Topic outline

  • مفاهيم تاسيسية

     

    يمكننا استهلال هذه المحاضرة بمجموعة من الأسئلة المتعلقة بعلم النحو وظروف نشأته ونموه ونضجه، منها: ما النحو؟ وما الباعث على نشأته؟ ومتى وضع ومن واضعه؟ وكيف كانت حاله في بداياته الأولى؟ وهل بقيت حاله - فيما بعد - كما كانت حين نشأ؟

    تعريف النحو:

       جاء في المقاييس لابن فارس:" النون والحاء والواو كلمةٌ تدلُّ على قصد. ونحوْتُ نَحْوَه. ولذلك سمِّي نَحْوُ الكلام، لأنه يَقصِد أصول الكلام فيتكلمُ على حَسَب ما كان العرب تتكلَّم به... ومن الباب: انتحَى فلانٌ لفلانٍ: قصَدَه وعَرَض له."

       أما النحو في الاصطلاح فهو كما جاء في خصائص ابن جني في باب القول على النحو:" هو انتحاء سَمْت كلامِ العرب في تصرفه من إعراب وغيره، كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطقَ بها وإن لم يكن منهم، وإن شذّ بعضهم عنها رُد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع أي: نحوت نحوا كقولك: قصدت قصداً، ثم خصّ به انتحاء هذا القَبِيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقِهت الشيء، أي عرفته ثم خصّ به علم الشريعة من التحليل والتحريم، وكما أن بيت الله خُص به الكعبة وإن كانت البيوت كلّها لله، وله نظائر في قصر ما كان شائعاً في جنسه على أحد أنواعه."

    بواعث نشأة النحو:

       أما ما تعلق بنشأة علم النحو من أسباب ودوافع فيعود معظمها إلى أسباب دينية قرآنية بالدرجة الأولى، وذلك بعد أن اتسعت بلاد الإسلام منذ القرن الهجري الأول جراء الفتوحات وما نجم عن ذلك من اختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم الذين صاروا مسلمين مخالطين للعرب في شبه الجزيرة وغيرها من البلاد الإسلامية، راغبين في تعلم دينهم، مقبلين على كتاب ربهم، مواظبين على زيارة المقدسات الإسلامية من أجل الحج والعمرة خاصة، فضلا عن المجاورة والإقامة، وهو الأمر الذي أثر على اللغة العربية سلبا فأدى إلى بداية فشوَ اللحن في البيئة العربية، وهي البيئة التي طالما حافظت على سلامتها اللغوية قرونا قبل ذلك، حيث " كان العرب ينطقون عن سليقة فطروا عليها، فلا يجهدون الذكر في ترتيب المفردات أو بناء الجمل، وهم في حال معرفه تامة بأساليب كلامهم عل وفق ما جبلوا عليه، وما توارثوه من أسلافهم. غير أنهم بعد مجيء الإسلام، ومخالطتهم الأعاجم مالت ألسنتهم إلى اللحن، والخروج عن أصول الكلام إلى مالا تحمد عقباه، فكانت غيرتهم على الدين وعربيتهم دافعاً لوضع النحو."

      وبعد أن رأى بعض الغيارى المخلصين من العلماء وولاة الأمر خطرَ اللحن الواقع من أبناء العرب ومن بعض أكابرهم -وهو الخطر الذي تعاظم وتفاقم حين تعدى اللحنُ اللغةَ إلى القرآن الكريم- انبروا للنظر في لغة العرب مستخرجين قواعدها من استعمالات السليقيين ومن مصادر أخرى على رأسها كلام الله تعالى، ولذلك فإن الدافع الرئيس الذي مهد لنشأة الدراسات النحوية دافع ديني بالدرجة الأولى، متعلق بالخوف على نصوص القرآن الكريم من التحريف نتيجة لتوسع رقعة الدولة الإسلامية ودخول الأعاجم في الدين الجديد منذ القرن الهجري الأول، وفي هذا  يقول محمد حسين آل ياسين:" إن النحو العربي نشأ بسبب الزيغ الذي طرأ على ألسنة العرب والخطأ في تلاوة القرآن الكريم، وذلك بعد اختلاطِ العرب بغيرهم من الأمم الأعجمية -ولاسيما في الأقطار المجاورة للجزيرة-  ونشأةِ المجتمعات الكبيرة التي جمعت أخلاطا مختلفة من الناس، فنشأ من هذا الاختلاط في الحياةِ والاجتماعِ الاختلاطُ اللغوي وطروقُ الفساد على ألسنة العرب وأبنائهم الناشئين في مثل هذه المجتمعات، وفي طليعة ذلك مجتمعات البصرة والكوفة وبغداد."

       ولمّا كان للقرآنِ الكريم أثرٌ عظيمٌ في الّلغة العربيّة، بعدِّه المصدر الأوّل للعربيّة، وكتابِها الأكبر، إذ إليه ترجع نشأةُ علومها كافّةً، من نحوٍ وصرفٍ ولغةٍ ومعجمٍ وبلاغةٍ وغيرها، فإنَّ الّلحْنَ وحدَهُ، لا يفسّر نشأة النّحو؛ فالنّحو شأنُ العلوم الإسلاميّة الأخرى، نشأ لفهم القرآن الكريم، والبونُ شاسعٌ بين محاربةِ الّلحن، وإرادةِ الفهم؛ لأنّ اللحنَ ما كانَ ليفضيَ بهذا النّحو إلى ما أفضى إليه في هذه المرحلة الباكرة من حياته."

     وضع النحو واضعه:

       أما عن واضعه فإن العلماء والمؤرخين اختلفوا في الأولين الذين سبقوا إلى هذا الوضع، ولجلال الدين السيوطي - رحمه الله- كتاب بعنوان (سبب وضع علم العربية) جمع فيه كثيرا من المرويات المتباينة المتعلقة بنشأة علم النحو وأول من وضعه، يقول في مقدمته:"... فهذا جزء جمعت فيه الأخبار المروية في سبب وضع علم العربية وبالله التوفيق"

     وبتتبع كتب التراجم وما ذكره الرواة القريبون إلى هذا العصر، يتبين أن معظمهم ينسب الوضع الأول إلى أبي الأسود الدؤلي،

       أما موطنه فالبصرة بلا خلاف، إذ " لما كانت البصرة أول مدينة مُصِّرت في الإسلام وفي العراق كانت أسبق إلى هذا الاختلاط وانتشار الخطأ والفساد في الألسنة، فكانت الداعيةُ فيها إلى نشأة ضوابط لسانية تصون ألسنتهم من الخطأ في المنطق وفي التلاوة القرآنية أشدَّ، ولهذا قام الغيارى على هذه اللغة وعلى لغة التنزيل بالمبادرة الأولى في وضع هذه الضوابط." حال النحو في بداياته الأولى:

       أما عن حال النحو في بداياته الأولى فمتسمة بالبساطة والسطحية، شأنه شأن مختلف العلوم في بداياتها، وقد وثقت الروايات المتعلقة بنشأة النحو وواضعه أهم مواضيعه ومباحثه التي تطرق إليها أصحاب قصب السبق بالتدريج في ذاك المجال بدءا بأبي الأسود الدؤلي ثم تلامذته من بعده كعنبسة الفيل، وعبد الرحمن بن هرمز، ونصر بن عاصم الليثي، ويحي بن يعمر العدواني، إلى أن قوي واستوى شيئا فشيئا على يدي عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبي عمرو بن العلاء، ومن جاء بعدهم كالخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأخفش الأكبر أبي الخطاب، وسيبويه، والكسائي، والفراء، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة،  وغيرهم من جهابذة النحو.

     وقد وصف أحمد مختار عمر تلك الحال الأولى التي اتسم بها النحو بأنها " إشارات أو أحكام سريعة تمت في وقت مبكر جدا لا يتجاوز النصف الثاني من القرن الأول الهجري كتلك التي قام بها أبو الأسود الدؤلي أو علي بن أبي طالب أو غيرهما." خلافا لما صار عليه النحو فيما بعد خاصة في زمن الخليل.

    نضج النحو وثراؤه بالآراء والمذاهب:

       إن كون الكتاب لسيبويه أولَ عمل نحوي كامل يصل إلينا ممثِّلا نحو النصف الثاني من القرن الهجري الثاني إنما يعني جهودا وإسهامات قدمها النحويون قبله فأضاف كل لاحق لبناتٍ إلى ما بناه وسطره السابقون، فقام النحو صرحا مكتمل البناء حسنَه. وقد ذكر المؤرخون وأصحاب التراجم كثيرا من الآراء والاجتهادات والأعمال النحوية التي سبقت الكتاب وأسهمت في تدرج النحو واكتماله، خاصة ما ألفه عيسى بن عمر، حيث قيل إن له كتابين أحدهما سماه (الجامع)  والآخر (الإكمال) وكلاهما مفقود، وقد مدحهما الخليل بقوله:

    بطل النحو جميعا كله        غير ما أحدث عيسى بن عمر

    ذاك إكمال وهذا جامع      فهما للناس شمس وقمر

    فالحقيقة إذن أن النحو لم تبق حاله كما كانت عليه في بداياته الأولى، فقد عرفت ساحة هذا العلم إقبالا منقطع النظير، وهو الأمر الذي جعله من أغنى العلوم من حيث كثرة علمائه ومريديه، ومن حيث تعدد الآراء وتباينها فيما يتعلق بقضاياه ومسائلِه، ومن حيث اختلاف الأصول التي اعتمدها المنتسبون إليه، ومن حيث وفرة مؤلفاته وتنوعها، ومن حيث استمراره وتعميره، إذ لم يخل قرن من القرون من مؤلفات جديدة فيه، ومن حيث انتشاره وتوزعه الجغرافي، إذ لم تتخلف بيئة من بيئات العالم الإسلامي شرقه وغربه عن شرف الإسهام فيه... وهو الأمر الذي ترتب عنه ما يسمى بالمذاهب أو الاتجاهات أو المدارس النحوية.

    تقسيم المدارس النحوية:

       بعد إجابتنا عن السؤال الأخير المتعلق بحال النحو بعد نشأته ونضجه، وإشارتنا إلى ما عرفه من تنوع في البيئات، وتباين في الأصول، وتعدد في الآراء والمذاهب التي ازدادت بمرور الزمن، سنتناول موضوع التقسيم المتعلق بآراء العلماء فيما يخص تلك الاتجاهات أو المذاهب أو المدارس... فقد مر موضوع تقسيم النحاة واتجاهاتهم أو انتماءاتهم بثلاث مراحل:

    1/ تسمية العلماء بأمصارهم وبلدانهم: وقد كان ذلك شائعا منذ أن تميز أهل الكوفة عن أهل البصرة وظهر الخلاف بينهما في الآراء والأصول والمصطلح وغير ذلك، وهو على غرار الخلاف الذي كان في بيئات علمية مختلفة على رأسها بيئة الفقه.

     وتسمية العلماء بأمصارهم وبلدانهم أمر شائع معروف في مؤلفات من أرخوا للنحو من متقدمي المؤرخين وأصحاب التراجم ومن اهتموا بالقضايا الخلافية وبالأدب عامة كابن سلام( 224 هـ) وابن قتيبة( 276هـ)  وأبي الطيب اللغوي( 351 هـ)... وقد كان من أشد الدارسين رفضا لهذا المعيار سعيد الأفغاني " فليس هناك قاعدة أجمع عليها نحاة البصرة وتوارد على معارضتها نحاة الكوفة، أو قال بها الآخرون جميعا وعارضها الأولون جميعا"

    2/ وسم مناهج العلماء وطرائقهم بمصطلح " مذهب": وهي مرحلة تالية لمرحلة التسمية الجغرافية، حيث كان يطلق على ما نسميه اليوم مدرسة نحوية اسم المذهب على غرار ما كان معروفا في بيئات علمية أخرى بين أصحابها اختلاف في الآراء وبعض الأصول كالمذهب المالكي أو الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أو الظاهري في بيئة الفقهاء، وكالمذهب الأشعري أو الماتريدي أو المعتزلي في بيئة المتكلمين. وكان ممن سبق إلى إطلاق ذلك في بيئة النحو ابن النديم( 385 هـ) في (الفهرست) وأبو بكر الزُبيدي (379 هـ) في (طبقات النحويين واللغويين) وقد سار على تلك التسمية كثير ممن جاء بعدهما من المهتمين بالنحو والنحاة كأبي البركات الأنباري(577هـ)  في ( نزهة الألباء في طبقات الأدباء )...

    3/ إطلاق اسم "مدرسة" على المذهب أو المصر المعين: وهي تسمية حديثة تنم عن تأثر بالغربيين الذين شاع عندهم هذا المصطلح خاصة في الدراسات الأدبية كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومنسية والمدرسة الواقعية والمدرسة الرمزية، وكذلك الدراسات اللسانية كمدرسة جونيف والمدرسة التوزيعية والمدرسة السياقية... وتعود بدايات استخدام هذا المصطلح إلى المستشرق كوتولد فايل G.Weil في مقدمة كتاب (الإنصاف) للأنباري، وقد تبعه كارل بروكلمان في كتاب (تاريخ الأدب العربي). أما من أوائل العرب استخداما لهذا المصطلح فنذكر الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو)، ثم شوقي ضيف فيكتابه (المدارس النحوية) وعبد الرحمن السيد من خلال كتابه (مدرسة البصرة النحوية).

    بين المذهب والاتجاه والمدرسة:

    مفهوم المذهب:

    هو " الطريقة والمعتقد الذي تذهب إليه، والمذهب عند الفلاسفة مجموعة من الآراء والنظريات الفلسفية ارتبطت بعضُها ببعض ارتباطا منطقيا حتى صارت ذات وحدة عضوية منسقة ومتماسكة." وعلى ذلك فطريقة البصريين في دراسة النحو مذهبٌ وطريقة الكوفيين مذهبٌ آخر غيرُ المذهب الأول، وقد سمي كل من المذهبين فيما بعد مدرسةً "والقدماء أنفسهم أطلقوا على منهج البصريين اسم المذهب ومثله على منهج الكوفيين، وهم يقصدون بهذا الاسم ما نقصد بالمدرسة."

