Topic outline

  • 1نظرية دي سوسير


       في أحضان المنهج التاريخي الذي عُرف خلال القرن التاسع عشر تربى كثير من اللغويين، وعلى رأسهم دي سوسير Ferdinand De Saussure ( 1857- 1913م) قبل أن يتحول عنه إلى منهج آخر ارتبطت به اللسانيات الحديثة أكثر من غيره لكونه أكثر علمية، وهو المنهج الوصفي الذي طرحه دي سوسير بديلا عن التاريخي، فصار الرجل بذلك أبا للسانيات الحديثة دون منازع. وقد أجمعت كل تعريفات اللسانيات Linguistique على كونها دراسة اللغة دراسة علمية، ومن ثم يصلح تطبيق منهجها على كل لغات العالم دون تمييز، شأن اللغة في ذلك شأن كل الظواهر المقصودة بالدراسة العلمية، ولذلك عُرفت بتعريفات عديدة لكنها متفقة حول كونها: العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع، بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية.

    وقد جاء في هذا التعريف مجموعة من الكلمات تمثل أركانا بُني عليها مفهوم اللسانيات وفق نظرية دي سوسير هي:

    1- طبيعة اللسانيات: علم: حيث يعد هذا اللفظ ذا قيمة كبيرة في التعريف، إذ ليس كل بحث علما، ولذلك أراد أصحاب هذا الميدان الرقي بالبحث اللغوي إلى مصاف العلوم من خلال الالتزام بكل ما يقتضيه البحث العلمي عامة من شروط على رأسها الموضوعية، والاعتماد على منهج علمي قائم على الملاحظة الدقيقة للظاهرة المدروسة، والفرضية، والتجريب وصولا إلى صياغة القانون الخاص بها، والذي يضبط حقيقتها وعناصرها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ويصلح تعميمه على كل الظواهر المشابهة. وإذا أمكننا تطبيق ذلك على الظاهرة اللغوية أمكننا الجزم بأن البحوث من طائفة العلوم لا الفنون هي التي تنتمي إليها اللسانيات، وأنها بالضبط من فصيلة العلوم الاجتماعية.

    2- موضوعها: اللغة الإنسانية: فكما أن لكل علم موضوعا يشتغل عليه، فكذلك للسانيات موضوع تهتم بدراسته دراسة علمية، وهو اللغة الإنسانية. وقد يتبادر سؤال إلى الأذهان وهو: ألم يكن موضوع الدراسات اللغوية المعيارية القديمة متعلقا باللغة الإنسانية، وكذلك الأمر بالنسبة للدراستين المقارنة والتاريخية؟! فما الجديد –إذن- ما دام موضوع اللسانيات الحديثة هو موضوع الدراسات اللغوية القديمة نفسه، أي اللغة؟!

     فالجواب عن هذا السؤال يتعلق بطريقة أو منهجية الدراسة التي اختارها المحدثون، كما يتعلق الجواب بفهمٍ جديد للغة، إذ لم يعد مفهوم اللغة لدي المحدثين كمفهومها لدى القدماء. وإذا اختلف المفهوم وتغير المنهج تغيرت- بالضرورة- الدراسة والنتائج. وسنقف بعد هذا التعريف على ثنائية الموضوع عند دي سوسير، إذ فيها يحدد المفهوم الصحيح لموضوع اللسانيات وهو اللغة باعتبارها نظاما أو شكلا لا باعتبارها مادة، مفرقا بينها وبين الكلام، كما سنقف على ثنائية المنهج التي حدد من خلالها دي سوسير طريقة الدراسة العلمية الوصفية للغة باعتبارها نظاما لا باعتبارها مادة.

    3- منهجها: دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع: في هذا الجزء من التعريف تقليل من شأن المنهج التاريخي دون إنكارٍ له، لأن الدراسات المقدمة حول اللغة والتي يعتبرها أصحابها دراسات علمية لاعتمادها على مناهج البحث العلمي لا يمكن إنكارها، ومن ذلك الدراسات التاريخية التي كشفت بمنهجية علمية عن جوانب من اللغة لم تكن معروفة، غير أنها دراسات تفتقد نوعا ما إلى الدقة أو إلى الشمولية، فالدراسة التاريخية مثلا تناولت اللغة من الخارج مركزة على العوامل المؤثرة في لغة ما والتي أدت بها إلى التغير والتطور بمرور الزمن دون أن تجرؤ على تناولها داخليا، كما تناولتها باعتبارها حدثا ماضيا مكتوبا ولم تفكر في دراستها باعتبارها واقعا حاضرا منطوقا، ومن ثم اهتمت بلغة الماضي مهملة لغة الحاضر... ولذلك رأى دي سوسير أن أنسب منهج لدراسة الظاهرة اللغوية دراسة علمية حقيقية متلافية أخطاء المناهج السابقة -وعلى رأسها التاريخي- هو المنهج الوصفي القائم على المعاينة والملاحظة المباشرة للظاهرة المدروسة، ومن ثم دعا إلى ضرورة دراسة اللغة في ذاتها داخليا، وإلى تقديم اللغة الآنية المنطوقة، دون اشتغال بالعوامل الخارجية – السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية...- التي أثرت على اللغة فأدت إلى تغيرها.

    4- الاحتراز: بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية: وهو استبعادٌ للمنهج المعياري، إذ لا تعد من العلمية في شيء تلك الدراساتُ القائمةُ على صياغة قواعدَ ومعاييرَ قصد تعليمها للناشئة، لأن الدارس العلمي الموضوعي يقف عند حدود الوصف لا يتعداها، ولذلك بيّنها دي سوسير بأنها دراسة اللغة من أجل ذاتها، أي ليس من أجل تعليمها للأجيال أو الافتخار بها كما كان شأن المنهج المعياري. ففي هذا الاحتراز –إذن- تنبيه للدارس لئلا يقع فيما وقع فيه أصحاب المنهج المعياري من غرض تعليمي أبعدهم عن العلمية وجرّدهم من الموضوعية.

    ثنائيات دي سوسير:

      طرح دي سوسير مجموعة من الثنائيات التي بنى عليها نظريته، سواء فيما يتعلق بفهمه الخاص للظاهرة اللغوية، أو فيما يتعلق بطريقة وصف وتحليل هذه الظاهرة علميا، وهي:

    1-   ثنائية الموضوع: اللغة  La Langue والكلام  La Parole:

    اللغة والكلام – وحتى اللسان- عند من سبق دي سوسير -وعند غير المتخصص- شيء واحد، أي " تلك العناصر المادية التي يمكن سماعها ونطقها، وتتسم بخصائص فيزيائية مميزة" وربما قالوا: مُيٍّز الإنسان عن الحيوان باللغة، وللعرب لغة هي غير لغة الفرنسيين، أو كلامهم غير كلام الفرنسيين، أو لسانهم غير لسان الفرنسيين، ولغة زيد أبين من لغة عمرو، أو كلامه أبين من كلامه... و" كثيرا ما نستخدم في كلامنا اليومي كلمة لغة للتعبير عن الكلام، نقول لغته جيدة أو لغته رديئة والمقصود بهذا الاستخدامُ الفردي للغة." وقد يوضح ذلك ما جاء في تعريف ابن جني ( ت 392ه) للغة – وهو من أحسن التعريفات- من خلال اعتباره إياها مادة صوتية – والصوت يدرك بالحواس- حيث قال:" أما حدها – أي اللغة- فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم." حيث يمكن أن يصدق هذا التعريف على ما تنتجه الجماعة، كما يصدق على ما ينتجه الفرد من أصوات تسمى في عرف اللسانيين المحدثين كلاما La Parole، دون إنكار ما جاء في التعريف من نقاط ركز عليها المحدثون في تعريفهم للغة كخاصيتها الاجتماعية، ووظيفتها التواصلية.

    أما اللسانيون الوصفيون المحدثون، وعلى رأسهم دي سوسير فيفرقون بين مصطلحات طالما اعتقد من سبقوهم أنها ذات معنى واحد، وقد اعتمد دي سوسير في تفريقه على ثنائية (اللغة  La Langue والكلام  La Parole) قصد معرفة أي شقي هذه الثنائية يعد موضوعا صالحا للدراسة اللسانية، ومن ثم تعلقت هذه الثنائية -كما ذكرنا- بموضوع الدراسة اللسانية، حيث اختلف مفهوم اللغة (أي اللسان)  La Langueعند دي سوسير -باعتبارها موضوع الدرس اللساني- عن مفهومها لدى من سبقوه، وهو الأمر الذي وضحه من خلال هذه الثنائية، حيث لم يهتد أولئك القدماء إلى التفريق أو رسم حدود فاصلة بين المفردتين فاعتبروهما بمعنى واحد، ولذلك عقد دي سوسير بينهما مقارنة قصد تبيان أوجه الاختلاف بينهما، وتبيان أيهما أجدر بأن يكون موضوعا للدراسة اللسانية، فكان أهم ما ركز عليه هو فكرة النظام التي ارتبطت باسمه وكانت أهم كشوفاته، حيث تصدق عنده على أحد شقي هذه الثنائية دون الآخر.

    انطلق دي سوسير في تفريقه بين شقي هذه الثنائية من ثالوث ( اللغة Le Langage/ اللسان La Langue/ الكلام La Parole) حيث كثيرا ما تتداخل مفاهيم هذه المصطلحات فلا يفرق الناس بينها، وربما اعتبروها مترادفات، ولذلك – ورغبة منه في تحديد أيّ منها يصلح موضوعا للسانيات- فرق بينها باعتبار بعضها متضمنا لبعض حسب الترتيب الذي ذكرناه .              فاللغة  Le Langage: هي اللغة الإنسانية بصفة عامة، وهي ملكة إنسانية تمثل ما تميز به الإنسان بشكل عام عن باقي الكائنات الحية الحيوانية من وسيلة اتصالية راقية لا تشبه طرائق الحيوانات في الاتصال، ولذلك – إذا ما أردنا أن نذكر ما تميز به الإنسان- قلنا: إنه عاقل، إنه مفكر، إنه ذو لغة... فاللغة الحقيقية إذن – باعتبارها ملكة- لا تنسب إلا إلى الإنسان، وهي لغة واحدة غير متعددة، غير أنها لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا، وهو – وإن كان بشريا- إلا أنه يختلف من مجتمع إلى آخر فيتعدد لأجل ذلك.

    فإذا أردنا أن نقدم دراسة علمية عن اللغة الإنسانية فإنه يتوجب علينا معاينة هذه اللغة الإنسانية، غير أننا سنصطدم بحقيقة متعلقة بكون اللغة الإنسانية غير مجسدة في صورة واحدة يمكن إدراكها، حيث إننا إذا طلبنا من أحدهم أن يعبر عن حالة ما باللغة الإنسانية فإنه لا مناص من استعمال الإنجليزية إن كان إنجليزيا، أو الفرنسية إن كان فرنسيا، أو العربية إن كان عربيا، أو العامية إن كان عاميا... أي إن بعض بني الإنسان يتكلم بطريقة معينة، وبعضهم الآخر يتكلم بطرائق أخرى تنتمي جميعُها إلى اللغة الإنسانية، ونجد بعضهم يكتب بطريقة معينة وبعضهم الآخر يكتب بطرائق أخرى... وهكذا، إذ ليس هناك لغة واحدة موحدة بين البشر، وإنما لهم صور متعددة للغة. فهل ننطلق في هذه الدراسة التي أردناها للغة الإنسانية من الإنجليزية أم الفرنسية أم العربية أم... ؟! أننطلق من لغة تكتب من اليمين إلى الشمال أم من لغة تكتب من الشمال إلى اليمين...؟! لأجل هذا قلنا إن اللغة الإنسانية Le Langage لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا La Langue، وداخل تلك الأطر الاجتماعية يمكن دراستُها دراسة علمية.

     وبهذا يتضح أن اللغة  Le Langage– لأنها إنسانية- أعم من اللسان  La Langue– لأنه مجتمعي فقط-، وإنّ هذه اللغة  Le Langage ذات جانبين: جانب جماعيLa Langue، وجانب فرديLa Parole، ولا يمكن تصور أحدهما بغير الآخر أما اللسان La Langue: فمختلف عن اللغة، لأنه يعني اللغة المعينة، كالعربية والفرنسية والإنجليزية... فهو جزء محدد من اللغة، وهو جزء جوهري لكونه نتاجا اجتماعيا لملكة اللغة، ومجموعةً من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة تلك الملكة، فممارسة هذه الملكة لا يكون إلا بمساعدة الوسيلة التي تبدعها المجموعة وتضعها في خدمة هذه الملكة.

     فإذا كانت اللغة ملكة بشرية خُصّ بها الإنسان دون سواه من الكائنات من أجل التواصل، فإن اللسان ظاهرة اجتماعية تمثل نظاما من العلامات التي تعارف عليها أبناء مجتمع معين وتوارثوها جيلا عن جيل فمكّنتهم من التواصل فيما بينهم فقط، ولذلك يمكن القول إن اللسان La Langue: نظام من العلامات الصوتية الاعتباطية التي تُستخدم في الاتصال بين بني الإنسان.

    وليس للسان  La Langueتحقق فعلي، لأنه عبارة عن قوانين وقواعد لغوية ( مجردة غير محسوسة) محصورة موزعة على أذهان أبناء المجتمع الواحد، أو هو كما – كما عرّفه دي سوسير-" رصيد (trésor) يُستودع في الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع واحد بفضل مباشرتهم للكلام، وهو نظام نحوي يوجد وجودا (تقديريا) في كل دماغ، أو على الأصح في أدمغة المجموع من الأشخاص، لأن اللسان لا يوجد كله عند أحد منهم بل وجوده بالتمام لا يحصل إلا عند الجماعة."

    والناس حين يتواصلون-ويحصل بينهم فهم متبادل- لا يتكلمون القواعد(لأنها مجردة غير محسوسة) وإنما ينشئون كلاما(مادي محسوس) منطوقا أو مكتوبا، ويتفاوتون في ذلك، انطلاقا من تلك القواعد ووفقا لها، فينقلون " اللغة من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عن طريق الكلام أو الاستعمال".

    فاللسان أشبه ما يكون ببرمجة (مجردة) آلية موحَّدة لمجموعة من الحواسيب زُوِّدت جميعا بنظام واحد (وليكن نظام الوورد2007)، حيث إننا إذا كتبا نصا (مادي محسوس) وفق ذاك النظام (وورد2007) المسجل في ذاكرة حاسوبنا، فإنه لا يمكن أن نطلق اسم الوورد على ذلك النص، لأن النص المُنتَج ليس عبارة عن قوانين، وإنما هو مُنتَج مادي حصلنا عليه انطلاقا من القانون المجرد(وورد2007) الذي بُرمج عليه حاسوبنا– وهو ليس ملكا لحاسوبنا وحده-ومن ثم فإنه بإمكاننا أن ننقل ذاك النص إلى حواسيب أخرى، فإذا كانت تلك الحواسيب مزودة بالبرنامج نفسه( وورد2007) استطاعت أن تقرأ النص، وكأنها تواصلت مع حاسوبنا الذي ينتمي إلى مجتمعها، أما إذا لم تكن مزودة بالبرنامج نفسه(وورد2007) -مع كونها مزودة ببرامج أخرى- فإنها لن تستطيع قراءة النص، وكأنها حاولت التواصل مع حاسوبنا فلم تفلح لأنه لا ينتمي إلى مجتمعها وإنما ينتمي إلى مجتمع آخر. ومثل النص الذي أنتجه حاسوبنا وقرأته الحواسيب الأخرى المماثلة فإنه باستطاعة تلك الحواسيب إنتاجُ نصوص أخرى لا حصر لها وقراءتُها أو فهمُها انطلاقا من كونها مزودة بالبرنامج نفسه.

