لسانيات النص
Topic outline
-
تعدّ لسانيات النّص، أو علم النّص، أو علم اللّغة النّصي، أو علم لغة النّص، فرعا من فروع اللسانيات الحديثة أو علم اللغّة الحديث، وقد اختلف العلماء والباحثون في تسمية هذا العلم (لسانيات النّص) باختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية، وهذا الاختلاف عائد إلى اختلافهم في تسمية العلم الحديث الذي تفرع عنه هذا العلم (اللسانيات الحديثة)، لكن هذا الاختلاف لم يؤد إلى الاختلاف في المنهج والموضوع، بل كان اختلافا في اختيار المصطلح المناسب لذلك العلم الذي يبحث في الوحدة الأكبر من الجملة، أو وحدة النّص باعتباره فضاء له خصائصه ومميزاته التي تميّزه عن باقي الوحدات الأخرى.
1ــــ نشأة لسانيات النّص (نحو النّص):
تأسس في العصر الحديث علم جديد بمنهجه وموضوعه وآلياته التحليلية، وهو علم النّص، أو نحو النّص، أو لسانيات النّص، وكان منبت هذا العلم غربيا من حيث المنهج المتّبع، والصيغة العلمية التي صُرّح بها للانتقال في مستوى التحليل اللغوي (اللساني) من مستوى الجملة إلى مستوى النّص؛ حيث تعدّ أعمال "زليخ هاريس" (Z.Harris) مع بداية النّصف الثاني من القرن العشرين الانطلاقة الحقيقية، والبادرة الأولى للدراسات اللسانية النّصيّة، حيث قدّم "هاريس" منهجا لتحليل الخطاب المتماسك بنوعيه الملفوظ والمكتوب، من خلال عمله الموسوم بـ "تحليل الخطاب" (Discourse analysis)، وكان ذلك سنة 1952م، إذ اعتمد منهجه على ركيزتين في تحليل الخطاب: الركيزة الأولى هي العلاقات بين الجمل، أما الركيزة الثانية فهي الربط بين اللغة والموقف الاجتماعي. إلا أنّ هذا العمل الذي قام به "هاريس" يبقى بداية تاريخية للسانيات النّص، وإشارة علمية واضحة إلى ضرورة البحث في مجال أوسع من مجال الجملة، وهذه الإشارة لا تختلف عن إشارات مجموعة من علماء اللغة، نذكر من هؤلاء اللغوي الدانيماركي "لويس يلمسليف" (L.Hjelmslev) الذي أقرّ أنّ تحليل النّص يجب أن يمثّل أحد الالتزامات التي لا مناص منها بالنسبة للساني، وهو يلتقي في ذلك مع "ميخائيل باختين" (M.Bakhtine) الذي صرّح أنّ اللسانيات لم تحاول أبدا سبر أغوار المجموعات اللغوية الكبرى كالملفوظات الطويلة التي نستعملها في حياتنا العادية مثل الحوارات والخطابات وغيرها. وفي هذا دليل واضح على أنّ لسانيات النّص علم قد أشير فيه إلى ضرورة الانتقال التدريجي في التحليل اللغوي من مستوى الجملة الضيّق ـــــ الذي لا يمكن من خلاله حصر كل الظواهر اللغوية المتعلقة بعمليات التواصل ــــ إلى مستوى النّص أو المستوى الأوسع من مستوى الجملة؛ لأنّ عمليات التواصل اللغوية لا تحدث بواسطة الجملة المجرّدة المنعزلة، بل تحدث بواسطة تضافر مجموعة من الجمل المرتبط بعضها ببعض في مستوى واحد، وهو النّص أو الخطاب.
ثم تجسدت هذه الإشارات في علم قائم بذاته له موضوعه ومنهجه الخاص به في السبعينات من القرن العشرين، وكان ذلك على أيدي مجموعة من العلماء أبرزهم "تون فان دايك" (T.van Dijk) مما جعل بعض اللغويين يرى فيه المؤسس الحقيقي لعلم النّص، وقد ضمّن "فان دايك" أفكاره وتصوراته لأسس ومبادئ هذا العلم، كتابا يحمل عنوان: "بعض مظاهر نحو النّص" (Quelque aspects de la grammaire du texte ). كما نجد أنّه ألّف أيضا كتبا أخرى حاول فيها وضع الأسس المنهجية لهذا العلم، ككتاب: "علم النّص مدخل متداخل الاختصاصات"، والذي ضمّنه أهم ما يميز علم النّص باعتباره علما قائما بذاته له ارتباط وثيق بالعلوم الأخرى، كون أنّ النّص ليس بنية يختصّ بها علم دون علم آخر.
