماذا افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، السبب}
_ من افتتح أعمال الندوة؟ { استفهام تصوري، الذات}
ويصبح التحويل بابا مفتوحا على مصراعيه للنّفي، والتأكيد، والبناء للمجهول، والعطف، والزيادة، والحذف، والتقديم والتأخير وغير ذلك...
-
3/ البنية العميقة والبنية السطحية: هذه الثنائية من أجل فهم دلالة الجملة.
أ/ البنية العميقة: هي التركيب الباطني المجرد الموجود في ذهن المتكلم وجودا فطريا، وهي أول مرحلة من عملية الإنتاج الدلالي للجملة، إنها التركيب المستتر الذي يحمل عناصر التفسير الدلالي.
ب/ البنية السطحية: أما البنية السطحية فتتمثل في التركيب التسلسلي السطحي للوحدات الكلامية المادية، المنطوقة أو المكتوبة، إنها التفسير الصوتي للجملة.
ومن ثم فكل جملة في إطار النحو التحويلي التوليدي تضم بنيتين عميقة وأخرى سطحية، ويقوم المكون التحويلي بالربط بينهما، كما يتم تحديد هاتين البنيتين على مرحلتين هما:
أولا: استخراج أو تحديد البنية العميقة التي تعد أول عنصر ناتج عن عملية اشتقاق الجملة، وهي تضم كافة المعطيات الدلالية، كما أنها عالمية.
ثانيا: تحديد البنية السطحية وهي آخر مرحلة من العملية الاشتقاقية، وتعد المظهر الخارجي للجملة الناتج عن العملية التحويلية التي تحول البنية العميقة إلى شكلها المنطوق الفيزيائي{ ب، س}
وإن التمثيل الذهني المجرد { البنية العميقة} ظاهرة مشتركة بين جميع البشر في جميع اللغات الإنسانية لكونه انعكاسا مباشرا للتفكير، ولذلك فهو عالمي. أما البنية السطحية فمختلفة بين الأشخاص، متباينة بتباين اللغات لأنها التمثيل الصوتي للكلام المجاري للتنظيم الخاص بكل لغة.
_ ينشأ سؤال محّير عند بعض الدارسين عن العلاقة بين التوليد والبنية العميقة deep structure من جانب، والتحويل والبنية السطحية surface structure من جانب آخر، وحتى نستجلي هذه العلاقة لابد أن نقف على حقيقة كل واحدة من البنيتين، أما البنية العميقة فلها صورتان في التحقق الذهني:
_ أولهما: أن يكون لها تحقق مادي موجود في الاستعمالات اللغوية الجارية على ألسنة أبناء اللغة، كما هو الحال في أقل عدد من الكلمات يكون جملة مثبتة مثل: ( الطقس معتدل) وتكون هذه الجملة:
أ/_ توليدية باعتبارها أساسا لكل ما يشتق منها.
ب/_ بنية عميقة.
وفي الحالتين لابد أن تتوفر فيها صفات أربع(saad)
_ أن تكون جملة بسيطة simple غير مركبة، وإلا لم تكن بنية عميقة مثل: { الكتاب موضوعه مفيد} فهذه ليست جملة بسيطة.
_ أن تكون مبنية للمعلوم active لا مبنية للمجهول.
_ أن تكون مثبتةaffirmative لا منفية.
_ أن تكون تقريرية déterminâte لا إنشائية.
_ ثانيهما: ألا يكون للبنية العميقة تحقق منطوق، ففي مثل قولك: { المصنع قريب} تعني ما يأتي: مصنع+ تعريف+ وصف إخباري" قريب"، هذا هو المعنى الحقيقي لهذه الجملة، ولكنك لا تنطق ذلك، بل تحققه بشيء آخر فتقول: المصنع قريب، وعلى ذلك تكون الجملة المنطوقة " المصنع قريب" هي البنية السطحية بهذا الاعتبار فقط و لكنها مع ذلك جملة توليدية لا تحويلية.