     فهل يُستساغ بعد الآن الخلط أو عدم التفريق بين النظام وبين ما ينتجه ذلك النظام؟! إن طبيعة كلٍ منهما تختلف عن طبيعة الآخر، فطبيعة اللسان La Langueتختلف عن طبيعة ما ينتجه اللسان، وهو الذي سماه دي سوسير كلاما  La Parole كما سنتعرف على ذلك.

    معنى كون اللغة (اللسان)  La Langue  نظاما:

        لنا أن نطرح السؤال التالي – إذا أردنا أن نفهم ماهية النظام بصفة عامة -: ما الذي جعل من كومةٍ من الرمل والحصى، وحزمةٍ من الحديد، وأكياسٍ من الإسمنت، وقطعٍ من الخشب، وصفائحَ من الزجاج و... ما الذي جعل من هذا الركام بيتا جميلا مرة؟ وحجرة دراسة مرة أخرى؟ ومسجدا مرة ثالثة؟... إنها الأنساق (الأنظمة) التي نُظمت وفقها تلك العناصر، فلولا النسق (النظام) لبقيت تلك العناصر مجرد أكوام من الرمل والحصى والحديد... لولا النسق (النظام) لما كان لأيٍّ منها قيمة، أي لولا المخطط الذي اختاره المهندس، ولولا معرفة أين يوضع الحديد؟ ومن أي عيار؟ وكيف ينسج؟ وكيف تخلط الخرسانة؟ وما نسبة الإسمنت فيها؟ وما نسبة كلٍ من الماء والرمل والحصى؟ ولولا معرفة أن الأساس يُقدَّم علة الأعمدة، وأن الأعمدة تُقدَّم على الجدران، وأن السقف يأتي في الأخير... لولا إتقانُ كل هذا، وتفاعلُ كلِّ هذه العناصر، وقيامُ كلٍ منها بدوره، والتزامُه بمكانه لما حصلنا على ذلك البيت المتقن، أو الحجرة الدراسية الرائعة، أو المسجد الجميل... فمن عرّف اللغة خارج مفهوم النظام – بكونها أصواتا- كان كمن عرّف البيت بكونه كومةً من الرمل والحصى ...  إلخ.

        إن اعتبار اللغة (اللسان) نظاما عند دي سوسير يعني أنها بنية تحكمها شبكة من العلاقات الداخلية التي تربط مستويات اللغة بعضها ببعض، أو إنها مجموعة من الأنظمة تتكامل فيما بينها ولا يمكن فصل نظام عن آخر أثناء التأدية الفعلية للكلام. فاللغة -إذن- ليست مجرد قائمة من المفردات ولاهي " مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتعلم في القواميس، أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته." إنما تُتصور اللغة وتُوصف باعتبارها نظاما " من العناصر المترابطة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، لا على أنها تراكم من كيانات قائمة بذاتها."

                                                4/ المستوى الدلالي                   (تُدرس الدلالة دراسة علمية)

                           

                                          3/ المستوى التركيبي        (لا تُدرس الجمل، بل أنماط الجمل)       

    اللغة (اللسان) La Langue = نظام                                                          

                                              2/ المستوى الصرفي           (لا تُدرس الكلمات، بل أنساق الكلمات)

         

                                       1/ المستوى الصوتي            (لا تُدرس الأصوات، بل قوانين الأصوات ووظائفها )                                                                                            

        إن النظام في اللغة (اللسان) يعني – في اللسانيات- تلك العلاقات المتبادلة للعناصر، "العلاقات بين العناصر، وليس العناصر نفسها هي موضوع العلم." ومن ثم قال دي سوسير بأولوية النسق أو النظام – في الدراسة اللسانية- على العناصر، ووظيفة اللسانيِّ هي استكشافُ تلك العلاقات التفاعلية الداخلية بين عناصر النسق، ووصفُها وتحليلُها، فلا يُحدَّد أيُّ عنصر إلا من خلال علاقته الخلافية مع العناصر الأخرى، لأن حصول التغير على أحد العناصر يعني تغيرَ النظام كلِّه أو ربما تعطُّلَه، فإذا قلتُ:( صباح هذا اليوم أيقظني منبه الساعة) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي خاص في لغتنا العربية، وإذا قلتُ:(أيقظني منبه الساعة صباح هذا اليوم) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي آخر تتيحه لغتنا، أما إذا قلتُ:( منبه أيقظني هذا صباح اليوم) فإن النظام في هذه الحالة قد تعطل، ولا أحد من أبناء العربية يوافقني على ما نطقته من تركيب فاسد، لا لشيء إلا لأني خالفت النظام ولم ألتزم به – مع أني صغت تلك القطعة من العناصر نفسِها التي ركبتُ منها التركيبين الأول والثاني !

    أما الكلام La Parole: فهو التأدية الفعلية الفردية للسان، أي ما ينتجه فرد ما داخل مجتمعه انطلاقا مما يعرفه من نظام وقوانين وقواعد لسانِه ( كاللسان العربي أو الفرنسي أو الإنجليزي...) ولذلك فهو " نشاط شخصي مراقب، يمكن ملاحظته من خلال كلام الأفراد أو كتاباتهم." ومن ثم يتعدد الكلام داخل المجتمع الواحد بتعدد الأفراد الناطقين، فأقول: سمعت كلام زيد، وأعجبت بكلام فاطمة... لأنه– حسب دي سوسير- إنتاج شخصي خاص بالفرد الذي أنتجه صوتا أو كتابة، دون أن ننسب الكلام إلى الجماعة، لأن للجماعة لساناLangue وليس لها كلامParole، ومن ثم اعتُبر (الكلام) العنصر الأضيق بين هذه العناصر الثلاث( اللغة/ اللسان/ الكلام)، فالكلام متضمَّن في اللسان، واللسان متضمَّن في اللغة، أو فلنقل: اللغة مشتملة على مجموعة من الألسنة، وكل لسان مشتمل على كلام كثيرٍ من الناس.

    وباختصار نقول إن دي سوسير استطاع التمييز بين ما هو ملكة بشرية، وما هو تواضع اجتماعي، وما هو نشاط فردي متعلق بالذكاء والإرادة، حيث إن:

    اللغة Le Langage: هي ما يميز الإنسان عامة عن بقية العوالم الأخرى من ملكة لغوية.

    اللسان La Langue: يكون داخل اللغة، وهو ما يميز مجتمعا عن آخر، كالذي يتميز به المجتمع العربي عن المجتمع الفرنسي أو الإنجليزي –مثلا- من نظام لغوي معين.

    الكلام La Parole: يكون داخل اللسان الواحد، وهو ما يميز شخصا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كالذي يتميز به زيد عن عمرو –مثلا- فيما ينتجه كل منهما.

    يمكننا القول - بعد هذا التفريق- إن اللسانيات تهدف إلى دراسة اللغة الإنسانية Le Langage بصفة عامة، ولما كان غيرَ ممكن إدراكُ هذه اللغة الإنسانية إلا في وفق وجودين، أحدهما اجتماعي وهو نظام يميز جماعة عن أخرى La Langue، والآخر فردي وهو أداء La Parole يميز فردا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كان لزاما على دي سوسير أن يختار أيّ هذين الوجودين ( النظام الاجتماعي أم الأداء الفردي) أولى بالدراسة العلمية.

    وقد قرر دي سوسير غير مرة في كتابه أن اللسان La Langue هو موضوع الدراسة وحده، لكن الكلام La Parole هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لدراسة اللسان دراسة علمية لكونه –أي اللسان- مجردا لا يمكن التعرف عليه إلا من خلال كثيرٍ من الكلام الذي أنتجه أبناء مجتمع ما انطلاقا من قواعده، وفي هذا يقول روبنز:" بينما يشكل ( Parole) أو الكلام المادة التي يمكن الحصـول عـلـيـهـا مباشرة، فإن الهدف الصحيح للغوي هو ( Langue) لغةُ كل جماعة لغوية، أي المعجم والقواعد والفونولوجيا المغروسة في كل فردٍ بسبب نشأته في اﻟﻤﺠتمع المعين وتنشئته على الأسس التي وفقا لها يتكلم لغة هذا اﻟﻤﺠتمع ويفهمها."

    لم اعتبرت اللغة ( اللسان La Langue) أولى في الدراسة اللسانية من الكلام La Parole على الرغم من كونهما جانبين متناظرين لظاهرة واحدة هي اللغة الإنسانية؟!

    بإجراء مقارنة بين اللغة La Langue( التي سميناها من قبل لسانا) وبين الكلام La Parole من خلال خصائص كل منهما تتبين أفضلية اللغة في الدراسة اللسانية على الكلام، وبمثل تلك المقارنة استطاع دي سوسير أن يميز –باقتدار- المستوى الذي يتأثر بذكاء الفرد وثقافته وإرادته، من المستوى الذي يعمل البنيويون على كشفه ووصفه ودراسته. فكثيرة هي الخصائص التي جعلت من اللغة(اللسان) La Langueموضوعا للدرس اللساني، ويكفيها كونها قواعد قارة ثابتة من صنع المجتمع لا من صنع الأفراد، والثابت يمكن ملاحظته ووصفه وصفا دقيقا، بخلاف ما لم يكن قارا كما هي حال الكلام La Parole باعتباره نشاطا فرديا متنوعا متعلقا بذكاء الفرد وإرادته. وقد ذهب ستيفن أولمان إلى أبعد من ذلك حين ركز على ما يلي: اللغة ثابتة مستقرة والكلام عابر سريع الزوال، واللغة تفرض علينا من الخارج في حين الكلام نشاط متعمّد مقصود، كما أن اللغة اجتماعية والكلام فردي.

        وقد رسم محمد قاسم المومني حدودا فاصلة بين المصطلحين لا تخرج في مجملها عن تلك الحدود التي بينها دي سوسير، فقال:"...أما (Langue) فهو النظام الذي يتعالى على الأفراد، هي جملة القواعد التي تحدِّد ضمن حالة لغوية استعمالَ الأصوات والأشكال ووسائل التعبير التركيبية والمعجمية. فهي تجريد باعتبارها نظاما متعاليا. وهي ظاهرة اجتماعية بما أنها توفر النمط الذي يحتذيه كل أفراد المجموعة اللغوية الواحدة في أفعالهم اللسانية وردود أفعالهم. أما (Parole) فهي تخص الاستعمال الفردي لهذا النظام المتعالي، فهي ظاهرة فردية محسوسة تخرج بالوضع اللغوي من وضع التجريد إلى وضع المحسوس، ومن وضع القاعدة إلى وضع استعمال القاعدة."

        كما أن اللغة(اللسان) La Langueسابقة للكلام باقية بعده، إذ إنها موجودة وإن لم تُنطق، يقول ليونز:" هناك علاقة وثيقة بين اللغة والكلام، ومنطقيا فإن الأخير (الكلام) يفترض سلفا الأول (اللغة) أي: إن المرء لا يستطيع الكلام دون استخدام اللغة، أي بدون التكلم بلغة معينة، لكن من الممكن أن يستخدم اللغة دون أن يتكلم."

       إضافة إلى عدم إحاطة الفرد باللغة (اللسان) La Langue لسعتها، وقديما قال الشافعي في الرسالة:" لا يحيط باللغة إلا نبي." إذ إنها ليست موجودة بشكل مكتمل عند أي متكلم وإنما وجودها المكتمل متعلق بالجماعة، فكل فرد يحاول أن يأتي كلامُه وفق لغة مجتمعه، ولكن لا يمكن أن يحققها تحقيقا كاملا، فاستعماله لها استعمال نسبي ولذلك نجد الأفراد متفاوتين في مراعاة قواعد لغتهم، ولعل هذا من أهم الخصائص التي دفعت بدي سوسير لأن يتخذ اللسان (اللغة)  La Langueموضوعا للدرس اللساني، خاصة أن كلام الأفراد يتحقق في صُوَر كثيرة غير محصورة سواء أتعلق الأمر بالمفردات أم بالعبارات والجمل، وهي منتجات لا سبيل إلى حصرها فضلا عن دراستها. أما القوانينُ والقوالب التي تصاغ وفقها تلك المفردات، والأنماطُ التي تبنى عليها تلك الجمل فمحصورةٌ معروفة في كل لغة ولذلك يمكن دراستها، ومن ثم كان موضوع الدراسة العلمية للسان مقصورا على تلك القواعد والأنماط أو النماذج التي يأتي الكلام وفقها.

         فبإمكاننا أن ننجز عددا غير متناهٍ من الجمل التي تشبه جملتنا (أكل الولد التفاحة) والتي جاءت وفق النمط التالي(فعل ماض+ فاعل معرف ب "ال" + مفعول معرف ب "ال") فنقول: قرأ الطالب النص- راجع التلميذ الدرس– حرث الفلاح الأرض- قرض الفأر الحبل... لنجد أنفسنا أمام جمل غير محصورة، ولكنها وفق نمط واحد على منواله أُنشِئَت تلك الجمل، ولذلك لا ينبغي أن ندرس كل تلك الجمل التي تمثل قائمة مفتوحة، وإنما ينبغي أن ندرس تلك النماذج والقواعد المحصورة في كل لغة.


  • نظرية دي سوسير2

    ثنائية المنهج: (الآنية والزمانية)

    إذا كانت الثنائية الأولى (اللغة/ الكلام) متعلقة بسؤال هو: ما موضوع اللسانيات؟ فكان طرفا تلك الثنائية( اللغة/ الكلام) من أجل اختيار أحدهما موضوعا للدرس اللساني واستبعاد الآخر، فإن سؤالا آخر يُطرح الآن وهو متعلق بكيفية التعامل علميا مع ما تم اختياره موضوعا لهذه الدراسة، وهو اللغة.

     ولما كان الكون محكوما بالحركة والسكون كانت كل الظواهر الكونية معرَّضة لهاتين الحالتين(الحركة /السكون) ومن تلك الظواهر الظاهرة اللغوية – موضوع الدرس اللساني- ولذلك فإن السؤال المطروح فيما يتعلق بكيفية التعامل علميا مع اللغة هو: ما هي النظرة الأَوْلى بالتقديم في دراسة النظام اللغوي دراسة علمية؟ أهي النظرة الآنية باعتبار اللغة ساكنة، أم النظرة التاريخية باعتبار اللغة متطورة؟

       ومن ثم فإن الإجابة عن ذلك السؤال المتعلق بكيفية التعامل مع اللغة- تبعا لما تعرفه اللغة من حركة وسكون- أدت بدي سوسير إلى الإقرار بوجود نوعين من الدراسة يجب التمييز بينهما، وهما الدراسة الآنية أو السكونية، والدراسة الزمانية أو التطورية، حيث تقدم لنا كل دراسةٍ حقائقَ عن اللغة مختلفةً عما تقدمه الدراسة الأخرى " وهذا منه محاولة إصلاح للآراء الخاطئة التي أضلت أكثر اللغويين الغربيين منذ أن افتتنوا بمفهوم التطور كمفهوم إجرائي في تحليل الظواهر، وقابلوا به المعيارية النحوية أو المنطقية العقيمة."