    مفهوم الاتجاه: يشبه هذا اللفظ من حيث الدلالة لفظ المذهب، فالاتجاه كما يبدو بمعنى المذهب، ولم يفرق بينهما الشيخ الطنطاوي في كتابه( نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة) أثناء حديثه عن المذهب البغدادي حيث قال:" نشوء المذهب البغدادي على أيدي الجامعين بين النزعتين: قد مر بك أن فترة من الزمن بعد تلاقي الفريقين في بغداد اختلف فيها اتجاهات العلماء إلى ثلاثة أنحاء." ضمت البصريين والكوفيين والبغداديين.

     إلا أن الاتجاه قد يكون أخص من المذهب والمدرسة وأقل شأنا منهما، كأنْ يكون في المذهب الواحد اتجاهات مختلفة يضمها ذلك المذهب، أو أن يكون خاصا بشخص واحد كأنْ يكون لسيبويه اتجاه وللمبرد اتجاه آخر وكلاهما يمثل المذهب البصري أو المدرسة البصرية، فلا يرقى الاتجاه إلى وسمِه بالمذهب أو المدرسة، لأن المذهب كما عرفنا الطريقة والمعتقد الذي يتشكل من مجموعة من الآراء والنظريات.

    مفهوم المدرسة: جاء في المعجم الوسيط:" المدرسة جماعة من الفلاسفة أو المفكرين أو الباحثين تعتنق مذهبا معينا أو تقول برأي مشترك، ويقال هو من مدرسة فلان على رأيه ومذهبه."

      وهي عند محمد حسين آل ياسين " لفظ يطلق على جماعة من الدارسين تشترك في وجهة النظر، ويكون لها منهج خاص يؤلف منها جبهة علمية، ويرتبط أفرادها برباط الرأي الموحد."

    وقد عرف أحمد مختار عمر المدرسة النحوية بقوله:" إن هذا المصطلح يعني في نظرنا وجود جماعة من النحاة، يصل بينهم رباط من وحدة الفكر والمنهج في دراسة النحو. ولابد أن يكون هناك الرائد الذي يرسم الخطة ويحدد المنهج، والتابعون أو المريدون الذين يقتفون خطاه ويتبنون منهجه، ويعملون على تطويره والدفاع عنه. فاستمرار النظرية، أو المنهج، ودوامها عبر السنين شرط أساسي لتكون المدرسة التي لا يمكن أن تستحق هذا الاسم، أو يعترف بوجودها بمجرد مولد النظرية أو خلقها، حتى تعيش ويكتب لها البقاء لبعض الوقت بين المريدين."

    موقف الدارسين من النحو العربي: تعددت آراء من تناول النحو العربي بالدراسة وتباينت، ومن ذلك:

    - من الدارسين من أنكر وجود مدارس نحوية يتميز بعضها عن بعض أسلوبا ومنهجا، مدعيا أنها مجرد تجمعات جغرافية، ومن هؤلاء على أبو المكارم في (أصول التفكير النحوي) وسعيد الأفغاني في (في أصول النحو)، يقول:" درج العلماء على أن هناك مذهبا بصريا وآخر كوفيا. فما معالم كل من المذهبين؟ هذه الميزات والمعالم الآتية بعد ليست جامعة مانعة. فليس هناك قاعدة أجمع عليها نحاة البصرة وتوارد على معارضتها نحاة الكوفة، أو قال بها الآخرون جميعا وعارضها الأولون جميعا."

    - ومنهم من لم يعترف إلا بمدرسة وحيدة هي مدرسة البصرة منكرا وجود مدرسة أخرى اسمها المدرسة الكوفية فضلا عن غيرها من بغدادية وأندلسية ومصرية... وقد سبق إلى هذا الرأي المستشرقُ جوتولد فايل G.Weil في مقدمة كتاب الإنصاف للأنباري، وممن قال به من العرب الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه المدارس النحوية أسطورة وواقع.

    - ومنهم من أثبت وجود مدرستي البصرة والكوفة فقط، وهو رأي الدكتور مهدي المخزومي، وإليه مال الدكتور محمد حسين آل ياسين حيث قال - بعد أن ساق تعريف المدرسة-:" وعلى هذا فهناك مدرستان في الدراسة اللغوية قديما هما مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، لصحة انطباق الحد المذكور على كلتا المدرستين، ونحن نختلف مع من نفى صفة المدرسة عن الكوفيين على هذا الأساس. ونختلف أيضا على الأساس نفسه مع من أطلق على جماعة من الدارسين في بغداد اسم المدرسة البغدادية وأخرى في مصر اسم المدرسة المصرية وثالثة في الأندلس اسم المدرسة الأندلسية." فخلافه هذا مع من لم يعترف إلا بالمدرسة البصرية وعلى رأسهم كوتولد فايل وإبراهيم السامرائي، ومع من قال بوجود مدارس كثيرة كما فعل شوقي ضيف في كتابه المدارس النحوية.

    وهذا الرأي هو نفسه رأي الزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين، حيث جعل البغداديين مع البصريين أحيانا ومع الكوفيين أحيانا أخرى، وذلك حسب اتجاه كل نحوي وميوله، وكثيرا ما كان القدماء يسمون هؤلاء البغداديين بالجماعة الذين خلطوا المذهبين، ولم يطلقوا عليهم اسم المدرسة أو المذهب وعيا منهم لطبيعة المنهج كما فعل كل من ابن النديم( 385 هـ)  في الفهرست، والزبيدي ( 379 هـ) في الطبقات، والسيرافي( 368 هـ)  في أخبار النحويين، والأمر نفسه بالنسبة للنحاة الأندلسيين والمغاربة والمصريين والشاميين لأنهم جميعا ممن خلطوا المذهبين وعولوا في النحو على الانتخاب وشيء من الاجتهاد خلافا لما تميز به النحو البصري عن النحو الكوفي.

     


  • أسباب ظهور المدارس النحوية ( السياسية، المعرفية، المذهبية...)


       ارتبطت نشأة النحو بفشو اللحن زمانا ومكانا، وذلك في العراق بلا خلاف، وعلى وجه التحديد في البصرة، وفي خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أو في بداية الدولة الأموية، وعموما في زمن حياة أبي الأسود الدؤلي على الأرجح، وفي تلك البيئة العراقية البصرية ترعرع النحو ونما وتميز بأسسه وأصوله ومنهجه وضوابطه وقواعده ومصطلحاته خاصة على يدي الخليل بن أحمد بعد أبي عمرو بن العلاء. وعن الخليل أخذ رأسُ المذهب الكوفي في النحو."  فلماذا ارتبط النحو منذ نشأته بالعراق، وبالبصرة خاصة دون سواها من الأمصار؟

       روايات كثيرة تتحدث عن سبب إقدام أبي الأسود على وضع النحو واصفةً حال اللغة في المجتمع العراقي عامة والبصري خاصة، وذلك بعد اختلاط أهلها بالأعاجم، منها أن أبا الأسود جاء إلى زياد بن أبيه، أمير البصرة، وكان يعلم أولاده فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل. قال: فجاء رجل إلى زيادٍ فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنون! ادعوا لي أبا الأسود، فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه ففعل. ومما حفز أبا الأسود الدؤلي إلى التقعيد للعربية سماعُه قارئا يقرأ على قارعة الطريق قوله تعالى:{ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولهُ }- التوبة من الآية 3- بالكسر، فقال: حاشا لله أن يبرأ من رسوله، وما كنت أحسب أن أمر الناس قد صار إلى هذا، ولذلك قال أبو عمرو بن العلاء واصفا ما آلت إليه اللغة في العراق من لحن وما ترتب عن ذلك من فساد في الدين مترتب عن الفساد اللغوي:" أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية."

       ولما كانت العلوم ثمرة من الثمار الطيبة للحضارات كان العراق -وهو أرض الحضارات- أولى بأن يحتضن علم النحو ويتعهده بالرعاية، يقول صاحب كتاب نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة:" إقليم العراق العربي من أسبق الأقاليم مدنية وعمرانا لخصب تربته ووفرة مياهه واعتدال جوه، تعاقبت عليه قدما متحضرو الأمم من البابليين والأشوريين والفرس، كما انحدر إليه العرب من بكر وربيعة وكانت منهم إمارة المناذرة بالحيرة، ولما أشرقت عليه شمس الإسلام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أنشأ فيه المسلمون البصرة سنة 15. ثم الكوفة بعدها بستة أشهر على أصح الروايات، وسرعان ما ازدهر البلدان وتحولت إليهما حضارة بابل والحيرة وهوت إليهما أفئدة من المسلمين وزخرا بالعلماء والقواد وتقاسما مدنية العراق، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكانوا يطلقون أحيانا عليهما العراقين."

    ويمكن إجمال أهم الأسباب التي جعلت من العراق موطنا للنحو حاز به قصب السبق وتميز من خلاله عن بقية بلاد العرب فيما يلي:

    - العراق ملجأ العجم -خاصة من الفرس- قبل الفتح الإسلامي وبقي كذلك أثناء الفتح وبعده، بل صار بعد الفتح ملجأً للعجم والعرب وهم ذوو لغات (لهجات) مختلفة، لتوفره على أسباب الحياة الحضارية الكريمة، فهو " على حدود البادية وملتقى العرب وغيرهم، توطنه الجميع لرخاء الحياة فيه، فكان أزهر بلد انتشر فيه وباء اللحن"  حيث " اختلط العربي بالنبطي، والتقى الحجازي بالفارسي، ودخل الدين أخلاطُ الأمم، وسواقطُ البلدان، فوقع الخلل في الكلام، وبدأ اللحن في ألسنة العوام."

    - أسبقية تفشي اللحن في أمصار العراق بدءا بالبصرة، خاصة بعد الفتح، بسبب ذلك الاختلاط الذي لم تعرف منه بقية البلاد العربية إلا القليل، قال أبو بكر الزبيدي:" ولم تزل العرب في جاهليتها وصدر من إسلامها، تبرع في نطقها بالسجية، وتتكلم على السليقة، حتى فتحت المدائن، ومصرت الأمصار، ودونت الدواوين." إذ حينها وقع الخلل في الكلام، وبدأ اللحن في ألسنة العوام. وقد قيل إن البصرة أول مدينة مصرت في الإسلام أيام خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فكانت إلى اللحن وانتشار الفساد اللغوي أسبق، ومن ثم فإن " أول ما وضعت نواة ذلك أي النحو- في مدينة البصرة التي كثر فيها هذا الزيغ اللغوي والخطأ في التلاوة، وانتشرت فيها العامية بسبب مستوطنيها من الأعاجم واختلاطهم بأبناء العرب."

     ومن ثم راح علماء العراق يتتبعون مواضع اللحن مسطرين معايير الصواب اللغوي في جميع مستويات الدراسة اللغوية ليستعين بها الموالي وعرب الحضر، ومن ذلك ما نقل عن الفراء من قوله: أَوَّلُ لَحْنٍ سُمِعَ بالعِراق هذه عَصاتي بالتاء. وقد قيل أيضا: إن أول لحن ظهر في العراق قولهم: حيِّ على الصلاة بكسر الياء والصواب الفتح، وقيل: قوله: " لعل له عذرٌ وأنت تلوم."  كما قيل: أول زيغ ظهر في الألسنة تسكين أواخر الكلم هربا من الإعراب.

    - ما عرف للعراق من خبرة متوارثة في مجال العلوم والتأليف، خاصة أن اليونانيين - وهم أهل الفلسفة والمنطق والطب - قد تكاثروا في البصرة منذ أسكنهم الإسكندر فيها إثر غزوه لتلك المنطقة، ولذلك اتسعت فيها- بعد الفتح- الدراسات العقلية والفلسفة والكلامية، فضلا عن علوم أخرى على رأسها علم النحو الذي كانت البصرة أسبق في الاهتداء إليه والتبريز فيه من الكوفة التي كانت مشتغلة بالقراءات ورواية الشعر، وذلك بنحو قرن من الزمن. قال ابن سلام في الطبقات:" وكان لأهل البصرة في العربية قدمة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية، وكان أول من أسس العربية وفتح بابها، وانهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي... وإنما قال ذلك حين اضطرب كلام العرب، فغابت السليقة ولم تكن نحوية، فكان سَراة الناس يلحنون ووجوهُ الناس." فلماذا سبقت البصرة الكوفةَ؟

    عوامل سبق البصرة في علم النحو:

    - العامل الجغرافي: كانت البصرة أقرب مدن العراق إلى بوادي العرب الأقحاح، ولذلك سهل على علمائها التعامل معهم من خلال الرحلة المتبادلة، خلافا للكوفة البعيدة عن تلك البوادي " فعلى مقربة منها بوادي نجد غربا والبحرين جنوبا، والأعراب تفد إليهم منهما ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة، وكل أولئك يسر لعلماء البصرة حينما قاموا بتدوين القواعد أن يجدوا طلبتهم وينالوا رغبتهم، ففي هذه الثلاثة مدد من اللسان العربي الفصيح لا ينفد وهم في بصرتهم مقيمون لا يتجشمون بعدئذ أسفارا ولا يجربون قفارا، إذ لم تشتد الحاجة أولا للرحلة في مدى الطبقتين الأوليين من طبقاتهم."

       وقد أسهم هذا العامل الجغرافي في الاختلاط الاجتماعي بين البدو الفصحاء وأهل البصرة المتحضرين فاستفاد علماؤها من الأعراب الذين استوطنوها، يقول محمد حسين آل ياسين: " وكان لها من موقعها الجغرافي المهم ومن كونها مركزا تجاريا يتوسط الشرق والغرب ما ساعد على نموها واتساعها بزمن قصير، فهاجر إليها من هاجر من القبائل العربية وبخاصة من تميم وقريش وكنانة وثقيف وباهلة وبكر وعبد القيس والأزد وغيرهم."