إنّ من بين الأمثلة التي يمكن الاستشهاد هي إشارة "فان دايك" إلى قضية تنظيم النّص وبنائه، وما يخصّ تماسكه النحوي، وترابط عناصره بعضها ببعض، وأشار أيضا إلى الروابط التي تحكم ربط هذه العناصر، حيث نجد أنّه قسّمها إلى مجموعتين: إحداهما الروابط المنطقية، والأخرى ما ينبع من طبيعة التركيب اللغوي، والاختلاف بين النوعين لا يتعدى كون الأول منهما نابع عن ترتيب الجمل وفق ما يناسب المعنى، وذلك ما يسهم في انسجام الكلام مع مقاصد المتكلّم، لكن تحديد هذه الروابط (في رأي فان دايك) لا يعني أن تماسك النّص، وتعالق جمله بعضها ببعض لا يتم إلا بوجود الرابط الجامع كالوصل بالعطف مثلا، بل يمكن أن يتمّ عن طريق ما يعرف بالفصل الذي لا يستعان فيه برابط لفظي ظاهر، فمن خلال هذا الطرح نجد أنّ "فان دايك" قد أشار إلى أنّ النّص يمثل مستوى يختلف اختلافا كبيرا عن مستوى الجملة، باعتبار أنّه فضاء نحتاج في بنائه إلى مجموعة من الروابط المتصلة بطبيعة الأفكار والمقاصد، حيث إن تنظيم العناصر المكوّنة للنّص وترتيبها يكون حسب تنظيم الأفكار وترتيبها، وهذا ما يقتضي الاستعانة بجملة من الروابط اللفظية التي تناسب هذا التنظيم والترتيب، ففي موضع يحتاج المنتج إلى الربط بالعطف مثلا، وفي موضع آخر يستغني عن الربط اللفظي ويكتفي بالربط البياني كون أن الموضع موضع فصل مثلا.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنّ عددا من علماء اللغة الذين عاصروا "فان دايك" ألفوا في هذا التوجه الجديد (لسانيات النّص)، وحاولوا إثراء قضاياه ومباحثه، أمثال: "شتمبل" (Shtempel)، و"جليسون" (Gleason)، و"هارفج" (Harveg)، و"شميث" (Schmidt)، و"درسلر" (Dressler)، و"برنكر" (Brinker)، وغيرهم من العلماء، غير أنّ الدراسات النّصية لم تبلغ أوجها إلا مع اللغوي الأمريكي "روبرت دي بوجراند" (R. De Beaugrande) في الثمانينات من القرن العشرين، وذلك من خلال كتابه: "مدخل إلى لسانيات النّص" (1981) (Introduction de linguistique textuelle)، وكتاب: "النّص والخطاب والإجراء" (Texte, Discours and proces)، وقد أشاد في كتابه الأول بجهود "فان دايك" في التأسيس لهذا العلم الجديد، حيث يذكر دي بوجراند في بداية تأريخه لعلم النّص رأيا لـ "فان دايك" يقول فيه: «لا يخضع علم النّص لنظرية محددة أو طريقة مميّزة، وإنّما يخضع لسائر الأعمال في مجال اللغة التي تتخذ من النّص مجالا لبحثها واستقصائها»، ويعني ذلك ألا نتوقع في دراستنا لتاريخ علم النّص أن نبرز نظرية واحدة أو اتجاها محددا، وإنّما يجب أن نتجه نحو سائر الأعمال التي أسهمت في إبراز هذا المجال الحيوي في دراسة اللغة، فـ "دي بوجراند" لم يربط نشأة هذا العلم بنظرية محددة، أو عالم لغوي دون الآخر، بل صرّح بأنّ هذا العلم هو نتاج لاجتهادات كل من كان لهم الفضل في نقل الدراسة اللغوية من مستوى الجملة التقليدي إلى مستوى النّص الحديث.