       إن اختلاف ما تقدمه هاتان النظرتان شبيه إلى حد بعيد بوصفين مختلفين قدمهما تلميذان لغزال جميل، حيث قدم التلميذ الأول وصفه للغزال وهو طليق بعيد عنه يعدو في البراري، بينما قدم التلميذ الثاني وصفه للغزال وهو قريب منه مسجون في قفص، فلا شك أن الوصفين يختلفان من حيث الدقة، ولا شك أن وصف القريب أدق، لأن ملاحظةَ الثابت المستقر- فضلا عن كونه قريبا- ووصفَه أوضحُ وأدق من ملاحظة المتحرك- فضلا عن كونه بعيدا- وذلك لأن الحركة كثيرا ما تعيق الدراسة الدقيقة، وكمثال آخر فإننا لا نستطيع تشريح أرنب لدراسة أنسجته مثلا إلا بتخديره، فذلك التخدير يسكن ويمنع الحركة ويمكّن من الملاحظة الدقيقة المريحة وما كنا لنحصل عليها لو كان متحركا غير مخدّر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللغة، حيث إن الناظر إلى لغة معينة كما هي متداولة بين أبنائها يدرك أنها ساكنة ثابتة فلا يشعر بأي حركة أو تطور فيها، بينما إذا نظر إلى تلك اللغة عبر تاريخها أدرك أنها متحركة متطورة من زمن إلى آخر، فهذا الناظر يدرك أنها ساكنة في الزمن الواحد، غير أنها متطورة إذا اختلفت الأزمنة، وكأنها كما وصف الله عز وجل الجبال في قوله:{ وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مرَّ السَّحَاب }[النمل/88].

       وكما سمينا الثنائية السابقة ثنائية الموضوع، يمكن تسمية هذه الثنائية بثنائية المنهج (آني/ زماني) نسبة إلى الحالة التي تكون عليها اللغة أثناء دراستها، إما حالة ثبات وسكون، وإما حالة حركة وتطور. ومن خلال هذه الثنائية أيضا، وبعرض خصائص كل من البعدين الآني والزماني، يمكن الوقوف على قيمة ما نبّه إليه دي سوسير من ضرورة الاعتماد على الرؤيتين في دراسة اللغة دون خلط بينهما، مع إلزامية تقديم الآنية على الزمانية:

    1/ الزماني: تختص الزمانية أو التعاقبية باللسانيات الخارجية بوصف المراحل التطورية للغة عبر الأزمنة المتتابعة حيث تدرس تطور اللغات وعلاقة ذلك بالسياسة والمجتمع والثقافة... "فثقافة أمة ما تؤثر تأثيرا ملموسا في لغتها، كما أن اللغة من المقومات المهمة للأمة." وهي الدراسة التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر –أي قبل دي سوسير- والتي كان يعتقد أصحابها أنها الدراسة العلمية الوحيدة للغة حتى قالوا:" لا علم إلا في المنهج التاريخي" فكادوا أن يهملوا اللغات المعاصرة التي تمثل الحاضر.

    ويمثل البعد الزماني (التعاقبي، التطوري، التاريخي...) دراسةَ اللغة حسب الهيئات التي اتخذتها بمرور الزمن، من خلال ملاحظة تلك التطورات وتسجيلها وإرجاعها إلى عواملها المؤثرة فيها بغية الوقوف على القوانين العامة لتطور اللغات ومن ثم التنبؤ بمستقبلها...

    2/ الآني: بينما تختص الآنية أو التزامنية –التي دعا إليها دي سوسير- بوصف حالة اللغة كما تجري في زمن معين ومكان معين بقطع النظر عن حالتها التي كانت عليها قبل ذاك الزمن أو بعده، أي تدرسها في ذاتها وبمعزل عن التاريخِ وعن كلِّ العوامل الخارجية المؤثرة فيها. حيث يتعين على اللساني – وفق هذه الرؤية- دراسة نظام اللغة كما يجري في لحظة من اللحظات، من خلال الاهتمام باللسانيات الداخلية التي تدرس نسق اللغة وقواعدها الباطنية.

     فحتى يوصف النظام وصفا دقيقا ويحلل تحليلا علميا لا بد أن يكون ذلك النظام في حالة سكون وثبات، فيُبحث المستوى اللغوي الواحد من جوانبه الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية في زمن بعينه ومكان بعينه، وإذا استطعنا وصفه وهو ساكن أمكننا بعد ذلك فقط ملاحظة التغيرات الطارئة عليه بتعاقب الأزمنة. ولذلك ألح دي سوسير على أن الدراسة الزمانية لا يمكن أن تؤتيَ أكلَها إلا بعد دراسة نظام اللغة المقصودة وضبطه عبر أزمنة مختلفة، ولا يكون ذلك إلا بتسكين اللغة في زمن محدد للتمكن من معرفة نظامها في مختلف مستوياتها، ثم فعل الشيء نفسه في زمن آخر ثابت، وهكذا دواليك ليتسنى للباحث بعد ذلك دراسة التطور ووصفه وصفا دقيقا في أي مستوى من مستويات اللغة المعينة بمقارنة حالها من زمن إلى آخر اعتمادا على ما قدمه المنهج الوصفي من معطيات علمية لتلك اللغة خاصةٍ بأزمنة محددة.

         

        وبهذا يكون دي سوسير أشهر من دعا إلى ضرورة التمييز وعدم الخلط بين المنهجين، لأن هناك فرقا بين الشيء وبين تاريخ ذلك الشيء – كما بين ذلك من خلال مثاله المشهور عن لعبة الشطرنج- حيث " صاغ وأوضح ما اعتبره اللغويون السابقون أمرا مفروغا منه أو تجاهلوه، وهو البعدان الأساسيان الضروريان للدراسة اللغوية. والبعد الأول هو الدراسة التزامنـيـة Synchronic التي تعالَجُ فيها اللغـاتُ بـوصـفـهـا أنظمة اتصال تامة في ذاتها في أي زمن بعيد، والبعد الثاني هو الدراسـة التعاقبية (التاريـخـيـة) diachronic التي تعالَج فيها تاريخيا عوامـلُ الـتـغـيـيـرِ التي تخضع لها اللغات في مسيرة الزمن. ولـقـد كـان إنجـازا لـسـوسـيـر أن يميز بين هذين البعدين أو المحورين لعلم اللغة: البعد التزامني أو الوصفي، والبعد التعاقبي أو التاريخي، وكل منهما يستخدم مناهجه ومبادئه الخاصة به وأساسياته في أي مقرر تعليمي ملائـم لـلـدراسـة الـلـغـويـة أو الـتـدريـس اللغوي".

    ولما كان لكل بُعد من هذين البعدين مناهجه ومبادؤه الخاصة تمايزت الدراسةُ الوصفية الآنية التي دعا إليها دي سوسير عن الدراسة التعاقبية التاريخية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، واستقلت بذاتها، لأن الدراسة التاريخية متنافية -إلى حد بعيد- مع دراسة اللغة كنظام، ولذلك قيل:" العلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية." وهو الأمر الذي جعل من اللسانيات التزامنية – الآنية- علما مختلفا الاختلافَ كلَّه عن اللسانيات التعاقبية – الزمانية- منهجا وموضوعا، فضلا عن قيمتها – لقيمة منهجها الوصفي- التي فاقت قيمة اللسانيات التاريخية، وهو ما جعلها مدينةً – إلى مدى بعيد- بِعِلَّة وجودها للمنهج أكثر مما هي مدينةٌ للموضوع.

    ولذلك لابد من الإقرار- إذن- بعد عرضنا لخصائص كل من المنهجين التاريخي التعاقبي، والوصفي الآني بأن أزمة الدراسة اللغوية بصفة عامة هي أزمة منهج، وهو الأمر الذي أقر به دي سوسير، ولولا تلك الأزمة ما جثمت المعيارية على صدر الدراسة اللغوية قرونا طويلة... وإذا اعتُبر الاهتداءُ إلى المنهج التاريخي حلا لمجابهة تلك الأزمة، فإن ذاك الحل نفسه سرعان ما تحوّل إلى أزمة حين لم ينظر إلى اللغة إلا من جانب واحد متعلق بهيئتها التطورية الناتجة عن مخلَّفات التاريخ متغاضيا عن هيئتها السكونية، ولم يدرس من اللغة إلا اللغةَ الماضية المكتوبة مهملا بذلك اللغة الحاضرة المنطوقة، فضلا عن قصوره عن دراسة اللغة في ذاتها دراسة داخلية مكتفيا في ذلك بالدراسة الخارجية... فإذا كانت هذه النقاط السلبية محسوبة على المنهج التاريخي المتعلق بالماضي فإن ذلك يعني أن أزمة المنهج لازالت قائمة، ولابد للأزمة من حل، وهو ما تجلى في الدراسة الوصفية الآنية التي اهتدى إليها دي سوسير مبينا ضرورتها وقيمتها مقارنا بينها وبين الدراسة التاريخية التي كانت سائدة من قبل والتي كان يعتقد اللسانيون أنها الدراسة اللغوية العلمية الوحيدة.

    وبهذا التمييز بين الدراستين يكون دي سوسير- الأب الروحي للبنيوية- قد قدم لنا إجابة وافية عن السؤال المتعلق بأيّ المنهجين – الوصفي أم التاريخي- أوْلى بالتقديم في دراسة اللغة باعتبارها نظاما؟ وهي الإجابة التي يبرئ من خلالها نفسه من أن يكون رافضا للدراسة التاريخية أو منكرا لقيمتها.


  • نظرية دي سوسير 3


    3- ثنائية العلامة اللغوية Signe (الدليل اللغوي أو الوحدة اللغوية أو الرمز اللغوي): الدال Signifiant والمدلولSignifié : تعد العلامة اللغوية - باعتبارها مما كشفت عنه الدراسة الوصفية الداخلية لنظام اللغة- ذات أهمية بالغة في الدراسة اللسانية، فهي المركز الذي دارت حوله أبحاث دي سوسير، وما تفريقه بين ثالوث (اللغة واللسان والكلام) وإقرارُه بأن اللسان هو موضوع الدرس اللساني إلا لتوضيح ما يقوم عليه نظام اللسان من أدلةٍ، ولذلك عرّف اللسان بكونه نظاما من العلامات الصوتية أو الأدلة اللغوية المخزّنة في أذهان أبناء الجماعة اللغوية الواحدة، وحتى يُكشف عن ذاك النظام لابد من الكشف عن العلامة اللغوية من خلال مفهومها، وطبيعتها، وخصائصها، وعلاقة بعضها ببعض... وهو ما يؤكد– بما لا يدع مجالا للشك- إقامةَ اللسانيات جوهرَ تعريفها للظاهرة اللغوية على مفهوم العلامة.

    مفهوم العلامة: العلامة اللغوية من أهم ما يتكون منه الجهاز اللغوي، وهي وحدة لغوية ناشئة عن اتحاد عنصرين هما الدال والمدلول، اتحادا ذهنيا غير قابل للانفصال كاتحاد وجهي الورقة الواحدة. فكل ما ينتمي إلى مجتمع معين من وحدات لغوية (أسماء، أفعال، أدوات...) خزّنها أبناء ذلك المجتمع في أذهانهم واستعملوها وتواصلوا بها فيما بينهم دون أن ينكر أحدهم على الآخر أو يخطئه تسمى علامات لغوية سواء نطقوها أثناء كلامهم أو كتبوها أو لم يفعلوا ذلك واكتفوا باستعمالها ذهنيا كمن يحدِّث نفسه أو يقرأ قصيدة دون تلفظ... فهي – إذن- موجودة في النفس أو الذهن حتى وإن لم ننطقها، ومن ذلك: كرسي، طاولة، قلم، كتاب، أكل، جلس، فوق... كلها علامات مخزنة في أذهان أبناء العرب – بنسب متفاوتة- يستعملونها متى شاءوا نطقا أو كتابة، بل حتى عن طريق الحوار الداخلي دون اعتماد على جهاز النطق لأن العلامة بشقيها (الدال والمدلول) مستودعة في الذهن، ومتى أردنا التواصل عُدنا إلى ذلك المستودع سواء كنا مخاطِبين أو مخاطَبين.

    وإذا كانت العلامة بهذا المفهوم فهل يعرف كل أبناء المجتمع الواحد جميع العلامات اللغوية على حد سواء؟ والإجابة عن هذا السؤال: بالطبع لا، فبهذه العلامات مع ما تخضع له من نظام خاصٍ تتشكلُ اللغةُ، واللغة –كما عرفنا- ملكُ المجتمع وليست ملكَ الأفراد، ولذلك يستحيل أن يحيط فردٌ ما بلغةِ مجتمعِه كلِها، وكذلك الأمر بالنسبة للعلامات اللغوية. وحتى يتضح ذلك أكثر نقول: ما الذي يمنع كثيرا من أبناء العرب من أن يفهموا أو أن يستعملوا علامات مثل: همرجلة، شيظم، تنوفية، شَبْرَقَ، أَرْقَلَ... التي وردت في قول الشاعر:

    حَلَفْتُ بما أَرْقَلَتْ نَحْوَه... هَمَرْجَلَةٌ خَلْقُهَا شَيْظَمُ

    وَمَا شَبْرَقَتْ مِنْ تَنُوفِيَةٍ... بِهَا مِنْ وَحَى الجِنِّ زَيْزَيْزَمُ.

    فكثير منهم، وإن أدركوا تتابع هذه الأصوات وتمايزها عن غيرها، إلا أنها لا تعدو كونها أصواتا تلقّفتها آذانُهم شبيهةً بأصواتٍ صادرة عن متحدث هندي أو صيني...، لا لشيء إلا لأنهم لا يملكون في أذهانهم صورا ذهنية (مدلولات) مقابلة لذلك التتابع الصوتي، وإذا ما بيّنا مدلول كل تتابع صوتي مما ذكرنا صارت تلك العلامات – بعد اتحاد الدوال بالمدلولات- جاهزة لأن يتواصل بها من جهلوها من قبل إرسالا واستقبالا، ولذلك لا يمكن للعلامة أن تتشكل إلا باتحاد الدال بالمدلول وفق ما يقضيه المجتمع لا الفرد، فلا قيمة لدال خالٍ من المدلول ولا لمدلول ليس له دال، كما أنه لا قيمة لعلامة صنعها الفرد ولم تتلقّفها الجماعة بالقبول والتداول.