    - العامل الثقافي: ويتمثل خاصة في قرب سوق المربد منها، وهو كسوق عكاظ في الجاهلية، فيه ما يشبه النوادي الأدبية والمجامع الثقافية، فكان يقصده الشعراءُ ورواتُهم للإنشاد والاستفادة من النقاد، ويتردد عليه أصحابُ المذاهب للمناظرات والدعوة إلى عقائدهم " كما كان العلماء والأدباء والأشراف ينزلون فيه للمذاكرة والرواية والوقوف على ملح الأخبار، واللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون، والنحويون يسمعون فيه ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم."

       وفضلا عما تميزت به البصرة من اشتمالها على سوق المربد، وعما زخرت به من مدارس لتعليم القرآن الكريم وتفسيره، ومن حلقات مسجدية لتعليم الصبيان، ومن مجالس للوعظ والقصص، قد تميزت عن الكوفة أيضا بتعايش ثقافي بين أمم مختلفة، فإضافة إلى العرب الذين استوطنوها، وهم من قبائل شتى، قد " سكنها الفرس الذين دخلوا الإسلام... واستوطن البصرة أيضا جماعة من السِّنْدِ يسمون (الزُّطّ)، وجماعة من النبط الآراميين (الصابئة)، والسَّبابِجَةُ الوافدون من جنوب شرقي آسيا، واليونانيون الذين تكاثروا منذ أسكنهم الإسكندر فيها في غزوه لهذه المنطقة، والزنوج النازحون إليها من السودان وزنجبار... ومن الطبيعي أن يكون نتيجة هذا المزيج من اللغات والثقافات والعادات تأثرا وتأثيرا واضحين في كل واحدة من هذه العناصر، فللعرب غلبة الدين واللغة، وللفرس غلبة أسباب الحضارة من ملبس ومأكل وملعب وبناء وغير ذلك، ولليونانيين والهنود غلبة الفلسفة والمنطق والطب، وهكذا صار الطابع الذي يطبع المجتمع البصري مزيجا من كل هذه الثقافات المتباينة."

    - العامل السياسي: ويتعلق الأمر بما كان بين المِصْرَين -على الرغم من انتمائهما لبلد واحد هو العراق -من خلافٍ سياسي مترتب عن الخلاف بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- والمطالبين بالثأر لعثمان -رضي الله عنه- وعلى رأسهم الأمويون، وذلك منذ وقعة الجمل بين علي وعائشة -رضي الله عنها- والتي تعتبر وقعة بين المِصْرَين، حيث كانت البصرة التي نزلتها عائشة -رضي الله عنها- عثمانيةً أُموية، وهو الأمر الذي جعل منها مدينة مستقرة لنيلها رضى الأُمويين منذ القرن الهجري الأول، ولذلك تقدمت وازدهرت في وقت مبكر وحازت قصب السبق في علوم كثيرة منها النحو، بينما كانت الكوفة التي اتخذها علي -رضي الله عنه- مدينة علوية -عباسية بعد ذلك- مناوئة للأُمويين، وهو الأمر الذي جعل منها مدينة مضطربة لعدم رضى حكام بني أُمية عنها، وذلك منذ القرن الهجري الأول أيضا، فتخلفت عن البصرة لسخط الأُمويين على أهلها، ولم تزدهر وتنافس في مجال العلوم إلا حين سقط الأُمويون وقام مقامهم العباسيون الذين أقصوا البصريين المناوئين لهم منذ أيام الفتنة الكبرى، وقدموا الكوفيين الموالين لهم منذ أيام الفتنة أيضا، ولذلك كانت بيعة أبي العباس السفاح، أول الخلفاء العباسيين، في الكوفة وذلك " بفضل تشيعها ومظاهرتها للهاشميين، ولقد حفظ العباسيون لها تلك الصنيعة وعطفوا عليها وكافئوها، فانقلب الأمر في البلدين، وعزت الكوفة بعد ذل وأفل نجم البصرة بعد تألق { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران/ 140]

     


  • مصادر المدارس النحوية


       لم تختلف مصادر النحو عن مصادر الدرس اللغوي بصفة عامة، ولذلك عول النحويون على ما عول عليه اللغويون مما نُقل مِن كلام مَن يوثق بفصاحته نقلا صحيحا، فركزوا على السماع أو النقل، قال ابن الأنباري في كتاب لُمع الأدلة في أصول النحو:" اعلم أن النقل هو الكلام العربي الفصيح المنقول بالنقل الصحيح الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة. وعلى هذا يخرج ما جاء شاذا من كلام غير العرب من المولدين وغيرهم، وما جاء شاذا في كلامهم." فهذا الموصوف هو أهم ما اعتمد عليه النحويون -على اختلاف اتجاهاتهم ومدارسهم- وقد فصل ذلك السيوطي أثناء حديثه عن السماع بقوله:" أعني به ما ثبت فى كلام من يوثق بفصاحته، فشمل كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم، وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكلام العرب قبل بعثته وفى زمنه وبعده، إلى زمن فسدت الألسنة بكثرة المولدين، نظما ونثرا، عن مسلم أو كافر."

     فمصادر النحو التي اهتم بها النحاة -على اختلاف أسسهم في الاستقراء والسماع والقياس- متمثلة في: القرآن الكريم، القراءات القرآنية، الحديث النبوي الشريف، كلام العرب الشعري والنثري، وهي مصادر اختلف النحاة في التعامل معها تبعا لمنهج كل نحوي أو مدرسة.

    1-  القرآن الكريم: المراد بالقرآن الكريم النص القرآني المدون في المصحف، وهو عند اللغويين والنحاة أعلى درجات الفصاحة، لأنه أفصح الكلام وأبلغ التعبير، ولذا وقفوا منه موقفا موحدا فاستشهدوا به، وقبلوا كل ما جاء فيه وقدموه على ما سواه.

    2-  القراءات القرآنية: القراءةُ لغةً: مصدر (قرأ). وأمَّا القراءات اصطلاحاً، فهي:" علمٌ بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو النّاقلة ". أي: هي علمٌ ثابتٌ بعزو النّاقلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مصدر له سوى النقل. وذهب الدكتور عبد الهادي الفضلي إلى أنَّها:" النّطق بألفاظ القرآن كما نطَقها النّبي، أو كما نُطِقَتْ أمامه فأقرّها."

    أمَّا أبو حيّان الأندلسي، فرأى أنّها:" الوجوه المختلفة التي سمح النّبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة نصّ المصحف بها قصداً للتّيسير، والتي جاءت وفقاً للهجةٍ من اللهجات العربيّة "

    ومهما يكن الأمر فإنَّ القراءات القرآنية توزّعت بين المقبولة والشاذة، ولكن ماذا عن هذه القراءات، المقبول منها والشاذ؟ وماذا عن موقف النّحاة منها؟

    ينبغي الإشارة إلى أن بعض متقدمي اللغويين والنحاة كانوا يترددون في الاحتجاج بما لم يرد إلا في قراءةٍ، فقد حكم ابن جني(ت392هـ)  بشذوذ ( وَدَعَ) ماضي يَدَعُ لعدم سماعها عن العرب في علمه! ولم يخرجها من الشذوذ بقراءة {مَا وَدَعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [ الضحى/ 3]  التي قرأ  بها ابن عباس وعروة بن الزبير، -وودع هنا مثل ترك وزنا ومعنى-، ولا ببيت أبي الأسود الدؤلي:

    ليت شعري عن حبيبي ما الذي      غاله في الحب حتى وَدَعَه

    كما عُرف عن المبرد (ت285هـ) تعصبه لمقياسه النحوي الذي رد به قراءات لم توافق ذلك المقياس، ومن ذلك قراءة نافع { وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعائِشَ}- [ الأعراف/ 10- الحجر/ 20] حيث اعتبر لفظة معائش غلطا ورمى القارئ بالجهل بالعربية، وقال: لو قرئت هكذا وأنا أصلي وراء الإمام لم أصل خلفه أبدا! ومن ذلك أيضا موقفه من قراءة { ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ } [الحج / 15] بتسكين لام الأمر بعد ثم، وقراءة { هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ } [ هود / 78] بنصب أطهر، حيث قال: هذا خطأ فاحش!. فهو قد " أخضع القراءات المشهور منها والنّادر إلى مقياسه النّحوي ضارباً الصّفح عن سنّتها متعلّلاً بضرورة التّحليق بأسلوب القرآن، وحَمله على أشرف المذاهب في العربيّة. إضافة إلى ذلك دعا لتجنُّب الأخذ بالقراءات الشاذة لما في ذلك من ضرر على اللغة والنّحو، ومن هنا كان قوله المعروف:" إذا جعلت النّوادر والشّواذ غرضك كثرت زَلاتك ". ومع ذلك فإنَّ رفض المبرّد بعض القراءات ـ حتّى المشهور منهاـ ووصفه لها باللَّحن، والغلط، والقبح، وعدم الجواز، وحَمْل بعضها على الضّرورة الشعريّة لا يعني أنّه لم يرتض قراءات أخرى، فهو ارتضى كلّ ما وافق مذهبه. فقراءة ابن عباس: { لَم يَمْسَسْهُ نارٌ } [النور/ 24] بعدم إلحاق تاء التّأنيث للفعل مقبولة عنده؛ لأنَّ فاعله مؤنّث غير حقيقي.

    وصفوة القول: إنَّ المبرد قَبِلَ ما وافق مذهبه النّحوي، ورفض ما لم يوافقه، ووقف من بعضها موقف الحذر، واحتجَّ لِمَا أخذه أحياناً بالقرآن والشّعر."

    غير أن هذه المواقف السلبية لبعض النحاة المتقدمين- خاصة من البصريين- الذين حاولوا إخضاع القراءات إلى قواعدهم وأقيستهم، لا تترجم جملة مواقف النحاة، لأن كثيرا منهم -خاصة من الكوفيين- احترم القراءات مقدما إياها على القاعدة، واتخذها منطلقا للتقعيد لكونها سنة متبعة، فطالما صح سند القراءة وجب الاعتداد بها، لأن السماع مقدم على القياس، وممن عُرف بذلك الكسائي، فهو " كغيره من النّحاة ما كان يطعن في القراءة ـ ولو كانت بعيدةـ بل كان يجد لها مخرجاً يجعلها مقبولة في الاستعمال النّحوي واللغوي"، وقال تلميذه الفراء: اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب وقراءة القراء أحب إلي من خلافه. وهذا الموقف المذعن للقراءات -ولو كانت شاذة- هو الذي صار إليه النحويون بعد ذلك.

     3-  الحديث النبوي الشريف: لا شك في كون الحديث النبوي مصدرا من مصادر الدرس اللغوي بصفة عامة ما دام صادرا عن أفصح الخلق -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤثر عن النحويين استبعادهم إياه، غير أن " المشهور بين الباحثين أن قدامى اللغويين والنحاة كانوا يرفضون الاستشهاد بالحديث في اللغة، فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظها أو وضع قواعدها "، فقد شاع بين كثير من الدارسين أن اللغويين قد استشهدوا قليلا بالحديث لكن النحاة على اختلاف مذاهبهم -خاصة من البصريين- لم يستشهدوا به، خلافا لاستشهادهم بالقرآن الكريم وكلام العرب!، وقد كانت حجتهم في ذلك أن كثيرا من الحديث قد روي بالمعنى لا بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن بعض رواته كانوا من الأعاجم، وعلى ذلك درج النحاة، إلى أن خرج على نهجهم بعض الأندلسيين المتأخرين كابن خروف وابن مالك، كما يزعم أبو حيان الأندلسي إذ يقول:" إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل بن أحمد، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يفعلوا ذلك " أي الاحتجاج بالحديث، وهو قول غير سديد يرفضه كثير من الدارسين كأحمد مختار عمر.

    4-  كلام العرب: يعتبر كلام العرب الأوائل شعرا ونثرا- أهم رافد عول عليه النحويون الأوائل -على غرار اللغويين- في درسهم بعد أن ضيقوا مجال الاحتجاج بالقراءات القرآنية والحديث النبوي على الرغم مما أحيط به هذان المصدران المنقولان من توثيق في الرواية. ويقصد بهذا المصدر كما -قال السيوطي- ما يوثق بفصاحته من كلام العرب نظما ونثرا قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة في الحواضر ثم البوادي بسبب المولدين، وهذا النوع هو الأعم الأوسع الذي لا يكاد يحد.

     غير أن ذلك لا يعني أن النحاة تساهلوا في التعامل مع كلام العرب، إذ ليس كل ذلك الكلام فصيحا، وليس الفصيح منه على درجة واحدة من الفصاحة، ولا يمكن أن يبقى الفصيح فصيحا في كل زمن، وهي حقائق ترتب عنها ما يشبه المسلمات لدى النحاة، فليس كل كلام العرب عندهم حجة، وليست كل القبائل العربية حجة، وليس كلامهم حجة في كل زمن. وقد ركز النحويون على غرار اللغويين- في تعاملهم مع كلام العرب -بعد أن صرف كثير منهم نفسه عن القراءات والحديثعلى ما كان نقيا أصيلا موغلا في البداوة غالبا، وقد وجدوا ضالتهم في الشعر بالدرجة الأولى خاصة ما كان منه رجزا، وفي النثر بدرجة أقل، قال أبو حاتم (248 هـ) للأصمعي(216 هـ):" إنك لتحفظ من الرجز ما لم يحفظه أحد، فقال: إنه كان هَمَّنا وسَدَمنا."