كما نجد أنّ "دي بوجراند" قد أسس لنحو النّص من خلال محاولته التفريق بينه وبين نحو الجملة، وأبرز الجوانب التي تميّز هذا النحو الجديد ونجعل منه نحوا يختلف وينفصل عن نحو الجملة التقليدي؛ حيث إنّه أشار مثلا إلى أحد الفوارق بقوله: الجملة كيان قواعدي خالص يتحدد على مستوى النحو فحسب. أما النّص فحقّه أن يعرّف تبعا للمعايير الكامنة للنّصيّة (Textuality)؛ أي إنّ الجملة التي كانت أساس كل دراسة لسانية سابقة هي عبارة عن تمثيل للنظام القواعدي للغة فحسب، أما النّص فهو عبارة عن كيان يُشترط في بنائه ونظمه جملة من المعايير التي حدّدها "دي بوجراند" في سبعة معايير، وهي: الاتساق، والانسجام، والقصد، والمقبولية، والإخبارية، والموقفية، والتناص.
2ــــ مفهوم لسانيات النّص:
نحو النّص أو لسانيات النّص فرع معرفي لغوي قد تشعبت تعريفاته واختلفت، ولم يستقر علماء النّص على تعريف محدد لهذا العلم، بل يمكن للباحث أن يحصي عددا هائلا من التعريفات المختلفة، لذلك سنحاول أن نقتصر على ذكر أبرزها فقط، فنجد مثلا "فان دايك" (T.van Dijk) يعرف علم النّص بأنّه ذلك العلم الذي يصف الجوانب المختلفة لأشكال الاستعمال اللغوي، وأشكال الاتصال ويوضّحها، كما تحلل في العلوم المختلفة في ترابطها الداخلي والخارجي. وبهذا يشير "فان دايك" إلى تلك العلاقة التي تربط لسانيات النّص بالعلوم الأخرى، كعلم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة النفسي، وعلم الاتصال، وغيرها من العلوم التي تعتبر القاعدة المعرفية الصلبة للسانيات النّص.
ونجد أيضا أنّ "دي بوجراند" (R. De Beaugrande) أثناء حديثه عن الحدود التقليدية للسانيات النّص أشار إلى أنّه في هذا الإطار تصبح لسانيات النّص مجالا لفظيا من مجالات السيميوطيقا([1]) بتناول كلّ المدى المعتمد ما بين النّصوص ذات الكلمة المفردة (مثلا: الصياح بلفظ حريق) إلى نصوص لها من الطول ما للكوميديا الإلهية[2] (The Divine Comedy)، والصفة المميزة للنّص هي وقوعه في الاتصال؛ أي إن لسانيات النّص علم يتناول بالدراسة مختلف النّصوص لا بالنظر إليها من حيث طولها أو قصرها (البنية السطحية)، بل بالنظر إلى قيمتها في عملية التواصل الواقعة بين أفراد المجتمع الواحد.
ونجد أيضا أنّ هذا التعريف قد اتفق مع تعريف آخر في الأساس المرتكز عليه، وفي المنطلق العلمي الموضح لكنه هذا العلم، وهو تعريف "فولفجانج هانيه من" و"ديتر فيهفيجر" (W.Heinemann, D.Viehweger) حيث قالا: انطلاقا من المطلب القائل إنّ علم النّص علم لا يدرس أبنية النّص فقط، بل يدرس أيضا صفات التوظيف الاتصالي للنّصوص، لوحظ أحيانا الميل إلى تجاوز الحدود باتجاه علم الاتصال، إلى حد التسوية بين علم اللّغة النّصي وعلم الاتصال. فعلم اللّغة النّصي بهذا المفهوم إذا يطمح أيضا إلى دراسة كلّ ظواهر الاتصال وشرائطها بوصفها مجالا للبحث، لكن علم النّص لا يمكن أن يوسع إلى أن يندمج مجاله ومفاهيمه بعلم الاتصال، بل له حدوده المنهجية التي تفصله عن بقية العلوم الأخرى، وتجعله متفردا بمجاله وحدود دراسته.