    طبيعة العلامة: العلامة اللغوية باعتبارها "محصلة ارتباط بين الدال والمدلول" كما يرى دي سوسير، أو باعتبارها " موضوعا قابلا للتحليل ضمن مستويين يسميهما سوسير تباعا بالدال والمدلول" لا تربط اسما بشيء، فهي غير ثنائية (الاسم والمسمى) كما أنها تختلف عنده عن ثنائية (اللفظ والمعنى) وذلك لما تميزت به من طبيعة سيكولوجية شملت طرفيها (الدال والمدلول)، وفي هذا الفهم الخاص للعلامة اللغوية باعتبارها كيانا ثنائيا يتألف من الربط بين عنصرين بيانٌ لطبيعة هذين العنصرين، وإجابة عن سؤالنا: أهما الاسم والمسمى؟ أم هما اللفظ والمعنى؟ أم لهما في عرف دي سوسير مفهومٌ آخرُ متماشٍ مع نظرته البنوية؟

    قد بين دي سوسير من خلال هذه الثنائية خطأ ما يذهب إليه بعض الناس من اعتقادهم أن اللغة ليست سوى عملية لتسمية الأشياء، وكأنها قائمة من الألفاظ يقابل فيها كل لفظ الشيء الذي يدل عليه، يقول دي سوسير- مع تعليق لعبد الرحمان الحاج صالح-:" يظن بعض الناس أن اللسان إنما هو في أصله مجموع ألفاظ، أي قائمة من الأسماء تطلق على عدد مماثل من المسميات... وفي تصورهم هذا نظر... إن الدليل اللغوي لا يربط بين شيء ولفظ، بل بين مفهوم وصورة صوتية ( أي يربط لا الشيء المسمى باسمه الملفوظ بل مفهوم ذلك الشيء أو تصوره في الذهن بصورة لفظه الذهنية) فهذه الصورة الصوتية ليست هي الصوت المادي لأنه شيء فيزيائي محض، بل انطباع هذا الصوت في النفس والصورة الصادرة عما تشاهده حواسنا... فالدليل اللغوي إذاً كيان نفساني ذو وجهين."

    فمن خلال هذا القول لدي سوسير مع ما صحبه من تفسير لعبد الرحمان الحاج صالح نحصل على أربعة أمور مختلفة في طبيعتها، أمرين ماديين منتميين إلى العالم الخارجي، وهما:

    1- الموجود الخارجي(المسمى أو المرجع Référent) أو الشيء المشار إليه في الواقع الخارجي، وهو مادي في الغالب.

    2- اللفظ (الصوت المادي) وهو شيء فيزيائي محض (موجات صوتية) ينتجه الفرد نطقا أو كتابة، فهو منتمٍ إلى الكلام.

    وأمرين نفسيين مجردين منتميَيْن إلى العالم الذهني الداخلي، ويعتبران انعكاسا للموجودَيْن الخارجيَيْن في الذهن، وهما:

    3- الصورة الصوتية، وهي انطباعُ الصوتِ الفيزيائيِّ أو أثرُهُ في النفس (انعكاس اللفظ أو الصوت المادي "رقم 2")

    4- المفهوم (الصورة الذهنية) أي مجموع السمات الدلالية المستقرة في الذهن (انعكاس الموجود الخارجي في الذهن "رقم 1")

    فهل يعتبر دي سوسير هذه الأمور الأربعة من صميم اللغة باعتبار هذه الأخيرة نظاما متعاليا على الأفراد متمايزا عن الكلام باعتباره ماديا؟

    عرفنا أثناء تفريق دي سوسير بين اللغة والكلام أن اللغة ذات طبيعة مجردة لكونها نظاما اجتماعيا، ومن ثم جزم بأن اللغة شكل وليست مادة، ولذلك لابد أن تكون طبيعة كل ما ينتمي إلى عالم اللغة- لا الكلام- شكلياً غيرَ ماديٍّ، وهو ما أدى به إلى استبعاد بعض العناصر من تلك الأمور الأربعة لأنها مادية مخالفة لطبيعة اللغة، أو خارجة عن عالمها داخلةٌ في عالم الكلام،            يقول دي سوسير:" إن العنصرين اللذين يدخلان في الإشارة اللغوية (العلامة اللغوية) هما ذوا طبيعة سيكولوجية، يتحدان في دماغ الإنسان بآصرة التداعي(الإيحاء)، وهذا أمر ينبغي تأكيده، فالإشارة اللغوية تربط بين الفكرة والصورة الصوتية، وليس بين الشيء والتسمية، ولا يقصد بالصورة الصوتية الناحية الفيزياوية للصوت، بل الصورة السيكولوجية للصوت، أي الانطباع أو الأثر الذي تتركه في الحواس."

    ولذلك استبعد دي سوسير من العلامة اللغوية الموجود الخارجي(رقم1) أو الشيء الذي تحيل إليه العلامة في العالم الواقعي(المرجع Référent) لأنه لا علاقة له بنظام اللغة، كما استبعد اللفظ (رقم2) لأنه منطوق أو مجرد ظاهرة فيزيائية قد يتناولها الفيزيائي من جملة ما يتناوله من ظواهر فيزيائية، فضلا عن كون المنطوق تابعا للمتكلمين ومختلفا باختلافهم، وليس تابعا للمجتمع، يقول دي سوسير:" أما الجزء الفيزيائي فيمكن من الآن أن يبرأ من ذلك، لأننا عندما نسمع من يتكلم بلغة لا نعرفها، ندرك بالفعل الأصواتَ، ولكن بعدم فهمنا لها نبقى خارج الحدث الاجتماعي... فجانب التأدية لا دخل له، لأن التأدية ليست أبدا من عمل الجماعة، بل من عمل الفرد دائما، والفرد دائما صاحب أمرها، وهي التي نسميها parole ." ولم يعترف سوسير إلا بما كان ذا طبيعة نفسية مجردة، وهو الشرط الذي يتوفر في الصورة الصوتية(3) باعتبارها ذات طبيعة سيكولوجية وقد سماها دالا، والمفهوم(4) باعتباره أكثر تجريدا من الصورة الصوتية، وقد سماه مدلولا، ومن ثم كان الدال والمدلول عنده حقيقتين نفسيتين ومنهما يتشكل الدليل اللغوي (العلامة) الذي يعتبر كيانا سيكولوجيا في عُرف دي سوسير  فالدال هو الصورة الصوتية(أو السمعية) أي الإدراك النفسي لتتابع الأصوات، وليس الصوت نفسه لأن هذا الأخير(الصوت) حقيقة فيزيائية محضة متعلقة بالكلام ومنتجِه(المتكلم) لا باللسان الذي يستلزم التجريد والطابع الاجتماعي، ولئن كانت الطبيعة الذهنية أو السيكولوجية للصورة الذهنية(المدلول) واضحة فإن الطبيعة السيكولوجية للصورة السمعية (الدال) تتضح من خلال ملاحظة كلامنا الداخلي دون نطق كمن يقرأ قصيدة قراءة صامتة، فمثلا: (قلم) دليل لغوي مكون من دال ومدلول، وداله ليس تلك الأصوات الفيزيائية الناتجة عن النطق والتي تسمى لفظا، وإنما هو الإدراك النفسي لتتابع الأصوات بهذه الطريقة: قاف ثم لام ثم ميم كما هو مستقر في أذهاننا، ولو غيرنا التتابع لحصلنا على دال آخر مرتبط بمدلول آخر أيضا مثل (ق، م، ل= قمل)... فإذا سمعنا لفظ (قلم) ربطناه مباشرة بمعناه لأنه كان مخزنا في الذهن (النفس) فلمْ نستغرب هذا التتابع لأنه مألوف لدينا خلافا لبعض التتابعات غير المألوفة مثل( تَطَخْطُخ، حَيزَبُون، دردَبيس، طَخا، نُقاخ، َعَطْلَبِيس...) فلكونها غير مستقرة في أذهاننا عجزنا عن ربطها بما يقابلها من مفاهيم (مدلولات).

    والمدلول هو الصورة الذهنية لا الموجود الخارجي، أي مجموع السمات الدلالية المستقرة في الذهن، فمثلا: (قلم) دليل لغوي مكون من دال ومدلول كما عرفنا، ومدلولُه هو ما استقر في أذهاننا من ملامح دلالية تميزه عن غيره: شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر... وبمجموع هذه الملامح الدلالية المستقرة في أذهاننا ميّزنا القلم عن الورقة والطاولة والكتاب والمحبرة والمِرْوَد والبُرغي... 

    فالعلامة اللغوية أو الدليل كلٌ مركبٌ من صورتين، إحداهما صورة صوتية والأخرى صورة ذهنية، حيث تستدعي كل منهما الأخرى، فهما متحدتان اتحادا تاما كوجهي الورقة الواحدة، حيث إن سلامةَ أحد الوجهين سلامةٌ للآخر وتمزقَه يؤدي –بالضرورة- إلى تمزق الآخر، يقول دي سوسير:" يسمى دليلا (لغويا) المركب المتكون من المفهوم والصورة الصوتية(صورة اللفظ في الذهن)... ولكن نقترح إبقاء لفظة (الدليل) للدلالة على الكل، واستبدال لفظتي (المفهوم) و(الصورة الصوتية) بلفظتي (الدال) و (المدلول)"                                                        خصائص العلامة اللغوية:

    تميزت العلامة اللغوية ببعض الخصائص منها:

     1- الاعتباطية(Arbitraire du signe) : ما الذي أهّل دالا معينا (مثل: قلم) دون سواه من الدوال للتعبير عن مدلول معين (شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر...) دون سواه من المدلولات؟ أهناك مناسبة أو علاقة طبيعية لزومية، أو عقلية منطقية أدت إلى ذلك، أم هو مجرد اتفاقٍ عرفي بين أبناء الجماعة اللغوية على جعل دال معينٍ معبرا عن مدلول معين؟

    يذهب دي سوسير إلى أن العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية (الدال والمدلول) علاقة اعتباطية غير معللة، فليس بين مدلول (قلم) وبين داله في العربية أي علاقة ضرورية مباشرة -خلافا للعلاقة اللزومية بين الدخان والنار وبين الأثر والسير مثلا- ومن ثم كان بإمكان المتكلمين بالعربية مثلا استبدال ذلك الدال (قلم) بدال آخر متى أجمعوا على ذلك، كما كان بإمكانهم أن يقابلوا ذاك المدلول(شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر...) أثناء الوضع الأول بدوال أخرى كأن يقلبوا ترتيب الأحرف (ملق أو مقل أو لمق...)  أو أن يسموه سيارة أو تفاحة أو طاولة، ويسموا الطاولة قلما، ويسموا التفاحة سيارة... فليس هناك ما يمنع –حسب دي سوسير- من نسبة الدوال إلى المدلولات لأن تلك النسبة اعتباطية غير قائمة على علاقات طبيعية لزومية بين طرفي معظم العلامات اللغوية، باستثناء عدد قليل جدا منها يمكن أن يلاحَظ بين لفظها ومعناها علاقةٌ طبيعية لكونها محاكاةً للأصوات قائمةً على العرف، ومثال ذلك bow-bow في الإنجليزية، يقابل ذلك ouaoua في الفرنسية، ومثله في العربية زقزق، قهقه...

    إن ما يؤكد اعتباطية العلامة كَوْنُ المدلولات واحدةً عند الناس جميعا، غير أن الدوال التي تقابل تلك المدلولات مختلفة من مجتمع إلى آخر، ولو كانت العلاقة بينهما طبيعية لزومية لكانت موحدة بين الناس جميعا، ولوُجِدت – تبعا لذلك- لغة موحدة في العالم أو لغات متشابهة إلى حد بعيد، لكن الواقع يخالف ذلك، فلو أخذنا هذا المدلول(شيء، مادي، يستعمل للكتابة، به حبر...) فإن كل الناس في العالم تعرف هذه الصورة الذهنية فهي موحدة بينهم، ومع ذلك تعبر عنها كل مجموعة بحرية تامة، فتطلق عليها مجموعة (قلم) ومجموعة أخرى (stylo) ومجموعة ثالثة (pen) ورابعة (cálamo) ... بل تعبر عنها المجموعة الواحدة بدوال متعددة ضمن الترادف، فتسميها العرب (القلم، اليراع، السيالة) مع ما يلاحظ من تباين بين الصور الصوتية لهذه الدوال العربية المعبرة عن تلك الآلة المخصصة للكتابة...

    ولا تعني اعتباطية الدليل أن اختيار الدال متروك للمتكلم، إذ لا قدرة للمتكلم على التحكم في الدال بتغييره بعد أن تلقَّفته الجماعة وحظي بقبولها، يقول دي سوسير:" إن كلمة الاعتباطية تحتاج إلى توضيح، فهذه الكلمة لا تعني أن أمر اختيار الدال متروك للمتكلم كليا، بل أعني بالاعتباطية أنها لا ترتبط بدافع، أي إنها اعتباطية لأنها ليس لها صلة طبيعية بالمدلول."

     2- الخطية: مادامت العلامة اللغوية أهم عناصر اللغة فقد اتسمت بما تتميز به اللغة عامة من مفهوم رياضي هو الخطية. يقول دي سوسير في شأن هذه الخاصية:" لما كان الدال شيئا مسموعا (يعتمد على السمع) فهو يظهر إلى الوجود في حيز زمني فقط، ويستمد منه هاتين الصفتين:

    أ- إنه يمثل فترة زمنية.

    ب- تقاس هذه الفترة ببعد واحد فقط: فهو على هيئة خط."

     فكما يعرّف الخط رياضيا بكونه مجموعة غير منتهية من النقاط المتتابعة التي يمكن قياسها، بحيث لا يمكن أن تقع في الحيز الواحد نقطتان أو أن ترسم نقطتان في زمن واحد، فلا يمكن أن ترسم النقطة رقم 10 مثلا –إذا أمكننا ترقيم النقاط- إلا بعد الانتهاء تماما من رسم النقطة رقم 09 وقبل الشروع في رسم النقطة رقم 11، فكذلك العلامة اللغوية في جانبها المتعلق بالدال أثناء التأدية، حيث يمكن قياسها مادامت تمثل تتابعا وامتدادا زمنيا للأصوات، فيكون لها بداية ولها نهاية، وبذلك تتمايز الوحدات بعضها عن بعض بما لها من حدود ممثلة لبدايتها ونهايتها كالقطعة من الخط، فالدال (قلم) مثلا عبارة عن تتابع صوتي هو (ق+ فتحة+ ل+ فتحة+ ميم+ الحركة الإعرابية) يظهر جليا أثناء الاستعمال نطقا أو كتابة، ففي المنطوق يشغل كل صوت من تلك الوحدة زمنا سابقا لزمن الصوت الذي يليه، مع استحالة نطق صوتين في زمن واحد أو الفصل بينهما بزمن، فلا تنطق اللام مثلا إلا بعد الفراغ تماما من نطق القاف وقبل الشروع في نطق الميم، وإذا ما خالفنا ذلك التتابع الخطي حصلنا على دال آخر ذي مدلول مغاير أو مهمل مثل (قمل، لقم، لمق، ملق، مقل)، وإذا ما قارنا امتداد الدال(قلم) بامتداد الدال (استعمال، أو سفرجل، أو مستسلم...) عرفنا أن بينهما –من حيث القياس- فرقا كالفرق بين الخطوط من حيث الطول. أما فيما يتعلق بالمكتوب فإن الحرف الواحد من ذاك الدال يحتل حيزا مكانيا معينا بكونِه تاليًا لحيز الحرف السابق، وأسبقَ من حيز الحرف الذي يليه مع استحالة أن يزدحم حرفان على مكان واحد أو يبقى بينهما فراغ يفسد التتابع ويخل بالبنية، يقول دي سوسير:" عناصر الدال السمعي تظهر على التعاقب، فهي تؤلف سلسلة، وتتضح هذه الخاصية عندما نعبر عن الدال كتابة، فيحل الخط المكاني لعلامات الكتابة محل التعاقب الزمني."