       وقد لاقى الشعر اهتماما كبيرا من اللغويين( ومن النحويين) الأوائل خلافا للنثر-واعتبروه الدعامة الأولى لهم، حتى لقد تخصصت كلمة الشاهد فيما بعد وأصبحت مقصورة على الشعر فقط. ولذلك نجد كتب الشواهد لا تحوي غير الشعر ولا تهتم بما عداه. وقد كان الكتاب لسيبويه خير ما مثل إقبال النحاة على الشعر خلافا للنثر، بل وللقرآن والحديث، وقد " اعتبروا الأبيات التي وردت في كتاب سيبويه أصح شواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أنها غير منسوبة لامتناع سيبويه عن تسمية الشعراء، لأن منها ما يروى لشاعرين، ومنها ما لم يُعرف قائله لقدم العهد به. قال الجرمي: نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا. فأما الألف فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها."

       واشترط النحويون -مثلهم مثل اللغويين- شروطا وضوابط لقبول المادة التي يستشهد بها من كلام العرب الأوائل شعرا ونثرا- كالتقدم في العصر، والبداوة، وعلم قائله بالعربية، وبصحة نسبته إليه، وهي شروط تفاوت المتقدمون من النحاة في الالتزام بها تبعا لاختلاف أسسهم المنهجية، لأن ما يراه البصري ويلزم به نفسه غيرُ ما يراه الكوفي.

       وقد تنوعت تلك الضوابط والنطُق الخاصة بفصاحة ما يستشهد به من كلام العرب " فكان منها القَبَلي، والقبلي المكاني معا، ومنها الزماني، والزماني المكاني معا -والصلة بينهما جد وثيقة- ونستطيع أن نوجز تلك النطق في أنه ينبغي -لكي يكون الكلام حجة في العربية- أن يكون صادرا عند نشأته الأولى -أو مرويا- عمن يحتج به من أهل قبائل معينة، في مناطق مكانية محددة، وفي ما لا يتجاوز نطاقا زمنيا معينا."


  • مناهج المدارس النحوية القديمة ( الاختلاف، التخريج...)


       لم تختلف المدارس النحوية بعضُها عن بعض من حيث الخصائصُ والأسس العلمية هذا إذا سلمنا بتعدد هذه المدارس تبعا لموقعها الجغرافي، وإنما تمايزت لتمايز مناهجها واختلافها في التعامل مع المادة اللغوية ومصادرها تبعا لاختلاف المؤثرات البيئية والفكرية الثقافية، فضلا عما تتسم به اللغة العربية نفسُها من طواعية وقابلية للتأويل والتخريج... إذ رسمت كل مدرسة لنفسها منهجا يميزها عما رسمته الأخرى، وذلك على الرغم من أن الدرس النحوي، واللغوي عامة، كان منذ بدايته إلى عصر الخليل بصري النشأة موحد المنهج، نهل منه الفريقان على حد سواء، إلى أن ألجأت عواملُ خاصةٌ تلميذي الخليل سيبويه والكسائي ومن تبعهما إلى اختلاف السبيل وتباين المنهج.

       وكنا قد وقفنا على ما يمثله العامل السياسي من دور رئيس ونواة مركزية في الخلاف وتوسيع الهوة بين الفريقين، وهو الأمر الذي أذكى الصراع وحفز على تعصب كل فريق لمذهبه فصار التعصب إقليميا ولم يعد نحويا في الغالب، ومثال ذلك ما شهده مجلس الفضل البرمكي وزير هارون الرشيد من مناظرة بين شيخي المدرستين سيبويه والكسائي عُرفت بالمسألة الزنبورية، حيث قضى فيها للكوفة وشيخها الكسائي على حساب البصرة وشيخها سيبويه، ولعل ذلك راجع إلى ما عُرف به المِصران من عثمانية البصرة وعلوية الكوفة، لاسيما أن الكسائي الكوفي كان مؤدبا لأولاد الخلفاء العباسيين خاصة أبناء هارون الرشيد.

       ولعل من مظاهر الخلاف المنهجية خاصة ما عرف عن البصرة من نزوعها إلى الدراسات الفلسفية والكلامية التي أنضجت منه الترجمات جانبا، والصراعات المذهبية جانبا آخر، وغذته روافد الجوار والمجتمع المتعدد العروق والمشارب، وعلى نقيض ذلك الكوفة التي نزعت إلى الدراسات النقلية نزوعا كبيرا فبحكم كونها منزلا للمحدثين والرواة وأصحاب الأخبار والأيام والشعراء والقراء، قلت عنايتها بالدراسات العقلية وزادت هذه العناية بالرواية والنقل. وحين يكون سيبويه في جو البصرة ذاك، والكسائي في جو الكوفة هذا ندرك أثر كل من البيئتين عليهما، يضاف إلى ذلك دراسة سيبويه للفلسفة والمنطق، شأنه في ذلك شأن أغلب رجال مدرسته، إذ صرفته هذه الدراسة إلى منهج في اللغة متأثر بها، يقابله اهتمام الكسائي بالقراءة واختصاصه بقراءة معروفة بحيث توجه إلى الرواية توجها مباشرا.

       ومن اختلاف المنهجين ما عُرف عن البصريين من تشدد في الرواية خلافا للكوفيين المتساهلين الذين أخذوا عن خلف الأحمر وهو بصري بعد موت حماد، إلا أنه كان يلبس عليهم ( ولم يلبس على البصريين ) وينتحل انتقاما لنفسه منهم، ولما صارحهم بما ألقاه إليهم من شعر لم يأبهوا لذلك ولم يصححوا، بل قالوا له:" أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم". أما البصريون فتشددوا في الرواية، ولم يستشهدوا بما كان شاذا، خلافا للكوفيين الذين احتجوا حتى بالبيت وبنصف البيت متوسعين في الرواية وحتى في القياس، بينما لم يقس البصريون إلا على ما كان مطردا.

       وكثيرا ما كان الشاهد من حيث القوة والضعف سببا في الخلاف، ففي كتاب الإنصاف مثلا ينقل أبو البركات الأنباري احتجاج الكوفيين بشاهد في مسألة ما فيرده البصريون لضعفه أو شذوذه أو لكون محل الشاهد فيه ضرورة شعرية أو لكون صاحبه غير معروف أو لعدم إجماع الرواة عليه، ومثال ذلك إبطال الأنباري ما ذهب إليه الكوفيون من إعمال (كما) عمل (كيما) من خلال استشهادهم ببيت عدي بن زيد:

    اسمع حديثا كما يوما تحدثَه.... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا.

    فقد أبطله بضعف روايتهم، لأن الرواة أجمعوا على روايته بالرفع، والإجماع حجة.

    اسمع حديثا كما يوما تحدثُه.... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا.

    وبسبب تساهل الكوفيين في الرواية جوزوا التعجبَ من البياض والسواد( ما أبيضه! وما أسوده!) خلافا للبصريين الذين يمنعون التعجب من الألوان كلها بما في ذلك الأبيض والأسود لعدم سماعهم ما يدل على جواز ذلك.

    ومن ذلك أيضا تجويزهم ل: خُماس وسُداس وسُباع وثُمان وتُساع قياسا على المسموع وهو: ثُلاث ورُباع، أما البصريون فلم يجيزوا ذلك لأن المسموع على وزن (فُعال) في العدد إنما هو ثلاث ورباع فقط.

    ومن ذلك أيضا تجويز الكوفيين دون البصريين عطف المفرد ب (لكن) بعد الإيجاب نظير (بل) بعده، كتجويزهم:( جاءني زيد لكن عمرو) حملا على (بل) في قولنا:( جاءني زيد بل عمرو) وهي للإضراب، وليس لهم في ذلك شاهد !! حيث حمل الكوفيون (لكن) على (بل)، والحقيقة أنها تستعمل للاستدراك لا للإضراب إلا بشرط النفي كقولنا: (ما جاءني زيد لكن عمرو)

       ومن مظاهر الخلاف أيضا استقلال كل فريق بمصطلحات نحوية خاصة، وهي سمة تميز بها النحاة الكوفيون بشكل خاص لكونهم مسبوقين رغبة في التميز، كتسميتهم حروفَ العطف حروفَ النسق، وتسميتهم الصفةَ نعتا، والنفيَ جحدا، والبدلَ ترجمة، ولا النافية للجنس لا التبرئة، والمفاعيلَ أشباه المفاعيل باستثناء المفعول به...

       وعلى العموم فإن أبرز ما يتسم به منهج البصريين الأخذُ بالقياس، والتحري عن العلة، واصطناع التعليل، واتباع التأويل البعيد، وينبني على هذه الأسس عدم الالتفات إلى ما خالف القياس وإن كان لغة أو قراءة أو شعرا فصيحا. وينبني على ذلك أيضا استخدام العقل والمنطق في تفسير الظاهرة اللغوية، وإن سببَ هذا الاستخدام مخالفة نص مروي!

       وأبرز خصائص منهج الكوفيين الاعتداد بالرواية، والاهتمام بالمنقول والمأثور، واحترام النص قراءةً أو شعرا أو مثلا، والأخذ بقليل من القياس والتعليل، وجر هذا المنهج إلى الأخذ بالشاهد اليتيم والاعتماد عليه، وباللغة المتطرفة وإن خالفت الأكثر، والتمسك بالنادر المروي وإن شذ.

       أما منهج النحاة البغداديين فكان منهجا انتخابيا خلط فيه أصحابه المذهبين، ولذلك ضم الخصائص المنهجيه للمدرستين معا فضلا عن أخذهم بمصطلحات الفريقين. أما فيما يتعلق بالرواية والاحتجاج بالشعر فقد احتج كثير منهم بأشعار الطبقة الرابعة كاستشهاد البغدادي المتأخر محمود بن عمر الزمخشري (538هـ) وهو إمام في اللغة والتفسير بشعر أبي تمام( 231 هـ) جاعلا إياه من علماء العربية معتبرا ما يقوله بمنزلة ما يرويه.


  • المدارس النحوية في المشرق والمغرب العربيين


       على الرغم من اختلاف الدارسين حول حقيقة هذه المدارس وعددها إلا أنها تمثل في الحقيقة واقع الدرس النحوي القديم وما تعلق به من علوم لغوية أخرى فرضت وجودها على مساحة جغرافية واسعة من العراق شرقا إلى الأندلس غربا، وذلك منذ منتصف القرن الهجري الأول مرورا بالقرون التالية.

    وقد كان ذاك النحو المشرقي والمغربي بمثابة الطائر الذي لا يمكنه في أي حال من الأحوال أن يطير معتمدا على جناح واحد، بل لابد له من جناحين يعضد أحدهما الآخر، وجناحا هذا الطائر البديع هما النحو المشرقي والنحو المغربي.

       وقد وجدنا بين هؤلاء الدارسين من أنكر وجود مدارس نحوية، سواء في المشرق أو المغرب، يتميز بعضها عن بعض أسلوبا ومنهجا، مدعيا أنها مجرد تجمعات جغرافية مختلفة من العالم الإسلامي شرقه وغربه... وممن قال بذلك على أبو المكارم في (أصول التفكير النحوي) وسعيد الأفغاني في ( في أصول النحو).

       ومنهم من لم يعترف إلا بمدرسة وحيدة هي مدرسة البصرة منكرا وجود مدرسة أخرى اسمها المدرسة الكوفية فضلا عن غيرها من بغدادية وأندلسية ومصرية... وقد سبق إلى هذا الرأي المستشرقُ جوتولد فايل G.Weil في مقدمة كتاب الإنصاف للأنباري، وممن قال به من العرب الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه ( المدارس النحوية أسطورة وواقع).

       ومنهم من أثبت وجود مدرستي البصرة والكوفة فقط، وهو رأي الدكتور مهدي المخزومي، وإليه مال الدكتور محمد حسين آل ياسين في كتابه ( الدراسات اللغوية عند العرب إلى نهاية القرن الثالث )، أما ما عرف بالبغدادية أو الأندلسية أو المصرية فتابعٌ في الحقيقة إما للبصرة وإما للكوفة.

       ومنهم من قال بوجود مدارس كثيرة كما فعل شوقي ضيف في كتابه( المدارس النحوية) حيث جعلها خمس مدارس، وهي البصرية والكوفية والبغدادية والأندلسية والمصرية، تتميز كل واحدة عن الأخرى من حيث المنهج.

        وقد أضاف الدكتور عبد العال سالم مكرم مدرسة سادسة وهي المدرسة الشامية من خلال كتابه (المدرسة النحوية في مصر والشام في القرنين السابع والثامن الهجريين).

    وقد كانت بين هذه المدراس مشرقية كانت أو مغربية صِلات وعلاقات وطيدة، خاصة من خلال الرحلات والشروح، وما أكثرهما، بل إن معظم هذه المدارس قد قامت في بدايتها على أفكار غيرها فضلا عما أضافه إليها أبناؤها فتميزوا به عن غيرها، كاعتماد البغداديين على آراء البصرة حينا وعلى آراء الكوفة حينا آخر وهو الأمر الذي جعل كثيرا من الدارسين يسمونهم بالنحاة الذين خلطوا المذهبين، وكقيام الدرس النحوي في الأندلس على كتاب وأفكار الكسائي الكوفي ثم نضجُه بعد ذلك معتمدا على كتاب سيبويه البصري.

     


  • المدرسة البصرية ( منهجها وأعلامها )

       إلى هذه المدرسة يعود النحو العربي كله، ولأعلامها الأوائل يدين نحاة كل المدارس سواء أوافقوهم طريقة ومنهجا أم خالفوهم. وكنا قد ذكرنا أن الدارسين لنشأة النحو وعلوم العربية عامة قديما وحديثا قد اختلفوا في واضع علم العربية وإن كان أكثرهم ينسب ذلك إلى أبي الأسود الدؤلي وتلامذته من بعده المشكلين للطبقة الأولى كنصر بن عاصم الليثي(89هـ) وعنبسة الفيل(100هـ) وعبد الرحمان بن هرمز(117هـ) ويحي بن يعمر العدواني(129هـ)، وذلك نظرا لما عُرف به هؤلاء من جهد في نقط المصحف الشريف وضبط الكتابة العربية، من خلال نقط الحروف أفراداً وأزواجاً لتمييز الحروف المتشابهة، ولهذا نسب كثير من الدارسين النحوَ إليه نظير جهده اللغوي، يقول سعيد الأفغاني:" أول من ذكر من أعلامها أبو الأسود الدؤلي، وتلاميذه هم الذين نشروا النحو في البصرة، وتخرج على أيديهم وأيدي تلاميذهم طبقات من أعلام النحو، رفعوا بناء المذهب البصري على أسس متينة وقواعد محكمة."