وكذلك عند قولنا:{ هذا مرفوض} فالمعنى هو:
شيء ما+ أشير إليه + وصف إخباري (مرفوض) وتكون هذه هي البنية العميقة، وأما جملة (هذا مرفوض) المنطوقة فبنية سطحية بهذا الاعتبار، وعلى الرغم من ذلك فهي جملة توليدية لا تحويلية ( saad)
وهكذا تكون العلاقة بين التوليد والبنية العميقة مضطربة بعض الشيء وكذلك العلاقة بينهما وبين التحويل و البنية السطحية، وقد دفع هذا الاضطراب تشومسكي إلى عدم التركيز على البنية العميقة في المراحل اللاحقة من مراحل بناء النظرية.
الإبداعية: إن الإبداعية استعمال لنظام اللغة استعمالا ابتكاريا تجدديا، لا مجرد تقليد سلبي لقواعده... فكل لغة تتكون من مجموعة من الأصوات، ومع ذلك فهي تنتج أو تولد جملا لا نهاية لها... فإذا كان الأمر كذلك فإن اللغة خلاقة creative بطبيعتها، أي إن كل متكلم يستطيع أن ينطق جملا لم يسبق أن نطقها أحد من قبل، ويستطيع أن يفهم جملا لم يسبق له أن سمعها من قبل، وعليه فالتوليد عملية إبداعية تميز الإنسان، أبله كان أو ذكيا عن بقية المخلوقات الحيوانية، وتسقط عنه صفة الآلية.
النحوية: إن الهدف الأساسي للنحو التوليدي التحويلي هو التمييز بين الجمل النحوية grammaticale البسيطة، وبين الجمل غير النحوية agrammaticale المنحرفة عن قواعد النظام اللغوي الضمني، والواجب إبعادها عنه « فالجملة تكون نحوية في لغة ما إذا كانت جيدة التركيب، وتكون غير نحوية إذا انحرفت بطريقة أو بأخرى عن المبادئ التي تحدد نحوية هذه اللغة»
إن نظرية النحو التوليدي التحويلي لا يقتصر هدفها على مجرد التمييز بين ما هو نحوي وغيره، وطرد الأخير من مجالها، بل إنها تصبو إلى محاولة تصحيح غير النحوي انطلاقا من قواعد نظامها اللغوي، وهذه ميزة تضطلع بهت دون غيرها، وهذه القدرة على التمييز تسمى:
الحدس: وهو جزء من معرفة الإنسان بقواعد اللغة، حيث اتجه تشومسكي إلى تحليل تراكيب اللغة وتفسيرها اعتمادا على حدس المتكلم ومعرفته الضمنية لقواعد لغته، إذ إنّ الحدس هو الذي يكشف إما عن الالتباس في بعض الجمل، وإما يبين التعادل القائم بينها، وقد كان الحدس اللغوي عنده شيئا ثانويا في مرحلته الأولى، ولكنّه أولى له أهمية كبرى في مرحلته الثانية رافضا بذلك تطبيق القوالب الجاهزة مسبقا على اللغات، معتقدا في نهاية المطاف أنّ مصدر المعلومات الملائمة في التحليل اللغوي هو الحكم النّابع من الحدس الذي يصدره الناطقون بتلك اللغة.
ظاهرة الغموض: قد يكون للبناء الخارجي للجملة الواحدة معنيان متمايزان، والتركيب التالي « نقدُ تشومسكي» مثلا يدل على أنه نقَدَ أو انتُقد، فهذا الغموض في التركيب دفع تشومسكي إلى البحث عن البنية الأصلية للتركيب النووي لكل جملة منطوقة أو مكتوبة ليتسنى استيعاب معناها. إن هذين التركيبين، النووي المستتر، والخارجي الظاهر نطقا أو كتابة هما البنية العميقة والبنية السطحية في النحو التوليدي التحويلي.