     3- الثبوت والتغير: في هذه الخاصية إجابة عن سؤال هو: بم تتميز العلامة اللغوية، أبالثبوت أم بالسكون؟ والحقيقة أن هذه الخاصية ناشئة عن نظرتين مختلفتين للعلامة متعلقتين بالآنية والزمانية، حيث إن العلامة الواحدة غالبا ما تتميز بكونها ثابتة في مجتمع وزمن معينين وكثيرا ما تحافظ على صورتها لدى الأجيال اللاحقة، فيدل دال معين على مدلول معين لا يتغير، وذلك لوجود عوامل تعمل على منع التطور، غير أن ذلك لا يمنع – في بعض الحالات- من حصول تحول في العلامة بمرور الزمن وقبول الجماعة ورضاهم عن صورتها الجديدة، فيدل دال معين في زمن آخر على غيرِ ما كان يدل عليه في السابق، أو يكتسب المدلول نفسه دالا جديدا، أو يصيبه تغيير في صورته الصوتية، وذلك لتوفر عوامل وقوى أخرى مضادة مؤدية إلى ذلك التغير أو التطور، فتبقى " اللغة عاجزة جذريا عن الدفاع عن نفسها ضد القوى التي تغير من حين لآخر العلاقة بين الدال والمدلول، وإن هذه لإحدى عواقب الطبيعة الاعتباطية للعلامة."

    فما أكثر العلامات اللغوية العربية التي سجلت لنا المعاجم -خاصة- حياتها وحركيتها من خلال ما طرأ عليها من تغير بسبب ما عرفته البيئة العربية في صدر الإسلام من حركة لغوية قوية نقلت دلالات كثير من الألفاظ إلى غير ما كانت تدل عليه في الجاهلية كالقرآن والصلاة والزكاة والحج والكفر والفسق والنفاق.... وهي التي سميت بالكلمات الإسلامية باعتبارها مصطلحاتٍ وأسماء شرعية، كان أبو حاتم الرازي [ت322ه] قد ألّف فيها كتابه (الزينة في الكلمات الإسلامية ).... وما أعقب ذلك من حركات علمية وتيارات فكرية أثرت على العلامات اللغوية فظهرت تصورات ذهنية جديدة لدوال قديمة كالمفهوم الجديد للنحو، والحال والتابع والسبب والوتد... إضافة إلى ما عرفته البيئة العربية في العصر الحديث، عصر النهضة العلمية والتكنولوجية، من حركة لا تقل قوة عما عرفته في صدر الإسلام وبعده، حيث نقلت كثيرا من الدوال للعبير عن مدلولات لم تكن مقصودة أو معروفة من قبل كالسيارة والقطار والهاتف...  

    4- القيمة La valeur: مفهوم القيمة مفهوم اقتصادي محض متعلق بالعملات، حيث إن قيمة عملة أو ورقة نقدية ما إنما تتعلق بما يقابلها من جنسها ممثَّلا في قطع نقدية أخرى من العملة نفسها سواء كانت أكبر منها أو أقل، أو بصرفها إلى عملة أخرى، أو بما يقابلها من فائدة تحققها كأن تكون تلك الفائدة خدمة أو لباسا أو طعاما... فقيمة القطعة (10 دج) مثلا تتحدد بمقارنتها بقطعة (5 دج) وبقطعة (2000 دج) مثلا، أو بمقابلتها بما تمثله بالنسبة للأورو (7‰) أو الدولار (8‰)، أو بما يمكننا اقتناؤه بها (مثلا قلم رصاص رديء، قطعة حلوى صغيرة، مسمار... بينما قد نقتني بقطعة 2000 دج  قميصا أومعطفا)، فإذا كانت قيمة تلك القطعة النقدية محددة بما يمكننا اقتناؤه بها من مادة استهلاكية أو خدماتية وبمقابلتها بقطع أخرى تمكِّننا من اقتناء سلع أخرى أفضل أو أدنى مما حققته هي، فتتفاضل القطع وتتفاوت في قيمتها نظرا لما تحققه، فكذلك الأمر بالنسبة للوحدات اللغوية.

        فقد رأى دي سوسير أن الوحدات اللغوية لا يمكن أن تُدرس دراسة علمية حقيقية إلا من خلال القيمة، لأن لهذه الأخيرة –القيمة- أهميةً كبرى في معرفة حقيقة الأشياء، ومن ذلك الوحدات اللغوية التي لا تَستمِد قيمتها إلا من النظام اللغوي المنضوية تحته وفق ما أراده لها المجتمع وتواطأ عليه، لأن " المجتمع ضروري لوضع قيَم يعتمد وجودها بصورة كلية على استعمالها وقبولها من قبل الجمهور. إن الفرد وحده لا يستطيع وضع قيمة لغوية واحدة."

    فليس للوحدة أي قيمة ذاتية، وإنما تتحدد قيمتها بعلاقاتها مع بقية الوحدات الأخرى داخل النظام نفسه وتقابلها معها، ولا قيمة للوحدات التي ينتجها الفرد ما لم تتبنّها الجماعة، أو التي تكون خارج النظام، ومن ثم فإن أشكالا مثل:( قطاطيب، كَمُوج، خُنفشار، قثعب، بقلب، ديز...) تعد أشكالا عديمة القيمة لأنها ليست من العربية، ولا مما تعارفت عليه الجماعة، ولا تعبر عن فكرة ما، ولا تقابلها وحدات أخرى، فمثلها في القيمة مثل القطع النقدية المزوّرة، أو الموضوعةِ في المتحف لكونها تعود إلى قرون ماضية، أو مثل شريحة هاتف محمول كانت ملكا لنا غير أنها لم تعد في الخدمة فلم تعد لها قيمة، فهي– كقطعة- بحوزتنا إلا أن الرقم بحوزة مستخدم آخر مستفيدٍ منها إرسالا واستقبالا.

        كما أن قيم الوحدات متفاوتة، فبعضها أكثر تعبيرا عن فكرة ما وأدق من بعض، ولذلك كانت مفردات القرآن الكريم أدقَّ تعبيرا عن فكرة ما رغم وجود ما يمكنه أن يُعتبر مكافئا في لغة العرب، وإذا أمكن أن تكون الكلمة العربية (إله) مكافئة في قيمتها للكلمة الفرنسية (dieu) أو الإنجليزية (god)، فإن هاتين الكلمتين الأجنبيتين لا يمكنهما أن تكونا من حيث القيمة مكافئتين للكلمة الإسلامية (الله) الدالة على التوحيد، فلا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث خلافا لكلمة (إله) وللكلمتين الأجنبيتين(dieu) و(god) التي تجمع على ( آلهة، dieux، gods) على التوالي، ولذلك فإن(الله) الذي يعبده المسلمون بحق هو غير(dieu) أو(god) الذي يعبده النصارى لأن مدلولَيْ اللفظتين مختلفان جدا، فالأولى أقدر على تمثيل فكرة التوحيد وأنه ( لم يلد ولم يولد)، خلافا للأخرى العاجزة عن ذلك لقيامها على عقيدة التثليث أو الأقانيم الثلاثة، الأب والابن والروح القدس.


  • نظرية دي سوسير4

    4- ثنائية العلاقات بين الأدلة( التركيب والاستبدال أو التوزيع والاختيار)

        من خلال ما عرّفنا به دي سوسير من حقائق عن اللغة خاصة ما تعلق بكونها نظاما من العلامات الصوتية الاعتباطية، ومن خلال كشفه عن حقيقة ثنائية العلامة اللغوية -باعتبارها أهم ما يشكل النظام اللغوي- مع ما تميزت به من خصائص لاسيما ما تعلق بالاعتباطية والخطية والقيمة، يتبادر إلى أذهاننا سؤال هو: هل يمكن للعلامة وحدها أن تفي بغرض التواصل؟ أو هل بمقدور الأفراد أن يتواصلوا بمفردات مستقلٍ بعضُها عن بعض؟

        للإجابة عن هذا السؤال يمكننا أن نضرب مثلا برجل عربي حاول أن يتعلم اللغة الفرنسية فعمد إلى معجم فرنسي فحفظ كثيرا من الألفاظ بمعانيها فصار يعرف أن (Stylo= قلم / Livre= كتاب /Avion= طائرة / Pain= خُبز/ Eau= ماء / Or= ذهبٌ/ Écrire= كَتَبَ / Manger= أَكَلَ...) فهل يمكِّنه ذلك الرصيد من العلامات اللغوية من التواصل باللغة الإنجليزية بأريحية أم ستعترضه صعوبات، خلافا لمن نشأ على تلك اللغة؟

       يجيبنا عبد الرحمن الحاج صالح- رحمه الله- بقوله:" ليس اللسان مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتعلم في القواميس أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته" ولذلك فإن هذا العربي سيعجز عن التواصل رغم معرفته كثيرا من العلامات اللغوية، ولن يتواصل بها إلا كما يتواصل الأطفال الصغار بتعبيرهم عن الفكرة بكلمة واحدة -وربما لا تصلح في ذلك المقام- لافتقارهم للنظام الذي يربط الوحدات بعضها ببعض، ويمكّنهم من الانتقال في استعمال اللغة من حال الإفراد إلى حال التركيب، مستعينا بالقواعد الخاصة بالعلاقات التركيبية التي لا يكتسبونها إلا بمرور الزمن والتقدم في السن، وذلك في مرحلة تالية لمرحلة اكتساب المفردات، ولذلك فإنه يجب على هذا العربي -حتى يتواصل بالإنجليزية- أن يتعلم أهمَّ ما يمثل تلك اللغة، وهو قواعدها الصوتية والصرفية والتركيبية وحتى الجوانب الدلالية، لا لشيء إلا لأن الناس جميعا لا يتواصلون بمفردات، وإنما يتواصلون بجملٍ ذات أنماط وقواعدَ خاصةٍ، مشتملةٍ على كل مستويات اللغة صوتا وصرفا وتركيبا ودلالة، ولذلك اعتُبرت الجملة أهمَّ وحدات التحليل اللساني، واعتُبرت العلاقات بين الوحدات اللغوية داخل الجملة الواحدةِ الهدفَ الذي يسعى المحللُ للكشف عنه، سواءٌ تعلق الأمر بعلاقة الوحدة ببقية الوحدات التي قد تحلّ محلها وتقع موقعها في الجملة، أو تعلق الأمر بعلاقتها بالوحدات التي تتركب معها في الجملة.

       يبدو إذن أن  الوصف الدقيق للسان مرهون ببيان العلاقات بين الوحدات اللغوية، ما دامت تحكمه " شبكةٌ واسعة من العلامات والتراكيب، حيث لا تكتسب مكوناتُها قيمتَها إلا من خلال علاقاتها بالكل." وهو الأمر الذي ركز عليه دي سوسير حين اعتبر شبكة العلاقات التي تربط الأدلةَ اللغوية بعضَها ببعض من أهم أركان النظام، ولذلك وجب أن تأخذ قسطا كبيرا من اهتمام الدارسين.... وهذه العلاقات المتبادلة في الـلـغـة تـقـوم على كل من البعدين الأساسيين للتركيب اللغوي التزامـنـي: الـبـعـد الأفـقـي syntágmatic المنطبق على تتابع المنطوق، والبعد الرأسي (الترابطي associative Paradigmatic المتمثل في أنظمة العناصر أو الفئات المتقابلة.(

    يمثل البعدان الأفقي والرأسي (العمودي) نوعين من العلاقات بين الأدلة داخل النظام، هما على التوالي العلاقات التركيبية( التوزيع)، والعلاقات الاستبدالية (الترابطية أو الاختيار):

      أ- العلاقات التركيبية syntagmatiques ( التوزيع): تتمثل في العلاقات التي تعقد بين وحدتين فأكثر من أجل تراكيبَ وأنماطٍ معينة للوحدات وفق ما هو معروف من اختصاص كل لغة بقواعد تركيبيةٍ معينةٍ تمكِّن مستعمليها من البناء الصحيح للمفردات والجمل، ومن ثم تُعرف قيمة كل وحدة لغوية من خلال تقابلها مع وحدات أخرى تسبقها أو تلحقها أو من خلالهما معا. يقول دي سوسير:" نحن عادة لا نتفاهم باستخدام إشارات فردية معزولة، بل باستخدام مجموعات من الإشارات، أو كتل منتظمة، هي  في حد ذاتها إشارات. ففي اللغة يمكن إرجاع كل شيء إلى الفروق وكذلك إلى المجموعات."

       فهذا النوع من العلاقات يظهر أثناء الإنجاز الفعلي للغة، وهو متعلق بانتظام عناصر الكلمة وتسلسلها- أي الأصوات- وبانتظام عناصر الجملة وتسلسلها - أي الكلمات- على شكل خطيٍّ حيث تأتي متدرجةً، كلُّ عنصر عقب الآخر -كما عرفنا ذلك في خاصية الخطية التي تتميز بها اللغة عامة والعلامة خاصة- فالعلاقة المجيزة لاجتماع فعل ما وفاعل ما سواءٌ أتى الفاعل تاليا للفعل كقولنا:(مات الرجل) أو أتى الفعل تاليا للفاعل كقولنا:(الرجل مات) بإسناد الفعل (مات) إلى من يُتَصَوَّر منه الموت وهو (الرجل)، أو العلاقةُ المانعة لاجتماع فعل ما بفاعل ما كقولنا -مجانبين الصواب-:(تألم الشَّعر) لعدم إمكانية إسناد الألم للذي لا يتصور منه ذلك، أو قولنا في تركيب غير متعارف عليه:(الساعةِ أيقظني منبهُ باكرا) مع ما يلاحظ من فرق بين ذلك وبين قولنا:( أيقظني منبه الساعة باكرا)... كل ذلك من العلاقات التركيبية الخاصةِ باللسان العربي المميزةِ له عن بقية الألسنة.