       غير أن الحقيقة أن النحو بمفهومه العلمي الدقيق لم يُعرف إلا بعد أبي الأسود وتلامذته، فما عُرف من نحو بعد هؤلاء غيرُ ما كان في زمنهم، لأن " الأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك، ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطوى فيها من أقيسة وعلل، وأول نحوي بصري حقيقي نجد عنده طلائع ذلك هو ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة( 117)  للهجرة، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود". فما كان قبل ابن أبي إسحاق ليس سوى مرحلة تمهيدية لنشأة النحو ونضجه بعد ذلك، لأن جل ما عرفته تلك المرحلة كان " عبارة عن أنظار لغوية ومسائل عامة كانت تثار في مجالس العلماء، وكان المهتمون بسلامة العربية لغة القرآن الكريم يروونها ويعالجونها. وأهم عمل كان في هذه المرحلة نقطُ الإعراب الذي ابتكره أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69 هـ، وبه حلت مشكلة ضبط أواخر الكلمة. وكان أبو الأسود أحد حماة اللغة وسلامتها والداعين إلى تعليمها للموالي الذين دخلوا في الإسلام، وكان يتتبع مواطن اللحن ويسعى إلى تقويمها، وهو بهذا يعد أحد رواد التصحيح اللغوي. ونقط الإعراب لا يعد عملاً نحوياً إلا أنه كان أساسا، في أكبر الظن، انطلقت منه مصطلحات الضم والفتح والكسر التي استعملها النحويون بعد ذلك، وهو ما أوحى به قوله للكاتب الذي اختاره لضبط المصحف: إذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين."

     

    منهج البصرة:

    لم تدون قواعد البصرة إلا مدعومة على عناصر ثلاثة منذ تأسيسها:

    1- سلامة من أخذوا عنه من العرب المقطوع بعراقتهم في العروبة وصونهم فطرهم من تسرب الوهن إليها ولذلك لم يأخذوا إلا عن سكان البوادي، وقد كانوا يختبرونهم أحيانا قبل التقبل لما يروونه عنهم، ومن ذلك ما نقله ابن جني في خصائصه من أن أبا عمرو بن العلاء استضعف فصاحة أبي خيرة نهشل بن يزيد لما سأله فقال: كيف تقول استأصل الله عرقاتهم؟ ففتح أبو خيرة التاء(عرقاتَهم)  فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لَانَ جلدُك!.

    2- الثقة برواية ما سمعوه عنهم من طريق الحفظة والأثبات الذين بذلوا النفس والنفيس في نقل المرويات عن قائليها مَعزُوَةً إليهم.

    3- الكثرة الفياضة من هذا المسموع ( الشيوع) التي تخول لهم القطع بنظائره وتسلمهم إلى الاطمئنان عليه في نوط القواعد به، وإلا اعتبروه مرويا يحفظ ولا يقاس عليه، إلا إذا لم يرد من نوعه ما يخالفه، فلا بأس من اعتباره مبنًى للتقعيد عليه، ومن هنا ارتضى العلماء رأي سيبويه في إلحاق (فَعُولة) ب (فَعِيلة) في النسب في حذف حرف المد وقلب الحركة فتحة اعتمادا على سماعه في النسب إلى (شَنُوءَة): (شَنَئِي) وعدم سماع ما يخالفه نسبا من هذا الوزن. (أما مما جاء على فَعَيلة فمثل: حنيفة/ حَنَفيٌ، جَهينة/ جَهَنيٌ، خلافا لما تُرك مده مثل: سَليمة/ سليمي، عَميرة/ عميري، سَليقة/ سليقيٌ)

    - يضاف إلى ذلك:

    لزومهم التطواف والرحلة بعد اختلاط الألسن، قاصدين جفاة الأعراب، متحاشين سكان الأطراف والحضريين المخالطين لأجناس من غير العرب.

    اعتزازهم بقواعدهم وأقيستهم الناتجة عن ذاك المنهج، وقد بلغ بهم الأمر إلى أن اعترضوا على بعض القراءات التي عدوها خارجة عن قواعدهم المقررة وأقيستهم التي لا تتغير، فضلا عن اعتراض بعضهم على العربي المطبق أحيانا، كاعتراض عبد الله بن أبي إسحاق على الفرزدق في مواطن كثيرة، وأغرب من ذلك تعقُب تلميذه عيسى بن عمر قولَ النابغة:

    فبت كأنى ساورتنى ضئيلة ... من الرقش فى أنيابها السم ناقعُ.

    إذ قال: أساء النابغة، إنما هو ناقعاً (بالنصب على الحالية لا بالرفع على الخبرية)

    ولهذا قال عمار الكلبي مبديا ضجره من بعض نحاة البصرة خاصة الذين جعلوا قواعدهم أصلا يحكمون به على كلام السليقيين الفصحاء:

    ماذا لقيتُ منَ المستَعْربينَ ومنْ ... قياسِ نحوهمُ هذا الذي ابْتدَعوا

    إن قُلتُ قافيةً بِكراً يكونُ بها ... بيْتٌ خِلافَ الذي قاسوه أو ذرَعوا

    قالوا: لحَنْتَ وهذا ليسَ مُنتَصِباً ... وذاك خفْضٌ وهذا ليسَ يرتَفِعُ

    وحرّضوا بينَ عبدِ الله من حُمُقٍ ... وبينَ زيْدٍ فطالَ الضّرْبُ والوَجَعُ

    كمْ بيْنَ قومٍ قد احْتالوا لمنطقِهِمْ ... وبينَ قوْمٍ على إعرابِهم طُبِعوا

    ما كُلّ قوليَ مشروحاً لكُمْ فخُذوا ... ما تعرِفونَ وما لمْ تعرِفوا فدَعوا

    لأنّ أرضيَ أرضٌ لا تُشَبُّ بها ... نارُ المجوس ولا تُبْنى بها البِيَعُ

       ويعود مرجع هذه النزعة إلى ابن أبي إسحاق وتلميذه عيسى بن عمر دون غيرهما من معاصريهما كيونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء اللذين كانا يتحرزان عن تخطئة العربي الفصيح ويعتمدان قوله وإن خالف القياس، قال ابن سلام:" أخبرنا يونس أن أبا عمرو كان أشد تسليماً للعرب وكان ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب". وقد غلبت النزعةُ الأولى النزعةَ الثانيةَ على البصريين بعد سيبويه وصارت لهم منهجا خاصا، بينما انتقلت النزعةُ الثانية إلى الكوفيين حتى اتخذوها إحدى دعائم القواعد عندهم.

       يقول شوقي ضيف في ذكر أهم خصائص منهج البصرة سماعا وقياسا، وهي واضعة علم النحو ورافعة أركانه:" معروف أنه لكي يصاغ علم صياغة دقيقة لابد له من اطراد قواعده وان تقوم على الاستقراء الدقيق، وأن يُكفل لها التعليل وان تصبح كلُ قاعدة أصلا مضبوطا تُقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به ابن أبي إسحاق وتلاميذه البصريون، أما من حيث الاطراد في القواعد فقد تشددوا فيه تشددا جعلهم يطرحون الشاذ ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطأوه أو أولوه. وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة... وكان القرآن الكريم وقراءاته مددا لا ينضب لقواعدهم، وتوقف نفر منهم إزاء أحرف قليلة في القراءات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وجدوها لا تطرد مع قواعدهم، بينما تطرد معها قراءات أخرى آثروها... وكانوا لا يحتجون بالحديث النبوي ولا يتخذونه إماما لشواهدهم وأمثلتهم لأنه روي بالمعنى إذ لم يكتب ولم يدون إلا في المائة الثانية للهجرة، ودخلت في روايته كثرة من الأعاجم، فكان طبيعيا ألا يحتجوا بلفظه وما يجري فيه من إعراب، وتبعهم نحاة الكوفة... وأما من حيث القياس والتعليل فقد توسعوا فيهما، إذ طلبوا لكل قاعدة علة، ولم يكتفوا بالعلة التي هي مدار الحكم فقد التمسوا عللا وراءها. وقانون القياس عام وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذا، وبحيث تُفتح الأبواب على مصاريعها ليُقاس على القاعدة ما لم يُسمع عن العرب ويُحمل عليها حملا، فهي المعيار المحكم السديد. وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه. "

     

    طبقات البصريين: تضم سبع طبقات، وتعود بدايتها إلى تلاميذ أبي الأسود الدؤلي على الرغم من أن استقلال النحو واستواءه قد تم على يد أحد أعلام الطبقة التي تلتهم، وهو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود:

    الطبقة الأولى: تضم تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، منهم:

    1- نصر بن عاصم الليثي(89 هـ): يقال له نصر الحروف، لنقطه المصحف نقط إعجام، وقد كان أحد القراء والنحاة والفصحاء، ويعده بعضهم واضع علم النحو. قال ياقوت: كان فقيها، عالما بالعربية، من فقهاء التابعين، وله كتاب في العربية. وهو أول من نقط المصاحف. وكان يرى رأي الخوارج ثم ترك ذلك، وله في تركه أبيات، وقيل: أخذ النحو عن يحيى بن يعمر العدواني، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء. مات بالبصرة. ورُوي عن عمرو بن دينار قال: اجتمعت أنا والزهري ونصر بن عاصم فتكلم نصر فقال الزهري: إنه ليفلّق بالعربية تفليقاً.

    2- عنبسة بن معدان الفيل، المهري (كانت وفاته حول المائة الأولى للهجرة): كان أبرع تلامذة الخليل وعنه أخذ ميمون الأقرن، وقد لقب بالفيل لأن أباه كان يروض فيلا لزياد بن أبيه، فغلب عليه اللقب ثم انتقل منه إليه.

    3- عبد الرحمن بن هرمز الأعرج(117 هـ): مدني تابعي جليل، كان أعلم الناس بأنساب قريش، وهو وأحد القراء وأحد رجال نافع، يعده بعضهم واضع علم النحو. توفي بالإسكندرية.

    4- يحيى بن يعمر العدواني(129 هـ): يقال إنه أول من نقط المصاحف نقط إعجام لدفع التصحيف، وقد " كان من علماء التابعين، عارفا بالحديث والفقه ولغات العرب، من كتاب الرسائل الديوانية، وفي لغته إغراب وتقعر. أدرك بعض الصحابة. وأخذ اللغةَ عن أبيه، والنحوَ عن أبي الأسود الدؤلي. وكان فصيحا، ينطق بالعربية المحضة، طبيعة فيه، غير متكلف". فهو من رواد التصحيح اللغوي ومن المولعين بالغريب، قال ابن سلام:" أخبرنى يونس بن حبيب قال الحجاج لابن يعمر: أتسمعني ألحن؟ قال الأمير أفصح الناس. قال يونس: وكذلك كان ولم يكن صاحب شعر. قال: تسمعنى ألحن؟ قال حرفا. قال: أين؟ قال في القرآن. قال: ذلك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأها بالرفع كأنه لما طال عليه الكلام نسى ما ابتدأ به والوجه أن يقرأ (أحبَ إليكم) بالنصب على خبر كان وفعلها.

     قال: وأخبرنى يونس قال: قال له: لا جرم لا تسمع لى لحنا أبدا. قال يونس: فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب، فأخبرني أبى قال: كتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا واضطررناهم إلى عرعرة الجبل(ونحن بحضيضه)، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام؟ فقيل له: إن ابن يعمر هناك. فقال فذاك إذًا."

     

    الطبقة الثانية: وهي طبقة التأسيس الفعلي لعلم النحو، ومن أعلامها:

    1- عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(117 هـ): أخذ عن تلميذي الخليل نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني ونبغ في هذا العلم حتى بلغ الغاية فيه ولذلك يعد المؤسس الفعلي لعلم النحو بمعناه الدقيق، وكان شديد التجريد للقياس، قال ابن سلام(231هـ):" كان أول من بعج النحو ومد القياس والعلل، وكان معه أبو عمرو ابن العلاء وبقى بعده بقاءً طويلا، وكان ابن أبى إسحاق أشد تجريدا للقياس، وكان أبو عمرو أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغريبها... وسمعت أبى يسأل يونس عن ابن أبى إسحاق وعلمه: قال: هو والنحو سواء، أي هو الغاية. قال: فأين علمه من علم الناس اليوم؟ قال: لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه يومئذ لضحك به، ولو كان فيهم من له ذهنه ونفاذه ونظرَ نظرهم كان أعلم الناس.

     قال: وقلت ليونس: هل سمعت من ابن أبى إسحاق شيئا؟ قال: قلت له: هل يقول أحد الصويق؟ يعنى السويق.

     قال: نعم، عمرو بن تميم تقولها، وما تريد إلى هذا عليك بباب من النحو يطرد وينقاس."

     كان كثير الاعتراض على الفرزدق في شعره، وفي طبقات ابن سلام بعض تلك الاعتراضات. وقد حضر الفرزدق يوما مجلس ابن أبي إسحاق فقال له: كيف تنشد هذا البيت، وهو من قصيدة طويلة لذي الرُمة:

    وعينان قال الله كونا فكانتا... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

    فأنشده (فعولان)، فقال له عبد الله: ما كان عليك لو قلت: (فعولين) ؟

    فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت ونهض فلم يعرفوا مراده، فقال عبد الله: لو قال (فعولين) لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما، ولكنه أراد أنهما تفعلان ما تفعل الخمر".