    وكذلك الأمر بالنسبة للمفردات لأنها نتاج علاقات تركيبية، حيث تتيح اللغة العربية لأبنائها أن يبدءوا في تركيب المفردة بمتحرك وتمنعهم من البدء بساكن، خلافا للغات أخرى، كما تمنع أن يتوالى ساكنان... إلخ. فتلك القواعد الصرفية التي تُبنى المفردات على منوالها ليست سوى علاقات تركيبية على مستوى المفردات، فالفعل (كتب) لم يتحول إلى بنية إلا بفضل تلك العلاقات التركيبية التي عقدت بين عناصره (الأصوات) وفق هذا التسلسل: ك + فتحة + ت + فتحة + ب + فتحة = كتب، ولو غيرنا التوزيع لحصلنا على تراكيب أخرى ليس لها معنى أو لها معنى غيرُ معنى الفعل(كتب) مثل: كبت، تكب، تبك، بتك، بكت.

     وتمثل الصيغ الصرفية العلاقاتِ التركيبيةَ الخاصة بالمفردات، فتمكننا من إنتاج أفعال على الأوزان التالية (فَعَلَ، فَعُلَ، استفعل، تفاعل، افعوعل...) أو أسماء على الأوزان التالية (فَعَل، فِعال، فاعِلة، مِفعال، استفعال...) وتمنعنا من إنتاج أفعال أو أسماء من ستة عشر صوتا مثلا، كما تمنع توالي بعض الأصوات أو اجتماعها في كلمة واحدة وفق ما ينصّ عليه الصوتي العربي.

    ولذلك فإن كل التراكيب والبنى المتاحة في لسان ما -سواء كانت مفردات أو جملا- منطويةٌ على علاقات تركيبية تسمح لعناصرها بالتوزع والانتظام وفق طرائق خاصة، وتمنع توزعها وفق طرائق أخرى لا يتيحها نظام تلك اللغة، و" لا قيمة للكل إلا من خلال أجزائه، كما لا قيمة للأجزاء إلا بفضل موقعها في الكل. لذلك لا تقل العلاقة السنتاكمية (التركيبية) بين الجزء والكل أهمية عن العلاقة بين الأجزاء."

       ب- العلاقات الاستبدالية أو الترابطية Paradigmatiques (الاختيار أو الاستبدال): يذكرنا هذا النوع من العلاقات بالحقول الدلالية، حيث ترتبط الوحدات المشكِّلة للرصيد اللغوي والمخزَّنة في الدماغ فيما بينها على شكل مجموعات متشابهة في الشكل أو في المضمون أو فيهما معا. حيث إن الوحدة اللغوية التي تعتبر جزءا من التركيب ترتبط من جهة ثانية -خارج السياق- بوحداتٍ أخرى عديدةٍ في الذاكرة، منتميةٍ إلى الصنف الصرفي أو النحوي نفسه، إذ يمكن أن يستبعد بعضُها بعضا ويحل محله كما يقول دي سوسير، حيث " تكتسب الكلمات علاقاتٍ خارج الحديث – تختلف عن الصنف المذكور آنفا- فالكلمات التي تشترك في أمر ما ترتبط معا في الذاكرة، ويتألف منها مجموعات تتميز بعلاقات متنوعة، فعلى سبيل المثال، توحي الكلمة الفرنسية  enseignement(تعليم) بصورة لا شعورية بعدد كبير من الكلمات مثل (enseigner (يعلم)،  renseigner(يتعرف على)... جميع هذه الكلمات ترتبط بعضها ببعض بطريقة ما."

     ولم تُدرج تلك الوحدة دون بقية الوحدات التي تشترك معها، أو قد تحل محلها في التركيب، إلا لأن الدماغ اختارها -دون سواها- لكونها الأنسب في التعبير عن الفكرة والتلاؤم مع بقية عناصر التركيب.

    فهذه الكتلة المشكلة جملةً (ضربَ اللصُّ الرجلَ) لم نحصل عليها إلا بعد عمليتين أتاحهما النظام، حيث ربط أفقيا بين هذه العناصر الثلاث (ضرب + الرجلُ + اللصَّ) وفق ترتيب معين وهو ربط خاص بالعلاقات التركيبية، ولو اختلف الترتيب لاختلفت الجملة وعبرت عن فكرة أخرى مثلا (ضرب الرجلُ اللصَّ)... كما ربط من ناحية أخرى ربطا عموديا بين كل عنصر من تلك العناصر الثلاث وبين عناصرَ أخرى غائبة عن الأداء لكنها حاضرة في الذاكرة ويمكنها أن تحل محل المذكور، وهو ربطٌ خاص بالعلاقات الترابطية. ولذلك يمكننا الحصول على جمل كثيرة عن طريق استبدال العنصر الحاضر( ضرب أو الرجل أو اللص) بالعناصر الغائبة التي يمكنها أن تقوم مقام الحاضر المذكور ( استبدال ضرب ب: قتل/ جرح/ خنق/ قتل/ ...) أو ( استبدال اللص ب: القاتل/ الظالم/ السفاح/ المجرم/...) أو (استبدال الرجل ب: البريء/ المرأة/ الشيخ/ الطفل/...).

    ويتم الاختيار لتحقيق المراد من بين قائمة العناصر التي تعقد بينها علاقةٌ ترابطية في الذاكرة بناء على:

    -        ما يراد تبليغه من معنى، فنقول:(قُتِل الرجل) بدل (مات الرجل) لما بينهما من فرق دالٍّ على كونه مات معذورا نتيجةَ اعتداء.

    -        ما يحتاجه السياق، فلا نختار إلا ما يتلاءم مع بقية الوحدات المسهمة في التركيب، فنقول:(أجب عن السؤال) ولا نقول:(أجب على السؤال)، ونقول:(جاءت الطالبة) ولا نقول:(جاء الطالبة)، ونقول:(أجابني الطلبة) ولا نقول:(أجابوني الطلبة)، ونقول:( رجل ذكي) ولا نقول:(طأس ذكي)...فلا يكون الاختيار عشوائيا، وإنما تراعى بقية العناصر.

    -        ما يتلاءم ورصيد الفرد من المفردات، فقد نختار مفردة جهلا بغيرها، فنقول (أخفى غيظه) جهلا ب( كظم غيظه) ونقول:(شرهت نفسي) جهلا ب( لقِست نفسي)...

    -        ما يرغب فيه المنشِئُ، كأن يختار لفظة دون سواها، لا عن جهل بغيرها، ولكن لرغبة شخصية كأن تكون أكثر تداولا، أو أخف من غيرها، أو ذات وقع خاص، أو لتشكيلها مع غيرها جناسا أو سجعا، أو لأنها تمكِّنه من التورية إذا قصد ذلك وكانت اللفظة متعددة المعنى، أو لأنها غريبة إذا كان المتكلم متفاصحا مولعا بالغريب... 

        إن العلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية مسؤولتان عن الأداء الصحيح للغة، وبذلك يُفَسَّر عدمُ خطأ جلِّ أبناء المجتمع في التركيب والاختيار فلا نسمع: أكل الولد الحليب، افترس الثور الولد، رضع المولود الشعير، شرب العشب الماء، قضمت الدابة العشب... بينما نسمع: أكل الولد التفاحة، افترس الأسد الولد، امتص العشب الماءَ... لأن الفضل في ذلك يعود – فضلا عن آلية التركيب- لآلية الاختيار التي يسهر عليها النظام، فتعمل آليا دون شعور منا، "وهكذا يتم التفاهمُ(الإنساني) والاستعمالُ اللغوي –عامة- بهذه السرعة التي نعهدها.

    إن المتكلم العادي لا يدرك العمليات المعقدةَ العقلية والعضوية التي يقوم بها لنطق صوت واحد أو كلمة واحدة، وهو – كذلك- في مجال تأليف الجمل- عندما يتكلم لغته الأم- لا يدرك العملياتِ البالغةَ التعقيد التي يقوم بها. ولكن المتكلم قد يتعثر، وقد يخطئ خطأ بيِّنا، عندما يتكلم لغةً غير لغته، وهو يبذل جهدا (شعوريا) لتأليف الجمل على قدر إتقانه لتلك اللغة، وهذا الجهد يتناقص كلما ازداد إتقانه لها."  فمثل مستعمل اللغة مثل السائق المتمكنِ من السياقة المحيطِ بنظامها، حيث يمتثل لقوانين المرور ويطبقها- مهما كانت معقدة- دون شعور منه عكس ما كان يعانيه في تعامله من نظام المرور حين كان مبتدئا.

       وما يقال عن هاتين العلاقتين في الجمل يقال أيضا في المفردات، ففي الفعل (كتب) مثلا تظهر العلاقة التركيبية بين عناصر الفعل وفق ذاك الترتيب: ك + فتحة + ت + فتحة + ب + فتحة = كتب، ولو غيرنا التوزيع لحصلنا على تراكيب أخرى. أما العلاقة الترابطية أو الاستبدالية في المفردات فتتمثل في إمكانية حلول صوت آخر من أصوات اللغة محل أحد أصوات ذاك الفعل فنحصل على وحدات أخرى، كاستبدال الكاف بالعين (عتب) أو التاء بالسين (كسب) أو الباء بالميم (كتم)...إلخ.

    مقارنة بين العلاقتين:  يمكن الوقوف- من خلال ما سبق ذكره- على بعض النقاط الجامعة أو الفارقة بين العلاقتين حسب دي سوسير:

    - يعملان معا في وقت واحد بما يشبه الغربلة العقلية، ففي الزمن الذي يحدث فيه التركيب مُمَثلا للعلاقات التركيبية، يحدث الاختيار مُمَثلا للعلاقات الترابطية.

    - تكون العلاقات التركيبية بين وحدات حضورية موجودة بالفعل، بينما تكون العلاقات الترابطية بين وحدات غيابية كامنة في الذاكرة.

    - تكون العلاقات التركيبية محدودة العناصر حسب ما يحتاجه التركيب أو الجملة، أما عناصر العلاقات الترابطية فهي قائمة مفتوحة.

    - تقوم العلاقات التركيبية على شكل خطي بارتباط الوحدة بما يسبقها من وحدات أو يلحقها أو بهما معا، أما في الترابطية " فالكلمة تشبه المركز في مجموعة فلكية يلتقي فيها عدد غير محدود من العناصر المتشابهة." فلا خطية في العلاقات الترابطية، وهو الفرق الذي وقف عليه دي سوسير، إذ لاحظ أن " الارتباط الذي يتألف خارج الحديث يختلف كثيرا عن ذلك الذي يتكون داخل الحديث، فالارتباطات التي تقع خارج الحديث لا يدعمها التعاقب الخطي، ويكون مكانها في الدماغ، فهي جزء من الذخيرة الداخلية للغة التي يملكها كل متكلم "

        فاللغة –إذن- ليست مجرد رصف للعناصر ولكنها تضافر عمليتين متزامنتين هما التوزيع والاختيار المتعلقان -على التوالي- بالعلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية، ولذلك لا تحدث عملية التركيب التي تعقِد بين مجموعة محدودة من الوحدات التي تظهر على السطح أثناء الكلام إلا بالتزامن مع عملية أخرى مهمةٍ في الدماغ يتم من خلالها اختيار أيٍّ من تلك العناصر المترابطة ذهنيا أولى بالظهور على مستوى التركيب.

     

  • نظرية الغلوسيماتيكGlossématique (ضمن المدرسة النسقية أو الشكلية/ حلقة كوبنهاجن)


    يمثل هذه المدرسة اللساني لويس يلمسليف   Louis Hjelmslev(1899م- 196م) الذي ولد بكوبنهاجن بالدانمارك، وبعد الدراسة الجامعية بجامعة كوبنهاجن التي شغل والدُه - وهو أستاذ رياضيات- رئاستها، غادر بلاده فدرس بلثوانيا سنة 1921، وببراغ سنة 1923، ثم بفرنسا سنتي 1926 و 1927م، وهناك تابع محاضرات ميي Meillet وفَندريس Vendryes، كما تعرف خاصة على أفكار دي سوسير ومناهجه التي ساعدته على إرساء دعائم نظريته العالمية الجديدة (الغلوسيماتيك)

    تأسست تلك المدرسة بكوبنهاجن في ثلاثينيات القرن العشرين (بين 1933 و 1936م) على يد مجموعة من العلماء على رأسهم يلمسليف يحدوهم الأمل في ترك بصمة خاصة بهم تميزهم عن غيرهم من اللسانيين، لاسيما البراغيين لما لقيته دراساتهم من نجاح، ومنذ عام 1044م بدأت أعمال الحلقة اللسانية لكوبنهاجن تتوالى على منوال أعمال الحلقة اللسانية لمدرسة براغ،  يقول عبد الرحمان الحاج صالح:" ظهرت في الربع الثاني من القرن العشرين نزعة بنوية جد متأثرة بأفكار سوسسور وأشهر من كان يمثلها هم بروندال V.Brondal ويلمسليف L. Hjelmslev وأولدال  H.Uldallوهذان اللغويان الأخيران هما اللذان أسسا ما سمياه بال Glossématique وهي تمثل نظرية سوسور في أقصى درجات التجريد الصوري." فعلى الرغم من أن يلمسليف لم يكن إلا شارحا لأفكار دي سوسير، إذ كانت آراؤه عبارة عن نظريات سوسيرية، خاصة فيما يتعلق بالعلامة اللغوية، أو العلاقات، أو صورية اللغة... ولكن كل ذلك وفق نظرة صورية مجردة، حيث أضفى يلمسليف وزملاؤه على دراساتهم اللغوية صبغة علمية، وكسوها بمصطلحات غريبة، وصاغوا عناصرَ للغة في رموز جبرية، وتراكيبَها في معادلات رياضية، وهو ما أحدث ردود أفعال عنيفةً من قبل اللسانيين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والفلسفية. ونتيجة لصعوبتها، وطبيعة مصطلحاتها غير المتجانسة لم تنل تلك الأفكار الاهتمام الذي تستحق، ومن الانتقادات التي وجهت لغلوسيماتيك يلمسليف أنها نسخة نظرية وشخصية للسانيات دي سوسير غير أنه طبقها على نحو فيه مغالاة منطقية.

    يرى هذا الاتجاه بأن اللسان ليس قائمة مفردات بل إن جوهر اللسان يكمن في تلك العلاقات النسقية الموجودة بين وحداته التي تشكله ولا مناص له منها. فاللغة كيان صوري مستقل وهي شكل أكثر من كونها مادة، ويخضع هذا الشكل أو الكيان لنسق من العلاقات الداخلية يمكن دراستها بنوع من المعادلات الجبرية، ومن هنا فهي ترى اللغة تركيبا رياضيا أو شكلا صوريا بعيدا عن المظهر الدلالي أو الصوتي. بعبارة أخرى إن يلمسليف ينظر إلى واقع الحدث اللساني نظرة شكلية محضة لا يخرج في ذلك عما أشار إليه دي سوسير وهما:

    - كَونُ أن اللغة شكل ولا يمكن أن تكون جوهرا (مادة).

    - كَونُ أن دراسة اللغة ينبغي أن تتم وفق مستويين اثنين: مستوى المضمون Contenu، ثم مستوى التعبير Expression.