    ثم تدرج الأمر بعبد الله إلى إعنات الفرزدق في شعره نفسه إذ عابه في قوله:

    وَعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ ... مِنَ المالِ إلاّ مُسْحَتاً أو مجلَّفُ

    فقال له: بم رفعت (مجلف)؟ فقال له: بما يسوؤك وبنوؤك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا.

    (وفي هذا الشاهد بهذه الرواية أربعة أقوال: أحدها: أن يكون (مجلف) مرفوعاً بفعل مضمر، دل عليه (لم يدع) كأنه قال: أو بقي مجلفُ.

    والقول الثاني: - قول الفراء -: أن (مجلف): مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، كأنه قال: أو مجلف كذلك.

    والقول الثالث: - حكاه هشام عن الكسائي - : أنه قال: تعطفه على الضمير في مُسحت.

    والقول الرابع - وجدته في بعض كلام أبي على الفارسي - : أنه معطوف على العض: قال: وهو مصدر جاء على صيغة المفعول، كما قال جل وعز: { ومزقناهم كل ممزقٍ}، كأنه قال: وعض زمان، أو تجليف.) كما عابه لأجل الإقواء في قوله مادحا يزيد بن عبد الملك:

    مُسْتَقْبِلِين شَمالَ الشَّأْم تَضْرِبُنَا ... بحَاصِبٍ مِن نَديفِ القُطْن مَنْثُورِ

    على عَمَائمنا تُلْقِى وأَرْحُلُنا ... على زَوَاحِفَ تُزْجَى، مُخُّهَا رِيرُ

    فقال: إنما هو (ريرُ) بالرفع، وإن رفع أقوى، فغضب الفرزدق، وقال: أما وجد لبيتي مخرجا في العربية؟ أما لو أشاء لقلت:

    على عَمَائمنا يُلْقِى وأَرْحُلُنا ... على زَوَاحِفَ نزجيها محاسيرِ

    ولكني والله لا أقوله، ثم هجاه بقوله:

    ولو كان عبد الله مولى هجوته... ولكن عبد الله مولى مواليا

    فقال عبد الله: عذره شر من ذنبه، فقد أخطأ أيضا، والصواب: مولى موالٍ.( لأنه اسم منقوص لا تثبت ياؤه إلا في حالة النصب، وهو هنا مجرور لأنه مضاف إليه.)

    2- عيسى بن عمر الثقفي البصري(149 هـ): كان من قراء أهل البصرة ونحاتها، أخذ عن ابن أبي إسحاق وغيره فتأثر بمنهجه خاصة في الطعن على العرب وعدم التسليم لهم، فكان يقول أساء النابغة في رفعه كلمة ناقع على الخبرية للسم، وكان الأصوب نصبها على الحالية، وذلك في قوله:

    فبِتُّ، كأَنِّي ساوَرَتْنِي ضَئِيلَةٌ ... مِنَ الرُّقْشِ، في أَنْيابِها السُّمُّ ناقِعُ

     (ساورتني: من المساورة، وهي المواثبة. والضئيلة: الحية الدقيقة. الرُّقْش: جمع رقشاء، وهي الحية التي فيها نقط سود وبيض)

    وعن عيسى بن عمر أخذ الخليل بن أحمد، وهو صاحب كتابي الجامع والإكمال اللذين ذكرهما الخليل في بيتيه:

    بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر

    ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر

    وكان مولعا باستعمال الغريب والوحشي معروفا بالتقعير في كلامه، وقد وقع يوما بالسوق ودار الناس حوله يقولون مصروع، فمن بين قارئ ومعوذ، فلما أفاق نظر إلى ازدحامهم فقال: ما لي أراكم تتكأكأون علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني. فسمع أحد الجمع قوله فقال إن جنيته لا تتكلم إلا بالهندية.

    3- أبو عمرو بن العلاء(154 هـ): أحد القراء السبعة، هو تلميذ نصر بن عاصم الليثي وأستاذ الخليل بن أحمد، قال عنه ابن سلام إنه كان أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وحكى يونس أنه كان أشد تسليما للعرب، وقال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالقراءات والعربية، والشعر، وأيام العرب.

    وقال الأصمعىّ: جلست إلى أبى عمرو عشر حجج، فلم أسمعه يحتجّ ببيت إسلامىّ. قال: وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت أن أمر فتياننا بروايته. يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحكى علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميته عربيةً، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقلت: فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ قال: أعمل على الأكثر، واسمي ما خالفني لغات.

    قال له عيسى بن عمر: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني أنّك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنى أنّك تجيز:« ليس الطيبُ إلّا المسكُ» بالرفع، فقال أبو عمرو: نمت يا أبا عمر، وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمىّ إلّا وهو يرفع. ثم أرسلا اليزيدي وخلفا الأحمر للتثبت من العرب، فكان كما أخبر أبو عمرو، فأخرج عيسى خاتمه من يده وقال: ولك الخاتم، بهذا والله فقت الناس.

     

    الطبقة الثالثة:

    1- الأخفش الأكبر(177 هـ): هو أبو الخطاب أول الأخافشة الثلاثة المشهورين، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وطبقته، ولقي الأعراب فأخذ عنهم.

    2- الخليل بن أحمد(175 هـ): هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الأزدي، ولد بالبصرة، وشب على حب العلم، فتلقى عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي وغيرهما، ثم ساح في بوادي الجزيرة العربية، وشافه الأعراب في الحجاز ونجد وتهامة، فنبغ في العربية نبوغا لم يسبق إليه، وبلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو. قال الزبيدي: "وهو – أي الخليل-الذي بسط النحو ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاجَ فيه، حتى بلغ أقصى حدوده وانتهى إلى أبعد غاياته، ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفا أو يرسم منه رسما ترفعا بنفسه وترفعا بقدره إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تاليا، وعلى نظر من سبقه محتذيا، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه، وتقلده وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده".

    وقال السيوطي: "كان أعلم الناس وأذكاهم، وأفضل الناس وأتقاهم"، وقال محمد بن سلام: "سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع". فللخليل فضل النهوض بالنحو كما لأبي الأسود فضل تكوينه، نعم قد اتفقت كلمة العلماء على أن الخليل واضع فن الموسيقى العربية، وواضع علم العروض والقافية، وأول من دون معجما في اللغة بتأليفه "كتاب العين" وله بعدئذ مأثرة الشكل العربي المستعمل الآن، وله مؤلفات أخرى في غير اللغة أيضا.

    كان رحمه الله في فاقة وزهد لا يبالي الدنيا، بينما الناس محظوظون بها من علمه وكتبه، وجه إليه سليمان بن علي عم أبي العباس السفاح والي فارس والأهواز رسولا لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى الرسول خبزا يابسا وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال أبياتا مطلعها:

    أبلغ سليمان أني عنه في سعة... وفي غنى غير أني لست ذا مال

    3- يونس بن حبيب(182 هـ): أخذ عن أبي عمرو وغيره، وواجه العرب فسمع منهم حتى غدا مرجع الأدباء والنحويين في المشكلات، وكانت له حلقة دراسة في المسجد الجامع بالبصرة يؤمها العلماء والأدباء وفصحاء الأعراب، وله مذاهب خاصة في النحو، منتشرة في كتبه.

     

     

     

    الطبقة الرابعة:

    1- سيبويه(180 هـ): هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، ولقب بسيبويه "رائحة التفاح" لأن أمه كانت ترقصه بذلك في صغره. هو من سلالة فارسية، ونشأ بالبصرة ورغب في تعلم الحديث والفقه، إلا أنه لحقه التأنيب ذات يوم بشأن حديث شريف من شيخه حماد البصري، قال ابن هشام: "وذلك أنه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه إنما هذا استثناء، فقال سيبويه: والله لأطلبن علما لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل وغيره" كيونس وعيسى بن عمر، وبرع في النحو حتى بز أترابه فيه، فاحتفى به علماء البصرة التي صار إمامها غير مدافع، وأخرج للناس كتابه الذي أكسبه فخار الأبد، فإنه شاهد صدق على علو كعبه في هذا الفن.

    كتاب سيبويه: جمع سيبويه في كتابه ما تفرق من أقوال من تقدمه من العلماء كأبي الخطاب والخليل ويونس وأبي زيد وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم في علمي النحو والصرف، وأكثرهم نقلا عنه الخليل الذي كان لا يمل لقاءه، وأنابه في رواية الفن عنه، فكان كتاب سيبويه سجلا لآراء الخليل في النحو، ولذا كثيرا ما يقول فيه سألت الخليل "وإذا أضمر، وقال: مثلا -سألته- أو حدثني، أو قال لي، إنما يعني الخليل بن أحمد".

    وقد ضم إلى أقوال هؤلاء العلماء ما استخرجه بنفسه من القواعد اعتمادا على سماعه من العرب الخلص قال:" وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدِ الله وثناءٍ عليه"، وقال:" إن هذا البيت أنشدناه أعرابي من أفصح الناس وزعم أنه شعر أبيه".

       كَوَّنَ سيبويه كتابه من أقوال العلماء ومما استنبطه هو بنفسه، فكان جماع الفن، شاملا كل ما يحتاج إليه طالبه مع الترتيب والتبويب، ولكل عصر طبيعته المتسقة معه، فترتيب الكتاب على غير المألوف في كتبنا المتداولة بين أيدينا، والإسراف في عناوين أبوابه جاوز الحد فقد بلغت عشرين وثمانمائة، مع الغموض الذي لا يفصح عن المقصود لأول وهلة ومع التداخل في كثير من الأبواب، فمن ذلك على سبيل المثال باب البدل فقد قال: "هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم تبدل مكان ذلك الاسم إلخ، هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول إلخ، باب المبدل من المبدل منه، باب بدل المعرفة من النكرة إلخ، باب من البدل أيضا"، وبعض عباراته الاصطلاحية حلت بدلها عبارات أخرى عندنا، ونظرة أولية إلى مستهله في ترتيب أبوابه وعناوينها واصطلاحاتها كافية في ذلك، قال: "هذا باب علم ما الكلم من العربية، باب مجاري أواخر الكلم من العربية، باب المسند والمسند إليه، باب للفظ للمعاني، باب ما يكون في اللفظ من الأغراض باب الاستقامة من الكلام والإحالة، باب ما يحتمل الشعر، باب الفاعل إلخ".

    فلم يك سيبويه في كتابه جمَّاعا لآراء السابقين فحسب، بل له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب حاويا عناصر الفن كلها، وتبويبه واضعا كل شيء وما يتصل به معه، وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب، فكثيرا ما يقول: والقياس كذا، أو: والقياس يأباه، ويقول: "سألت الخليل عن قول العرب: "ما أمَيلِحَهُ" فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء إلخ".

    وفي الحرص على الاعتزاز بالشواهد الوثيقة لدعم الأحكام التي قررها.

    شواهده: عني سيبويه في كتابه بالشواهد لتثبيت الأحكام والإذعان بها من القرآن الكريم ونثر العرب والشعر، ولم يجنح إلى الاستدلال بالحديث الشريف شأن أسلافه ومعاصريه وذلك لانعدام الثقة في نقل الحديث بلفظه الوارد عنه -صلى الله عليه وسلم- لتصريح العلماء بجواز الرواية بالمعني، إذ لو وثقوا بلفظه لجرى مجرى القرآن الكريم في القواعد الكلية.

    فالقرآن الكريم قد بلغ ما ذكره في الكتاب من أي ما يُرْبِي على ثلثمائة آية، أما الشواهد النثرية فكانت المعين الذي لا ينضب في الاستشهاد لكثرتها والظفر بها عند تلمس الدليل فهي منطق العربي في غداواته وروحاته يرسلها متى شاء، ومن ذلك قوله:" كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم: عسى الغويرُ أبؤسًا". أما الشواهد الشعرية فكثيرة كذلك، فقد قالوا: إن فيه ألفا وخمسين بيتا غير أنه لم يعن -رحمه الله- بنسبة الشعر المذكور إلى قائليه في كثير من الشواهد، سواء ما استشهد به العلماء الحاكي عنهم وما استشهد به هو، لأن بعض الشعر قد روي لشاعرين أو أكثر، وبعضه قديم العهد لا يعرف قائله، فاعتمد على شيوخه فيما استشهدوا به، ونسب الإنشاد إليه، وعلى نفسه فيما سمعه بأذنه. قال الجرمي:" نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا، فأما ألف بيت فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها." ويروي مثل هذا الخبر عن المازني وهما متعاصران، فالنسبة المذكورة الآن في الكتاب حادثة بعد سيبويه إما من الجرمي أو المازني، وسميت الأبيات الخمسون بين العلماء بأبيات سيبويه الخمسين المجهولة القائل.

    تقدير الكتاب: لقد دهش الناس عند ظهور الكتاب فجأة على صورته الرائعة الغريبة من سيبويه الشاب، فتسرب إلى نفوسهم الظن في أمانته العلمية، قال يونس:" أظن هذا الغلام كذب على الخليل." فقيل له وقد روى عنك أيضا، فاستحضر الكتاب ورأى ما نقله عنه صحيحا، فقال إنه صدق في جميع ما قال.

    عظم شأن الكتاب في البصرة حتى صار علما بالغلبة، فكان إذا قيل في البصرة فلان يقرأ الكتاب فلا يفهم السامع سوى كتاب سيبوبه، بل سموه إكبارا له " قرآن النحو"، وهكذا كان الكتاب أعجوبة الدهر الخالدة فإنه منذ ألف استفرغ عناية العلماء به في الطواف حوله، فمن شارح له ومن شارح لشواهده ومن منتقد له واتخذوا حينا وضع كتاب جديد بعده، ولهذا كان يقول المازني: "ومن أراد أن يصنف كتابا واسعا في النحو بعد سيبويه فليستحي".

    ومنذ ألف الكتاب ما فارقه النحو وما تخلف هو عنه بل كانا يقيمان معا ويرحلان معا، فطوف معه وانتقل من البصرة إلى الكوفة، ثم بغداد ثم الأندلس والشام ومصر.