     فكل لغة تتكون من هذين المستويين، أي إنها أدلة ذات مظهرين: مظهر صوتي وآخر دلالي، وفي كلا هاذين المستويين يُهتم بالشكل لا بالجوهر، ومما يجب التنبيه عليه أن هذين المستويين متحدان في الدليل اللساني في نظرية سوسير غير مستقل أحدهما عن الآخر، لأن مستوى التعبير هو(الدال) ومستوى المضمون أو المحتوى هو(المدلول)، ولما كانت العلامة اللغوية – حسب سوسير- ذات وجهين، فهي – حسب يلمسليف- ذات مستويين، ولكن لايُهتم في كل مستوى إلا بما كان شكلا، دون ما كان جوهرا أو مادة.

    وقد اهتم بالشكل واستبعد المادة لأن المادة – كما هو موضح في المخطط السابق- مما تختص به الفونتيك (كما هو مبين في مادة التعبير) أو مما يختص به علم الدلالة (كما هو مبين في مادة المضمون)

    وترتكز منهجية التحليل عند يلمسليف على البحث عن الوحدات المكونة للسان عن طريق الاستبدال، ففي مستوى التعبير، مثلا، نستبدل – بعد التحليل إلى المكونات النهائية- القافَ من الفعل (قام) بالنون لنحصل على (نام) – وفق ما هو معروف عند البراغيين- فالاختلاف بين الوحدات ناجم عن استبدال أو مقابلة عنصر مكونٍ بآخر. ومستوى المضمون أيضا قابل-حسبه- للتحليل لمكوناته النهائية وفق ما هو معروف في نظرية التحليل التجزيئي أو التكويني للمعنى، التي ترى أن معنى الكلمة مجموعة من العناصر التكوينية أو النويات المعنوية، أو المكونات الدلالية. وهي تقوم على تشذير كل معنى من معاني الكلمة إلى سلسلة من العناصر الأولية مرتبة بطريقة تسمح لها بأن تتقدم من العام إلى الخاص. فكلمة (رجل) مثلا تحلل بحسب هذه النظرية على النحو التالي:

    رجل: اسم / محسوس / معدود / حي / بشري / ذكر / بالغ...

    أما كلمة (امرأة) فتحلل على النحو التالي:

    امرأة: اسم / محسوس / معدود / حي / بشري / أنثى / بالغ...  

    فكلمة امرأة اختلفت عن كلمة رجل في مكون واحد هو مكون الجنس، واشتركتا في سائر المكونات الأخرى.

     


  • نظرية براغ الوظيفية(الفونولوجيا) 1


    تعود الجذور الأولى لتأسيس مدرسة أو حلقة براغ الوظيفية إلى العالم اللساني التشيكي ماثيسيوس الذي كانت من دعواته الأولى دراسة اللغة بطريقة جديدة، تختلف عن الدراسة التاريخية، ومعنى ذلك إنه من المؤسسين لعلم اللسانيات الوصفية، وهو العلم الذي ظهر بشكل مستقل منذ أن قدم دي سوسير محاضراته في جنيف. 

    وقد ظهرت هذه المدرسة الوظيفية سنة 1926م، أي بعد عشر سنوات من صدور كتاب دي سوسير الذي نشره تلميذاه (بالي وسيشهاي) سنة 1916م، فكوﱠنت جماعة من علماء تشيكسلوفاكيا حلقة دراسة ضمت باحثين تشيكيين ( ماثيسيوس، ترنكا، هافرانك، فاشيك) ولسانيين روسيين( كارسفسكي، تروباتسكوي) إضافة إلى رومان جاكوبسن على الرغم من كونه بولندي الأصل. وقد كان لرومان جاكوبسن ونيكولاي تروباتسكوي أثر بالغ في نشاط هذه الحلقة التي تتميز بتناولها اللغةَ من حيث الوظيفة، حيث أكدت منذ المؤتمر الدولي الأول للغويين المنعقد في لاهاي بهولندا 1928م على الطابع الوظيفي للغة، وما اللسانيات الوظيفية إلا فرع من فروع البنيوية، بيد أنها ترى أن البنية النحوية والدلالية والفونولوجية للغات تحدﱠد بالوظائف المختلفة التي تقوم بها في المجتمع.

    ومنذ تلك السنة ظهرت الفونولوجيا على مسرح النشاط العلمي العالمي بصفة رسمية وسميت لذلك بالمدرسة الوظيفية، ولا يقصد بالوظيفية أن أعضاء المدرسة كانوا يرون أن للغة وظيفة فحسب، إذ إن ذلك من البديهيات التي لم تكن لتميزهم عن غيرهم، لكن المقصود أنهم تناولوا اللغة بالدرس والتحليل لهدف إبراز الوظائف التي تؤديها مكوناتها المختلفة أثناء الاستعمال، وهذا ما ميز البراغيين عن غيرهم من اللسانيين خاصة التوزيعيين، فاللساني من أتباع بلومفيلد (وهو توزيعي أمريكي) يكتفي بالوصف، بينما كان البراغيون كمن ينظر إلى محرك السيارة، أي إلى الوظائف التي تؤديها أجزاؤه المختلفة ومكوناته العاملة، وكيف تؤثر طبيعة كل جزء على طبيعة وعمل الأجزاء الأخرى. ولذلك ترى هذه المدرسة أن طبيعة الوظائف اللسانية هي التي تحدد بنية اللغة، وأن اللغة أداة لها وظيفة تقوم بها أو تنوﱡع واسع في الوظائف، أو هي نظام من الوظائف، وكل وظيفة نظام من العلامات، هذا فضلا عن اهتمامها باتجاهات اللغة الجمالية والأدبية خاصة عند رومان جاكوبسن من خلال حديثه عن وظائف اللغة...، وبذلك تأسست العلاقة بين علم اللغة الوصفي والنقد الأدبي. ولم يكتف أصحاب هذه النظرية بالوصف كما يقول سامبسون Sampson  بل تعدوه إلى التفسير مجيبين عن سؤالين رئيسيين:1: ماذا تشبه اللغات؟ 2: ولماذا جاءت على هذه الشاكلة؟

    ومادام الأمر متعلقا بوصف البنية اللغوية فإن دراسة البراغيين للغة لم تختلف كثيرا عن دراسة بقية التيارات البنيوية التي عاصرتها، باستثناء ما تميزت به عنها من تناولها للغة من الزاوية الوظيفية وسعيها للتفسير، ولذلك نجدها قد تبنت معظم الأسس التي قامت عليها مدرسة جونيف، ولولا تلك المفاهيم التي أتى بها دي سوسير، كالتمييز بين اللغة والكلام، والآنية والتعاقبية، والدال والمدلول، وغيرها من المصطلحات لما تسنى لعلماء مدرسة براغ وغيرهم التوصل إلى دراسة الأصوات من منظور جديد، فقد تأثروا برأيه في الفونيم باعتباره الجانب غير المادي للصوت، وهو جانب وظيفته التفريق بين المعاني، وذلك من خلال رأيه المشهور المفرق بين ما سماه الكلام( المنطوق بالفعل، الصادر عن الإنسان في الوقت المعين) وبين ما سماه اللسان ( أي اللغة المعينة باعتبارها نظاما جماعيا)... إن هذا التفريق السوسوري بين الكلام واللسان هو أساس التفريق البراغي بين الفونتيك والفونولوجيا، ومن ثم التفريق بين الصوت(الكلامي) والصوت الوظيفي(الفونيم).

     فالمبدأ الأساسي في نظرية الفونولوجيا يعتمد على فكرة سوسير التي ترى اللغة نسقا أو نظاما من العلامات يتقابل بعضها مع البعض الآخر، وأن وصف هذه الوحدات أو العناصر لا يتم إلا بالنظر إلى علاقة كل عنصر بما عداه من العناصر الأخرى، فهي أيضا تعميق منهجي لها، وتأخذ بثنائيته التي تفرق بين اللغة والكلام، فالكلام يقابل مصطلح الفونتيك الذي يدرس الصوت الكلامي باعتباره مادة تدرس من حيث نطقها وانتقالها واستقبالها، أما اللغة فتقابل الفونولوجيا التي تدرس وظيفة هذه الأصوات المنتمية إلى لغة معينة، دون اشتراط نطقها.


  • نظرية براغ الوظيفية (الفونيم) 2


    إن من أهم إنجازات براغ الصوتية طرحها نظرية الفونولوجيا وما ارتبط بهذه النظرية من بحوث معمقة حول الفونيم أو الوحدة الصوتية حتى سميت بالمدرسة الفونيمية، حيث لم تحظ مدرسة بشهرة كتلك التي حظيت بها مدرسة براغ فيما يتعلق بالفونولوجيا والبحث الفونيمي، بل إن بعض اللغويين لم يستحضر في ذهنه من براغ سوى جهودها في التحليل الفونولوجي، ولا عجب في ذلك فقد حظي المستوى الصوتي للغة باهتمامهم حتى اتهمها خصومها بأنها فعلت ذلك على حساب المستويات العليا التي عالجتها بصورة أقل وبطريقة غير كافية. وربما تعد أكبر إنجازات المدرسة مناقشاتها حول الفونيم منذ حلقتها التأسيسية الأولى باعتباره أهم مبحث في الفونولوجيا والتي تعنى بدراسة الأصوات التي تؤدي وظيفة أي تتدخل في تشكيل معنى الكلمة وتمييزها عن غيرها، وذلك في إطار لغة معينة( وتسمى تلك الأصوات التمييزية فونيمات).

    الفونيم أصغر وحدة صوتية غير دالة، ولكنها يتغير بها معنى الكلمة إذا استبدلت بوحدة صوتية أخرى، فهو تشكل صوتي لا دلالة له في حد ذاته. وإذا عوض الصوت صوتا آخر ولم ينشأ عن ذلك تغيير في المعنى لم يسمﱠ فونيما وإنما هو بدل منه (ألوفون)، ومعنى ذلك أن الفونيم صوت (صامت أو صائت) وليس كل صوت فونيما، يقول تروباتسكوي:" تدرس الأصواتيات الراهنة العوامل المادية لأصوات الكلام البشري: سواء ذبذبات الهواء المناسبة، أم أوضاع وحركات الأعضاء المنتجة لتلك الأصوات. وخلافا لذلك، فإن ما تدرسه الصواتة الراهنة ليس الأصوات بل الفونيمات، أي العناصر المكونة للدال اللغوي، وهي عناصر غير ملموسة، بما أن الدال نفسه غير ملموس "

     والفونيم إضافة إلى تكوينه العضوي المحدد قادر على التفريق بين معاني الكلمات بمجرد استبداله، ولذلك يعد وحدة من وحدات الوصف في الصوتيات الوظيفية (الفونولوجيا) فالفونيم وحدة صوتية وظيفية مميزة بين المعاني، ومثال ذلك في اللغة العربية:

     القاف في الفعل (قال) عبارة عن فونيم، فإذا أحللنا محل القاف نونا أو ميما أو سينا أو جيما أو طاء أو... تغير المعنى، إذ سنحصل على التوالي على (نال)، (مال)، (سال)، (جال)، (طال)... وهي كلمات مشتركة في كل الأصوات باستثناء الصوت الأول، فذاك الصوت الأول سبب اختلافها في المعنى، وتلك هي وظيفته التمييزية.

    وبالمقابل إذا أحللنا محل القاف ﭭافا صارت (ﭭال)، وعلى ذلك فالقاف فونيم أما الﭭاف فمجرد ألوفون لأنه لم يسهم في تغيير المعنى، وإنما أدى ما يؤديه القاف من وظيفة، ولم يدل سوى على تأدية لهجية.

    وقد يظهر الفونيم في العربية على شكل حركة، فالفعل (غرُب) بضم الراء غير الفعل (غرَب) بفتح الراء، وهما مختلفان عن الفعل(غرِب) بكسر الراء، إذ يعنى الأول الغموض كقولنا: غرُبت اللفظة، ويعنى الثاني الغياب والاختفاء كقولنا: غرَبت الشمس، بينما يعني الأخير المكسورُ الراءِ: إصابة العين في مؤقها.


  • النظرية الوظيفية الفرنسية


    يمثل هذه المدرسة اللساني الفرنسي الشهير أندري مارتينيAndrée Martinet (1908م- 1999م) الذي ولد بمقاطعة السافوا بفرنسا وتابع في شبابه دروس بعض مشاهير اللسانيات أمثال موسِي وفَندريس وميي، فضلا عن انكبابه على دراسة اللغة الإنجليزية، وقد نال شهادة الدكتوراه في دراسة اللغات الجرمانية سنة1937م، ليصبح مديرا للدراسات الفونولوجية بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في عام 1938م. وقد كانت له في ثلاثينيات القرن العشرين اتصالات مكثفة مع علماء نادي براغ اللساني خاصة مع تروباتسكوي، كما شارك في أعمال هذا النادي التي كانت تنشر بانتظام، هذا فضلا عن متابعته عن كثب تطورَ نظرية الغلوسيماتيك بفضل الإقامات المتكررة بالدانمارك وأواصر الصداقة التي كانت تربطه بصاحبها لويس يلمسليف... يضاف إلى كل ذلك استقراره بالولايات المتحدة الأمريكية من 1946م إلى 1955م، حيث شاهد نمو وتطور اللسانيات الأمريكية على يدي إدوارد سابير وليونارد بلومفيلد، وهناك شغل العديد من المناصب المتعلقة بالبحث اللساني: فقد عين مديرا للمجلة العلمية اللسانية "الكلمة" من 194م إلى 1960م، وحمل مسؤولية إدارة معهد اللسانيات بجامعة كولومبيا بنيويورك، كما عين مديرا "للجمعية العالمية للغة المساعدة" التي كانت ترمي إلى إنشاء لغة عالمية جديدة. وقد ألف مارتيني ما يزيد عن مائتين وسبعين مؤلفا في مجال اللسانيات العامة، واللسانيات الوصفية، والفونولوجيا الوظيفية، والفونولوجيا التاريخية، ومن أشهر هذه المؤلفات: نطق الفرنسية المعاصرة – نظرة وظيفية للغة – اقتصاد التغيرات الصوتية – مبادئ اللسانيات العامة.

    مارتيني والتقطيع المزدوج:

    إن مجموع أعمال مارتيني تشكل نظرية في إطار لسانيات وظيفية، وإن المبدأ النظري الأساس عنده هو تعريفه اللغةَ " كأداة للتواصل ذات تمفصل مزدوج وأداة للتمظهر الصوتي" ومن هنا ينطلق في بناء مفاهيم ستكون مركز اقتراحاته اللسانية، وإن أهم تلك المفاهيم التي تدور حولها رحى الوظيفية التقطيعُ المزدوج ( مونيمات - فونيمات ) باعتباره أهم خصائص اللسان البشري، فاللغات البشرية مؤسسة، في الواقع، على تشفير من طبقتين " وكل وحدة من الودات الناتجة عن التمفصل الأول تتمفصل بدورها إلى وحدات من نمط آخر"

    مستوى التمفصل الأول: يجعل التمفصل الأول الوحدات الدالة الصغرى تتآلف في ما بينها بحيث تنتظم " التجربة المشتركة بين جميع أعضاء الجماعة اللغوية" كما أن الإمكانية اللامتناهية للتواصل تمنح لكل متكلم، في الآن نفسه، القدرةَ على إنتاج ملفوظات فريدة.