     

    2- اليزيدي(202 هـ): هو أبو محمد يحيى بن المبارك، نشأ بالبصرة وتلقى عن أبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق والخليل ويونس وغيرهم، ثم اشتهر فضله فيها وعرف باللغة والنحو وأخبار الناس. اختصه هارون الرشيد بأدب المأمون كما كان الكسائي يؤدب الأمين، وصار اليزيدي يدرس في مساجد بغداد كما يدرس الكسائي، فتولدت بين الشيخين المنافسة، وتطلع كل منهما لغلب الآخر، فحدثت المناظرات بينهما، وكان اليزيدي مظفرا في أغلبها. كان اليزيدي مع علمه أديبا شاعرا له مجموعة شعرية فيها شعر كثير في مدح النحاة البصريين وهجاء الكوفيين، وله مؤلفات متنوعة، منها مختصر في النحو.

    3- أبو زيد الأنصاري(215 هـ): سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، أحد أئمة الأدب واللغة. وهو من ثقات اللغويين، قال ابن الأنباري: كان سيبويه إذا قال"سمعت الثقة" عنى أبا زيد. معظم تصانيفه لغوية منها: كتاب النوادر، والهمز، والمطر، واللبأ واللبن، والمياه، وخلق الإنسان، ولغات القرآن، والشجر، والغرائز، والوحوش، وبيوتات العرب، والفرق، وغريب الأسماء، والهشاشة والبشاشة.

     

    الطبقة الخامسة:

    1- الأخفش الأوسط(215 هـ): هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة أوسط الأخافشة الثلاثة المشهورين وأشهرهم ذكرا في النحو فلذا ينصرف إليه الحديث عند ذكر الأخفش مجردا من الوصف في كتب النحو، فإن قصد غيره وجب ضم الأكبر أو الأصغر إليه على وفاق المطلوب. أقام بالبصرة لطلب العلم وتلقى مع سيبوبه عن جل شيوخه سوى الخليل، ثم أخذ عنه بعد المشاركة مع كبر سنه عنه فكان أنحى تلاميذه، وكان ضنينا بكتاب سيبويه لنفاسته حتى ظن به ادعاؤه لنفسه لأن سيبويه لم يقرأه على أحد ولا قرأه عليه أحد ما عداه، قال: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا عرضه علي، وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه، فتشاور تلميذا الأخفش: "الجرمي والمازني" على الحيلولة بينه وبين ما ظن فيه بترغيبه في المال إذ كان الجرمي مثريا فقرآه عليه وظهر الكتاب، فليس للكتاب طريق إلا الأخفش، فإليه يرجع الفضل في استبقائه كما يرجع للكتاب الفضل في إقبال العلماء على الأخفش.

    لما قفل سيبويه من بغداد بعد خذلانه في مناظرة المسألة الزنبورية استشخص تلميذه الأخفش في طريقه إلى الأهواز لما سبق أنه ولى وجهه عن البصرة خزيا، وشكا إليه بثه وحزنه مما هاضه، فتحرش الأخفش بالكسائي ووصل بغداد في الغلس وصلى خلف الكسائي الغداة في مسجد، ثم سأله أمام تلامذته "الفراء والأحمر" وغيرهما وخطأه في إجابته حتى هم التلامذة بالوثوب عليه فمنعهم الكسائي وقال له: بالله أما أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ فقال: بلى، فقام إليه وعانقه وأجلسه بجنبه وأكرم مثواه، فاستحال تحرشه محبة له وأقام عنده ينعم بالحياة السعيدة الجديدة، وبقي في جواره ببغداد بقية حياته، وصار مؤدب أولاده وقرأ له كتاب سيبويه سرا، وقد تغيرت لذلك عصبية الأخفش حتى وافق الكوفيين كثيرا في آرائهم فكان أكثر البصريين موافقة للكوفيين، وكتب النحو ملأى بالمسائل التي وافقهم فيها، فضلا عن كثير من الآراء التي خالف فيها الفريقين. ومما وافق فيها رأيُه رأي الكوفيين:

    - إعراب فعل الأمر وجزمه بلام الأمر المقدرة على أنه مقتطع من المضارع المجزوم بها، قال ابن هشام: "وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفا مستمرا في نحو قم واقعد، وأن الأصل. لتقم ولتقعد، فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة".

    - جواز رفع الوصف فاعلا ظاهرا من غير اعتماد للوصف وكذا الظرف قال الرضي"والأخفش والكوفيون جوزوا رفع الصفة للظاهر على أنه فاعل لها من غير اعتماد على الاستفهام أو النفي نحو: قائم الزيدان كما يجيزون في نحو: "في الدار زيد" أن يعمل الظرف بلا اعتماد".

    وله مؤلفات كثيرة منها في النحو: المقاييس، والأوسط، توفي ببغداد.

    2- قطرب(206 هـ): هو أبو علي محمد بن المستنير، نشأ بالبصرة وتلقى عن "عيسى بن عمر وسيبويه" وغيرهما إلا أن اتصاله بسيبويه أكثر، كان كلما خرج سيبويه من بيته سحرا وجده على بابه فقال له: إنما أنت قطرب ليل، فأطلق عليه ولصق به، حذق الجدل والكلام ومال إلى مذهب المعتزلة النظامية، له تصانيف كثيرة، منها في النحو "كتاب العلل"، توفي ببغداد.

     

    الطبقة السادسة:

    1- الجرمي(225 هـ): هو أبو عُمر صالح بن إسحاق، نشأ بالبصرة فتعلم عن شيوخها النحو واللغة، وسمع من "يونس والأخفش الأوسط" ولم يلق "سيبويه"، وزامله في عصره وتلقيه المازنيُ، وإليهما انتهت الرياسة النحوية، وسبق أنهما ذوا الفضل في إظهار الكتاب على يد شيخهما الأخفش، كان الجرمي أديبا شاعرا ديِّنا صحيح العقيدة، وله مناظرة مع الفراء، ومصنفاته كثيرة، منها في النحو مختصره المشهور لدعائه له بالبركة، وكتاب "فرخ كتاب سيبويه" ورد بغداد وأقام فيها حتى قضى نحبه.

    2- التوزي(238 هـ): هو أبو محمد عبد الله بن محمد مولى قريش من توز "بلد بفارس"، أخذ عن "الجرمي" كتاب سيبويه، واشتهر باللغة والأدب فكان أعلم بالشعر من المازني والرياشي، توفي ببغداد.

    3- المازني(249 هـ): هو أبو عثمان بكر بن محمد، ولد بالبصرة، وتربى في بني مازن بن شيبان فنسب إليهم، وأخذ عن "أبي عبيدة وأبي زيد والأخفش" وغيرهم، مع مشاركة رفيقه الجرمي، وما لبث أن صار علم البصرة الخفاق، وبها توفي.

    وقال الناس: لم يكن بعد سيبويه أعلم من المازني بالنحو، ساعده على نبوغه قوة بيانه وأدبه، فكان مقدما في الحجاج، وقد تغلب على شيخه الأخفش مع تلقيه عنه.

    والمازني على طول باعه أبى التصنيف في النحو إجلالا لكتاب سيبويه، إذ كان يقول:" من أراد أن يصنف كتابا واسعا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيي". لكنه ألف كتابا في علل النحو، وكتاب التصريف، وله كتب أخرى في غير النحو.

    4- أبو حاتم السجستاني(250 هـ): نشأ بالبصرة، وأخذ عن "أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة" وقرأ كتاب سيبويه مرتين على الأخفش، ثم نبه شأنه فانتفع الناس بدراسته، إلا أنه لم يكن حاذقا بالنحو، من مصنفاته إعراب القرآن، وكتاب الإدغام.

    5- الرياشي(257 هـ): لقب بالرياشي لأن أباه كان عبدا لرجل من جذام اسمه رياش فانتقل اللقب من أبيه بعد الشهرة إليه. نشأ بالبصرة وأخذ النحو عن المازني وسمع منه كتاب سيبويه، واللغة عن الأصمعي، ثم صار من كبار النحاة واللغويين، له تصانيف ليس منها كتاب نحو، توفي بالبصرة.

     

    الطبقة السابعة:

    1- المبرد أبو العباس محمد بن يزيد(285 هـ): ولد بالبصرة وأخذ عن "الجرمي والمازني وأبي حاتم" وغيرهم إلا أن أغلب تلقيه عن المازني، ثم نبه قدره في البصرة وانتهت إليه الرياسة حتى قال الناس: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه.

    آراؤه في النحو مستفيضة في الكتب. وقد كان غير متقيد برأي المذهبين: البصري والكوفي، متى بدا له رأي آخر.

    استشرفت نفسه بغداد فاتصل بالخلفاء والأمراء ينافس ثعلبا إمام الكوفيين ذا المكانة في بغداد فوقعت بينهما العداوة والبغضاء،

    وجرت بينهما مناظرات، ودام النفور بين الإمامين حتى لقي المبرد ربه فرثاه ثعلب.

    ولقد خلف مصنفات في علوم متنوعة برهنت على أدبه الجم وعلمه الغزير، منها في النحو: المقتضب، وشرح شواهد سيبويه، والرد عليه، وله كتاب الكامل، وفي تاريخ النحاة له: طبقات النحويين البصريين وأخبارهم. توفي ببغداد.


  • المدرسة الكوفية ( منهجها وأعلامها )


       نظم الكوفيون نحوهم على نمط خاص لا ينتحون فيه اتجاه البصريين، فاستمعوا من الأعراب الثاوين بالكوفة ( وقد كانوا أقل عددا وأضعف فصاحة ممن كانوا بالبصرة، إذ كان أغلبهم يمانيين، وأهل اليمن في عين أهل التمحيص ممن لا يستند إليهم لمخالطتهم الحبشة والهند والتجار الوافدين من مختلف الأمصار )

       كما كان الكوفيون أعلم بالشعر من البصريين وأكثر انشغالا به، والشعر ذو النصيب الأوفر في تدوين القواعد بعد القرآن الكريم، إلا أن النحل قد طغى عليه حتى التبس الأمر على الناس، وأُسند القول إلى غير قائله، قال أ[و الطيب:" الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم." وذلك لاعتمادهم في كثير منه على حماد الراوية، وقد كان رقيق الأمانة، وعلى خلف الأحمر البصري الذي لبس على الكوفيين، دون البصريين، فيما رواه لهم، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشر التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم، وهو من أكثر ما بنوا عليه قواعدهم!! قال أبو زيد:" حدثني خلف الأحمر قال: أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم! أنا تائب إلى الله تعالى، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوباً إلى العرب لهذا السبب." فاجتماع هذين الوضاعينِ كفيل بتوريث الكوفيين توهينا لمذهبهم، فليس في الرواة جميعا، على كثرتهم ومحاولة بعضهم الصنعَ من يداني حمادا وخلفا!! ( لكن لم يكن كل رواتهم كذلك، فالمفضل الضبي مثلا ثقة قد روى عنه البصري أبو زيد الأنصاري في كتاب النوادر)

    على الرغم من علم الكوفيين بالشعر إلا أن منهم - كالكسائي- من استمع إلى الأعراب الذين في بغداد! كأعراب الحطمة الذين ضربوا خيامهم في قَطرَبُّل، وهم من زعانف العرب الذين اختبل لسانهم، ولولاهم ما فاز الكسائي وانخذل سيبويه في مناظرة المسألة الزنبورية. ولذلك قال اليزيدي البصري في الكسائي وأصحابه:

    كنَّا نَقِيسُ النحوَ فيما مَضى ...  على لسانِ العَرَبِ الأوَّلِ

    فجاءَ  أقوامٌ  يقيسُونَهُ ...   على لُغَى أشياخ قُطْرُبُلِ

    فكُلُهم يعملً في نقض ما ... به يصاب الحقُ لا يأتلي

    إنّ الكسائي  وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفلِ

    وفي هذه النقطة الفارقة بين منهجي المدرستين يقول الرِّياشي أبو الفضل البصري، وهو يلمز الكوفيين: إنما أخذنا اللغة من حَرَشَةَ الضِّباب وأكَلَة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكَلَة الكواميخ والشَّواريز.

     

    ويمكن إجمال منهج الكوفة فيما يلي:

    - اتساعهم في الرواية وفي القياس، بما في ذلك قياسهم على الشاذ،

    - مخالفة البصريين في بعض المصطلحات

    - اعتمادهم على شعر المتحضرين

    - اكتفاؤهم بالشاهد الواحد ولو خالف الأصل المعروف المتفق عليه بين الفريقين، حتى قيل فيهم: لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه خلافا للبصريين، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر، ولا يعلم قائله، ومن ذلك تجويزهم دخول اللام في خبر( لكن)، يقول المجهول:

    ....................     ولكنني من حبها لعميد.

    ومن ذلك أيضا تجويزهم تثنية أجمع وجمعاء وتوابعهما قياسا على جمعها ( أجمعان، أكتعان أبصعان، أبتعان للمذكر، وجمعاوان، كتعاوان، بصعاوان، بتعاوان للمؤنث)، وهو غير مسموع!!

    ولذلك وضعوا جريا على سنتهم- للشيء الواحد متى ورد على صور متغايرة قواعد بقدر صوره، فكثر عندهم التجويز للصور المتخالفة، كما قل عندهم ما كثر عند البصريين من التأويل والشذوذ والاضطرار والاستنكار، ولكن ذلك لا يعني مجانبتهم الصواب فكل ما ذهبوا إليه، بل أصابوا أحيانا وأخطأ الكوفيون.