    وتتوفر وحدات التمفصل الأول على معنى وصورة صوتية، إنهما دلائل بوجهين، دال ومدلول، يطلق عليهما مارتينيه اسم وحدات دالة. وقد وضع هذا المفهوم ليعرﱢف به وحدات أو بنيات لها ورود تواصلي، معتبرا أن مفهوم الصرفية (morphème) غير إجرائي.

    وما كان لهذا التمفصل الأول أن يكون ممكنا إلا لأن الوحدات الدالة تتكون هي نفسها من توالي وحدات أصغر لا تحمل معنى، أي فونيمات: وهذا هو التمفصل الثاني.

    مستوى التمفصل الثاني: إذا كانت قائمة الوحدات الدالة (المونيمات) للغة ما مفتوحة (لأن اللغات كلها في تطور مستمر) فإن قائمة الفونيمات مغلقة، وتشكل نسقا كما بين ذلك تروباتسكوي.

    إن التمفصل المزدوج يتيح إنتاج كمية هائلة من الرسائل الممكنة، بما أن النسق الصوتي المقتصد جدا يسمح بصياغة آلاف الوحدات الدالة التي هي نفسها يمكن تأليفها لإنتاج عدد لا متناه من الملفوظات، وهذا ما يسمى بالاقتصاد اللغوي، وهو إجابة عن سؤالنا: ما الذي مكن الألسنة البشرية الطبيعية، خلافا لنُظُم التواصل الأخرى الحيوانية أو الاصطناعية، من التعبير عن غير المحدود من الأغراض والمعاني بعدد محدود من الفونيمات والمونيمات؟

    مارتيني والاقتصاد اللغوي:

    ورد مصطلح الاقتصاد اللغوي في مؤلف مارتيني " اقتصاد التغيرات الصوتية" الذي يعد أعظم عمل له في الفونولوجيا الزمانية، حيث يرى أن الإنسان يعيش في صراع قائم بين عالمه الداخلي وعالمه الخارجي، فالعالم الخارجي في تطور مستمر، ويتطلب ابتكار مفردات جديدة، والطبيعة الإنسانية الداخلية ميالة إلى الخمول والجمود، واستعمالِ النزر القليل من المفردات الموجودة حولها. وبالإضافة إلى هذا فإن ثمة صراعا بين حاجيات التواصل التي تؤدي إلى تطوير اللغة من جهة وخمول الأعضاء ونزوعها إلى الاقتصاد في الجهد الذي تتطلبه عملية التلفظ أو التذكر من جهة أخرى.

    وفي هذا الإطار يندرج ذلك السؤال الغريب الذي طرحه أحد علماء اللغة المحدثين قائلا: هل تستطيع أن تدلني على أحد يستطيع أن يستغل النفايات بطريقة أخرى أكثر كفاءة وأهمية من استغلال الإنسان لنفايات عملية التنفس؟! لتكون الإجابة بالنفي المطلق، لأن ما تميزت به اللغات الإنسانية من تمفصل مزدوج مكنها- انطلاقا من استخدامها عددا محدودا جدا من الأصوات التي لا معنى لأي منها على انفراد- من تركيب عدد لا يحصى من الوحدات الصوتية ذات المعنى. ولذلك يعود الفضل فيما تُعرف به اللغة من اقتصاد إلى تلك الخصيصة التي مرونة تميزت بها كل الألسنة البشرية الطبيعية، فمكنتها من التعبير انطلاقا من المحدود من الوحدات غير الدالة ( الفونيمات) والوحدات الدالة( المونيمات) عن غير النهائي من المعاني والأغراض، فهو – الاقتصاد اللغوي- حسب مارتيني من أظهر آثار التقطيع المزدوج... ولو كان علينا أن نخص كل وحدة دنيا دالةٍ بإنتاج صوتي منفرد وأصم، أي غير قابل للتحليل، للزمنا أن نميز بين آلاف من هذه الإنتاجات، وهو ما يتجاوز قدرةَ البشر على تنويع النطقِ وطاقتَهم على إرهاف السمع.

     

     


  • النظرية السياقية( نظرية فيرث)

    النظرية السياقية( نظرية فيرث)

       على الرغم من عراقة البحث اللغوي البريطاني الذي تعود بدايته الفعلية إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وما عرفه من نمو وتطور منذ القرن السادس عشر خاصة في مجال الصوتيات واللهجات وتعليمية اللغات والتهجئة والتخطيط اللغوي... وغيرها من القضايا العملية التطبيقية، إلا أن هذه النظرية قد اقترنت باسم اللغوي جون روبيرت فيرث Firth J.R. (1890م- 1960م) الذي يعتبر أول من جعل اللسانيات علما معترفا به في بريطانيا خاصة بعد تأثره بالأنثروبولوجي البولندي المعروف مالينوفسكي B.Malinowski في حديثه عن سياق الحال context of situation، وقد كانت نظريته تحديا لبنائية – سلوكية- بلومفيلد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. كما كانت لبنة من لبنات الدراسة اللغوية البريطانية، ومعلوم أن الدافع الرئيس الذي حرك تلك الدراسات هو اتساع رقعة الإمبراطورية البريطانية بشكل مذهل، وازدياد الحاجة الماسة لدراسة اللغات الشرقية والإفريقية لأغراض متعددة، فكان من بين هؤلاء اللسانيين وليم جونز الذي كشف النقاب عن القرابة القائمة بين اللغة السنسكريتية واللغات الأوربية الكلاسيكية، وفيرث الذي أعطى نفسا جديدا للدراسات اللغوية البريطانية وجعلها تصطبغ بصبغته الخاصة.

    فالسياقية الفيرثية –إذن- ثمرة جهود متوالية عبر قرون من الزمن اصطبغت بها الدراسات اللسانية البريطانية التي شارك فيها –قبل فيرث- علماء كبار منهم: عائلة بال خاصة ألكسندر ملفيل بال Alexander Melville Bell(1890م- 1960م)، وابنه ألكسندر جراهام بال Alexander Graham Bell(1890م- 1960م) مخترع جهاز الهاتف.

     وهنري سويت Henry Sweet (1845م- 1912م) وهو أشهر اللسانيين التاريخيين البريطانيين في القرن التاسع عشر، وقد كان متأثرا بأعمال عائلة بال مهتما بالصوتيات متمكنا فيها، وقد عد بحق أب الأبجدية الصوتية العالمية.

     ودانيال جونز Daniel Johns(1881م- 1967م) الذي سار مقتفيا منهج سويت في الدراسة الصوتية.

    وقد تميزت هذه المدرسة – خاصة في عهدها الفيرثي- بفلسفة الأحديّة، إيمانا من صاحبها بأن ثمة مبدأً غائيا واحدا ألا وهو المادة، فكان يرفض باستمرار بناء فكره اللغوي على ما يسمى بالثنائيات التي يصعب تحقيقها من الناحية العملية، وذلك على خلاف ما ذهب إليه دي سوسير تماما.

    ولتفضيل علماء بريطانيا الأشياءَ العملية التطبيقية على الأشياء النظرية فإنهم لم يدرسوا اللغات لذلتها-خلافا لما دعا إليه دي سوسير- بل درسوها رغبة في منفعتها العاجلة، ومن ثم اهتموا بالكلام الفعلي أو استعمال اللغة في إطار المجتمع، خلافا لكثير من المدارس الأخرى التي أهملته وركزت على اللغة كنظام صوري مجرد، وهو ما جعل المدرسة البريطانية تولى العناية للجانب الاجتماعي في الدراسة اللسانية، ولذلك سميت بالمدرسة الاجتماعية، يقول فيرث:" إن اللغة ينبغي أن تدرس بوصفها جزءا من المسار الاجتماعي، أي كشكل من أشكال الحياة الإنسانية، وليس كمجموعة من العلامات الاعتباطية أو الإشارات."

    ولما كان المعنى هو الأساس في عملية التواصل القائمة بين المتكلم والمستمع، وهو ما يهدف المتكلم إلى إيصاله في رسالته إلى متلقٍ أو أفراد المجتمع، فلقد ركزت على دراسته ووصفت الضوابط التي تتحكم في الاستخدام الفعلي للغة لدى الجماعة اللغوية، وهو ما قادها إلى التأكيد على السياق في تحديد معاني الكلمات، ولهذا تنعت بالمدرسة السياقية، وهو الأمر الذي جعلها مدرسة غير بنيوية.

    والسياق هو مجموعة الظروف الطبيعية والاجتماعية والثقافية والنفسية التي يوجد ضمنها ملفوظ معين أو خطاب، وترى اللسانيات أن السياق هو مجموع العناصر الصوتية والصرفية والتركيبية التي تسبق أو تلحق وحدة لسانية داخل ملفوظ معين. ولذلك لا يُبحث عن معنى الكلمة بل عن استعمالها. لأن لها معنى أساسيا وآخر سياقيا، فالسياق هو الذي يوضح الغرض المقصود الذي من أجله وظفت هذه الكلمة أو تلك، ومن ثم لا يمكن الاعتماد على المعنى الحرفي للكلمة ولا المعنى الحرفي للجملة في بعض الاستعمالات، وفي هذا الإطار يقول برتراند رسل:" الكلمة تحمل معنى غامضا لدرجة ما، ولكن المعنى يكتشف فقط عن طريق ملاحظة استعماله، الاستعمال يأتي أولا وحينئذ يتقطر المعنى منه."، ومثال ذلك الفعل(ضرب) الذي يحمل دلالة مطلقة لعدم ارتباطها بسياق لغوي معين، غير أن معناه سرعان ما يتحدد ويتضح بمجرد تسييقه كقولنا:

    -        ضرب السيد خادمه (بمعنى عاقب)

    -        ضرب اللاعب الكرة(بمعنى سدد ورمى)

    -        ضرب الأستاذ مثالا من التاريخ القديم(بمعنى قدم)

    -        ضرب الرجل أخماسا في أسداس(بمعنى فكر)

    -        ضرب الرجل في الأرض(بمعنى سافر)

    فالفعل واحد في تلك التراكيب، لكنه اتخذ معاني متعددة ولدتها السياقات اللغوية المختلفة التي ورد فيها.

    وفي المقابل لو سمعنا جملة (أتممت العملية) في بيئات لوقفنا على المراد منها من خلال ملاحظة السياق غير اللغوي كشخصية المتحدث وزمان ومكان الحديث والأثر الذي يتركه الحديث على من يسمعه... فيكون معنى تلك الجملة عملية حسابية إذا سمعناه من تلميذ أو في محيط المدرسة، ويكون معناها عملية عسكرية إذا سمعناها من عسكري أو في محيط الثكنة، بينما يكون معناها عملية جراحية إذا سمعناها من طبيب أو في محيط المستشفى. فعلى الرغم من أن الجملة واحدة إلا أن معانيها مختلفة تبعا لاختلاف السياقات غير اللغوية التي أحاطت بها.

       فمن أجل الوقوف على المعنى الصحيح للكلمة أكدت النظرية على أهمية الوقوف على السياقات المختلفة التي ترد فيها، سواء منها السياقات اللغوية والسياقات غير اللغوية (الموقفية)، لأن معنى العبارات لا يتضح ولا يكون جليا إلا إذا روعيت الأنماط الحياتية للجماعة المتكلمة، وكذا الحياة الثقافية والعاطفية والعلاقات التي تؤلف بين الأفراد داخل المجتمع، فمعنى الكلام ليس سوى حصيلة لهذه العلاقات، وإهمالها يؤدي حتما إلى غيابِ المعنى وعدمِ الوقوف على حقيقته، ولذلك يصر فيرث على اعتبار اللغة جزءا من المسار الاجتماعي، ومن ثم فإن استخراج الدلالات اللسانية لا يكون ناجحا إلا إذا رُبطت اللغة بالقضايا الاجتماعية، السياسية، الإنسانية للمجتمع.

    إذن إن فيرث يرى أنه لا يتم تحرير المعنى والوقوف عليه إلا بمراعاة السياقين اللغوي وغير اللغوي اللذين ورد فيهما الحدث الكلامي، ومن ثم لا يُعرف معنى أي نص لغوي إلا بتحليله في المستويات اللغوية المختلفة، ثم بيان وظيفة هذا النص اللغوي ومقامه، ثم بيان الأثر الذي يتركه على من يسمعه... فالمعنى عنده يحتاج لبيانه إلى دراسة النواحي الصوتية والصرفية والنحوية والقاموسية، والوظيفة الدلالية لسياق الحال، ثم تستخلص نتائج تلك الدراسات، ويضم بعضها إلى بعض للتوصل إلى المعنى المطلوب، فكلمة(ولد) مثلا لها معنى مركب هو مجموع عدة وظائف وخصائص تتبين في: الوظيفة الصوتية، والمعنى القاموسي، والمعنى الصرفي، والمعنى النحوي، والمعنى الاجتماعي حسب اختلاف المقام والأحوال والملابسات الخارجية، وشخصية المتكلم والسامع، والناحية الصوتية من تنغيم وموسيقى، وما يصحب الكلام من حركات جسمية.

       وقد صرح فيرث بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية أي وضعها في سياقات مختلفة. ومن ثم كان سياق الحال (الموقف) عنده مكونا من مجموع العناصر المكونة للحدث الكلامي، وتشمل هذه العناصر التكوين الثقافي للمشاركين في هذا الحدث، والظروف الاجتماعية المحيطة به، والأثر الذي يتركه على المشاركين فيه. فالمعنى يفسر عنده بأنه " الوظيفة في سياق."

       ومما يمكن التنبيه عليه في هذا المقام الاعتراف بأن علماء العرب القدامى قد تنبهوا إلى أهمية المقام – سياق الحال-  في فهم دلالات الألفاظ، حتى قالوا: لكل مقام مقال، ولكل مقتضى حال، ومن ذلك اعتناؤهم -  خاصة المفسرين منهم – بأسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم، وهي –أي أسباب النزول- من السياق غير اللغوي(الموقف).

     

     

     

    مراجع لتعميق الفهم:

    النظريات اللسانية الكبرى، من النحو المقارن إلى الذرائعية/ ماري آن بافو- جورج إلياس رفاتي . تر: محمد الراضي

    أضواء على الدراسات اللسانية المعاصرة/ نايف خرما

    – موجز تاريخ علم اللغة في الغرب/  روبنز

    اللسانيات النشأة والتطور/ أحمد مومن

    اللسانيات، مجلة في علم اللسان البشري تصدرها جامعة الجزائر1972/ مدخل إلى علم اللسان الحديث/ عبد الرحمن الحاج صالح

    مدخل إلى اللسانيات/ محمد محمد يونس علي

    اللسانيات، منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية/ حنيفي بن ناصر، مختار لزعر

    المدارس اللسانية/ أحمد عزوز

    المدارس اللسانية/ شفيقة العلوي

    – في علم الدلالة / عبد الكريم محمد حسن جبل

    – علم الدلالة / أحمد مختار عمر

    – الدلالة اللغوية / عبد الغفار حامد هلال

     


  • Topic 10

  • Topic 11

  • Topic 12

  • Topic 13

  • Topic 14

  • Topic 15

  • Topic 16

  • Topic 17

  • Topic 18

  • Topic 19