     

    طبقات الكوفيين: تضم خمس طبقات، تتلمذت أولاها على يد علماء الطبقة الثاني البصرية:

     

    الطبقة الأولى:

     الرؤاسي أبو جعفر(187هـ): لقب بالرؤاسي لكبر رأسه، نشأ بالكوفة وورد البصرة فأخذ عن "أبي عمرو بن العلاء" وغيره من علماء الطبقة الثانية البصرية، ثم قفل إلى الكوفة، واشتغل فيها بالنحو مع عمه معاذ وغيره، فتكونت الطبقة الأولى الكوفية. ثم صنف كتابه "الفيصل" الذي اطلع عليه الخليل ونقل عنه سيبويه في كتابه كما نقل عن البصريين، فإلى الرؤاسي يرجع بدء النحو في الكوفة دراسة وتأليفا. فهو رأس الطبقة الأولى الكوفية، وكتابه أول مؤلف في النحو بالكوفة.

    الهراء معاذ بن مسلم (187ه): هو عم الرؤاسي،عرف بالهراء لبيعه الثياب الهروية الواردة من مدينة هراة، أخذ عنه الكسائي قبل أن يخرج إلى الخليل بن أحمد. اشتغل مع ابن أخيه في النحو، غير أن ولوعه بالأبنية غلب عليه، حتى عده المؤرخون واضع الصرف، ولم يوقف له على مصنف.

     

    الطبقة الثانية:

    الكسائي علي بن حمزة(189هـ): أحد القراء السبعة وإمام في النحو واللغة، فارسي الأصل، سئل عن تلقيبه بالكسائي فقال:"لأني أحرمت في كساء"، وقيل في السبب غير هذا، نشأ بالكوفة وتعلم النحو على كبر، بعد لحن، وتنقل في البادية، وهو مؤدب الأمين ابن هارون الرشيد. أخذ عن معاذ الهراء ما عنده ثم توجه تلقاء البصرة فتلقى عن الخليل ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة وكتب عن العرب كثيرا

    له عدة تصانيف منها: معاني القرآن، وكتاب في القراءات، وكتاب النوادر الكبير، ومختصر في النحو، وغير ذلك.

    وعلى يد الكسائي تكاثرت الفوارق بين المذهبين لاختلاف الاتجاهين.

     

     

    الطبقة الثالثة:

    هشام الضرير(209هـ): من تلاميذ الكسائي، أخذ عنه كثيراً من النحو. وله فيه مقالة تعزى إليه. وله فيه تصانيف، منها: كتاب الحدود وهو صغير. وكتاب المختصر. وكتاب القياس.

     الأحمر علي بن المبارك (194هـ): وهو غير خلف الأحمر لأن خلفا بصري وهذا كوفي. كان جنديا من رجال النوبة على باب الرشيد، ثم سمت نفسه إلى العلم، فكان يترصد في الطريق الكسائي عند حضوره للرشيد، ومنه أخذ النحو، ثم صار مؤدبا لأولاد الرشيد بعد مرض الكسائي. وهو الذي ناظر سيبويه عند مقدمه بغداد في المسألة الزنبورية،

    الفراء(207هـ): هو أبو زكريا يحيى بن زياد، لقب بالفراء "لأنه كان يفري الكلام". ولد بالكوفة من أصل فارسي، وتلقى عن "الكسائي" وغيره، وتبحر في علوم متنوعة، فكان فذا في معرفة أيام العرب وأخبارها وأشعارها، والطب والفلسفة والنجوم، كما كان فقيها متكلما ميالا إلى الاعتزال، وقد تقصى أطراف علم النحو حتى قيل فيه:" الفراء أمير المؤمنين في النحو، وهو الذي قال: أموت وفي نفسي شيء من حتى لأنها ترفع وتنصب وتخفض". وقال فيه ثعلب: لولا الفراء ما كانت اللغة. وقال سلمة: إني لأعجب من الفراء كيف يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه.

    من كتبه: المقصور والممدود، ومعاني القرآن الذي أملاه في مجالس عامة كان في جملة من يحضرها نحو ثمانين قاضيا،  والمذكر والمؤنث، وكتاب اللغات، والفاخر(في الأمثال)، وما تلحن فيه العامة، وآلة الكتاب، والأيام والليالي، والبهي (ألفه لعبد الله بن طاهر)، واختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف، والجمع والتثنية في القرآن، والحدود (ألفه بأمر المأمون)، ومشكل اللغة. وكان يتفلسف في تصانيفه. ولما مات وجد " كتاب سيبويه " تحت رأسه، فقيل: إنه كان يتتبع خطأه ويتعمد مخالفته.

    اللحياني(220هـ): هو أبو الحسن علي بن المبارك من بني لحيان، أخذ عن الكسائي وغيره، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام. وله كتاب النوادر.

     

    الطبقة الرابعة:

    ابن سعدان الضرير(231هـ): نحوي مقرئ ضرير. له كتب في النحو والقراءات، منها (الجامع) و (المجرد) وغيرهما.

    الطوال(243هـ): ويكنى بأبي عبد اللّه. من أصحاب محمد بن زياد الفرّاء النحوىّ. قال أبو العباس ثعلب: كان الطّوال حاذقا بإلقاء المسائل العربية، وكان سلمة حافظا لتأدية ما فى الكتب، وكان ابن قادم  حسن النظر فى العلل؛ وهؤلاء الثلاثة الأجلّاء من أصحاب الفرّاء. ولم يشتهر للطّوال تصنيف.

    ابن قادم أبو جعفر(251هـ): أخذ عن الفراء وأخذ عنه ثعلب، وحذق النحو وتعليله، واتصل بالعباسيين فأدب المعتز قبل الخلافة، وله مؤلفات منها في النحو: الكافي، والمختصر.

     

    الطبقة الخامسة:

     ثعلب(291هـ): أبو العباس أحمد بن يحيى إمام الكوفيين في النحو واللغة، تلقى عن ابن الأعرابي وابن قادم، وسلمة بن عاصم وغيرهم غير أنه كان للنحو من بين علوم اللغة العربية النصيب الأوفى من عنايته، واعتمادُه فيه كان على سلمة بن عاصم. وروى عنه الأخفش الأصغر وأبو بكر بن الأنباري. وهو صاحب الفصيح، وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة وله تصانيف كثيرة مفيدة منها: كتاب المصون، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن، وما تلحن فيه العامة، والقراءات، ومعاني الشعر، والتصغير، وما ينصرف وما لا ينصرف، والشواذ، والأمثال، والإيمان، والوقف والابتداء، والألفاظ والهجاء، والمجالس، والأوسط، وإعراب القرآن، والمسائل، وحد النحو وغير ذلك.. قال المبرد: أعلم الكوفيين ثعلب. وكان يزري على نفسه، ولا يعد نفسه، قال أبو بكر ابن مجاهد المقرئ: قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة، فانصرفت من عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام، فقال لي: أقرئ أبا العباس مني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل. ذلك أن الكلام لا يكمل إلا بمعرفة النحو، وأنه ضروري للتعبير عن جميع العلوم.

    جمعت بغداد بينه وبين أبي العباس المبرد زعيم البصريين الذي نافسه شرف الرياسة العلمية والزلفى عند الخلفاء والأمراء، فكانت بينهما مناظرات، ومع ذلك شهد له المبرد بتقدمه على معظم الكوفيين بمن في ذلك سلفه الفراء.

     


  • المدرسة البغدادية ( منهجها وأعلامها )


    مثل هذه المدرسةَ النحاةُ الذين خلطوا المذهبين ( وكأنهم بذرة الأخفش الأوسط ) وانتخبوا من آراء الفريقين لما كانت بغداد مقصد البصريين والكوفيين معا لكونها عاصمة الخلافة آنذاك دون أن يتحرروا من قيود المذهبين السابقين، فمذهب أبناء هذه المدرسة مذهب انتخابي ضم الخصائص المنهجية للمدرستين معا، فضلا عن أخذهم بمصطلحات الفريقين كما هي الحال اليوم، حتى أصبح طلاب النحو لا يفرقون بين المصطلح البصري والمصطلح الكوفي وكأن المصطلحين في الباب الواحد مترادفان كالنعت والصفة والجر والخفض وغير ذلك.

    مميزات المدرسة البغدادية ومنهجها:

    - جمعت بين المذهبين ومالت إلى الانتخاب.

    - عُرفت هذه المدرسة بكثرة العلماء لأنها جمعت في بغداد بين من كانوا بصريين ومن كانوا كوفيين، وقد نجم عن تلك الكثرة في الأعلام كثرةٌ في المصنفات وفي الشروح المتعلقة بمصنفات السابقين.

    - اتباع نهج من انتهت إليهما رئاسة الدرس النحوي، وهما المبرد وثعلب.

    - لم يكن منهم من تعصب لأحد المذهبين على الرغم من ميلهم إلى أحدهما على حساب الآخر إلا قليلا، كتعصب ابن دَرستويه للبصرة وتعصب سليمان الحامض للكوفة.

    - الاعتماد على الفصيح من المسموع والتثبت منه دون إقصاء، كما هي حال ابن جني في خصائصه، حيث يقول:" اللغات على اختلافها كلها حجة."

    - الاحتجاج بالقراءات الشاذة ( ابن جني مثلا) وحتى بالحديث النبوي( كالزجاجي وخاصة الزمخشري في كتابه الأحاجي النحوية)

    - الاحتجاج بشعر المولدين، كاستشهاد أبي علي الفارسي في كتاب الإيضاح ببيت أبي تمام:

    مَنْ كانَ مرعى عزمهِ وهُمومِه ... روضُ الأماني لم يزلْ مَهْزولا

    وكذلك فعل الزمخشري في الكشاف مبررا ذلك بقوله:" وهو وإن كان محدَثا لا يُستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه." وقد احتج بشعر البحتري أيضا وهو من شعراء القرن الثالث وبشعر المتنبي وهو من شعراء القرن الرابع.

    - تأثر بعض البغداديين بألفاظ أهل المنطق وعلم الفلسفة ومصطلحاتهما، كالعرض والجوهر والعلة وعلة العلة والدليل والحجة...

    - اهتمام بعضهم بالعامل النحوي، حيث وضعوا له الأحكام والأصول.

    - الميل إلى العمليات العقلية من تحليل وتأويل وحجاج وجدل مصحوب بالاستدلال والتعليل، كإكثار ابن جني من التعليل وكذلك ابن كيسان وغيرهما، وربما هو الأمر الذي دفع أبا علي الفارسي لأن يقول في أبي الحسن الرماني وهو نحوي معتزلي معروف بالنحو الممنطق المفلسف:" إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء."

    أعلام المدرسة البغدادية: يمكن تقسيم نحاة بغداد إلى جيلين شكلا منهجها الخاص:

     

    الجيل الأول: ميال إلى مذهب الكوفة دون تحيز أو تعصب على حساب البصرة، وذاك من الاعتدال والوسطية، فكانوا يسمون بالكوفيين تارة وبالبغداديين تارة أخرى، ومن هؤلاء:

    ابن كيسان(299 هـ): خلط المذهبين فأخذ عن المبرد وثعلب، من كتبه المهذب في النحو، والمختار في علل النحو.

    ابن شقير(317 هـ): من مؤلفاته: المقصور والممدود، المذكر والمؤنث، مختصر في النحو.

    ابن الخياط، أبو بكر(320 هـ): له: الموجز، المقنع، النحو الكبير.

     

    الجيل الثاني: ميال إلى مذهب البصرة دون تعصب على مذهب الكوفة باستثناء قلةٍ منهم، ومن أعلامه:

    سليمان الحامض(305 هـ): كان شديد التعصب للكوفة.

    الزجاج(310 هـ): له مختصر النحو، فعلت وأفعلت، ما ينصرف وما لا ينصرف، وقد كان ميالا إلى البصرة.

    الأخفش الأصغر، علي بن سليمان(315 هـ): خلط المذهبين، وأخذ عن المبرد وثعلب واليزيدي.

    ابن السراج(316 هـ): له الأصول في النحو، شرح كتاب سيبويه، الموجز... وقد كان ميالا إلى البصرة.

    نفطويه(323 هـ): له كتاب المقنع، خلط المذهبين، وقد كانت بينه وبين ابن دريد مهاجاة.

    ابن الأنباري، أبو بكر(327 هـ): له الكافي، والواضح، والموضح. كان ميالا إلى الكوفة.

    الزجاجي، أبو القاسم(337 هـ): تلميذ الزجاج، من مؤلفاته الجمل، الكافي، الأمالي... كان ميالا إلى البصرة.

    مبرمان(345 هـ): له شرح شواهد سيبويه، التلقين...

    ابن درستويه(347 هـ): كان شديد التعصب للبصرة، من مؤلفاته الإرشاد، أسرار النحو، الرد على ثعلب في اختلاف النحويين، أخبار النحويين...

    السيرافي، أبو سعيد(368 هـ): له شرح كتاب سيبويه، أخبار النحويين.

    ابن خالويه(370 هـ): كان ميالا إلى الكوفة منتصرا لثعلب.

    أبو علي الفارسي(377 هـ): له الإيضاح، التكملة، التذكرة، الحجة في القراءات... ميال إلى البصرة.

    الرماني، أبو الحسن(384 هـ): له شرح كتاب سيبويه، شرح أصول ابن السراج. كان ميالا إلى البصرة شديد النزوع إلى الفلسفة والمنطق في درسه النحوي.

    ابن جني(392 هـ): ميال إلى البصرة. من كتبه النحوية سر صناعة الإعراب، والمحتسب.

    الربعي، علي بن عيسى(420 هـ): له شرح الإيضاح، وشرح مختصر الجرمي. وهو ميال إلى البصرة.

    الزمخشري(538 هـ):

    ابن الشجري(542 هـ):

    الأنباري، أبو البركات(577 هـ): له لمع الأدلة، والإنصاف، والإغراب في جدل الإعراب....

    العكبري، أبو البقاء(616 هـ): كان ميالا إلى الكوفة، له شرح الإيضاح، شرح اللمع، شرح المفصل، التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين.

    ابن يعيش

    الرضي الاستراباذي

     


  • Topic 9

  • Topic 10

  • Topic 11

  • Topic 12

  • Topic 13

  • Topic 14

  • Topic 15

  • Topic 16

  • Topic 17

  • Topic 18

  • Topic 19