كما عُرّف علم النّص (لسانيات النّص) أيضا على أنّه نمط من التحليل ذو وسائل بحثية مركبة تمتدّ قدرتها التشخيصية إلى ما وراء الجملة، بالإضافة إلى فحصها لعلاقات المكونات التركيبية داخل الجملة؛ أي لا يمكن الفصل بين لسانيات الجملة ولسانيات النّص في مستوى التحليل النّصي، بل يعتمد التحليل النّصي في مجال لسانيات النّص على كلّ الظواهر التركيبية الخاصة بالجملة مضافا إليها مجموع القواعد النّصية التي تخص بنية النّص، وذلك باعتباره فضاء يضمّ زخما من الجمل المتعالق بعضها ببعض.
أمّا "صبحي إبراهيم الفقي" فقد عرّف علم النّص (لسانيات النّص) بأنّه ذلك الفرع من فروع علم اللغة، الذي يهتمّ بدراسة النّص باعتباره الوحدة اللغوية الكبرى، وذلك بدراسة جوانب عديدة أهمها الترابط أو التماسك ووسائله، وأنواعه، والإحالة أو المرجعية (Référence) وأنواعها، والسياق النّصي (Textual Contexte)، ودور المشاركين في النّص (المرسل والمستقبل)، وهذه الدراسة تتضمن النّص المنطوق والمكتوب على حد سواء. فلسانيات النّص علم مستقلّ بذاته يختصّ بدراسة النّص باعتباره أكبر وحدة في التحليل اللساني، وهذا العلم يبحث في العناصر التي تجعل من البناء المكوّن من مجموعة جمل نصّا، سواء ما تعلّق منها بالجانب التركيبي (الاتساق وعناصره)، أو ما تعلّق منها بالجانب الدلالي المفهومي (الانسجام وآلياته)، أو ما تعلّق بذات المنتج (القصد)، أو ما تعلق بطبيعة تأويل المتلقي وقبوله لمضمونه (القبول)، أو ما تعلّق بالموقف الخارجي المرتبط بتفسير مضمون النّص وتحديد فحواه القضوي (الموقفية)، أو ما ارتبط بعلاقة النّص بنصوص أخرى أنتجت في فترة زمنية سابقة لزمن إنتاج النّص، ونسبة اعتماده عليها (التناص)، أو ما تعلّق بطبيعة ما يحمله النّص من قيم إخبارية تشبع رغبة المتلقي المعرفية، وتحقق الهدف الذي أنتج النّص من أجل تحقيقه (الإخبارية).
يمكن للطالب أن يعود إلى مجموعة من المصادر والمراجع للتوسع في موضوع الدرس نذكر منها:
1) إبراهيم محمود خليل، في اللسانيات ونحو النّص.
2) أحمد عزت يونس، العلاقات النصية في لغة القرآن الكريم.
3) أحمد عفيفي، نحو النّص اتجاه جديد في الدرس النحوي.
4) الأزهر الزناد، نسيج النّص (بحث في ما يكون به الملفوظ نصا).
5) روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، تر: حسان تمام.
6) سعيد حسن بحيري، علم لغة النّص (المفاهيم والاتجاهات).
[1]- السيميوطيقا (علم العلامات): وهو علم يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز سواء كانت طبيعية أو صناعية
[2] - الكوميديا الإلهية: ملحمة شعرية لدانتي أليغييري تتألف من 14233 بيتا شعريا، والتي يعتبرها النقاد من بين أفضل الأعمال الأدبية في العالم.
-
1ــــ الجملة:
يعرّف "عبد القاهر الجرجاني" (ت 471ه أو 474ه) الجملة بأنها "الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة التي لم توضع لتعرف معانيها في نفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد." أي إن استعمال اللغة يظهر في الألفاظ المعبرة عنها، ومعاني هذه الألفاظ لا تكتمل إلا بانضمامها وتجاورها في جمل تامة ومفيدة.
أما "العكبري" فيرى أن الجملة هي الكلام، والكلام عبارة عن الجملة المفيدة فائدة تامة كقولك: زيد منطلق، وإن تأتني أكرمك، قم وصه، وما كان في نحو ذلك، فأما اللفظة المفردة نحو: زيد ... وحده ... ونحو ذلك فلا يسمى كلاما بل كلمة؛ هذا قول الجمهور.
أما "ابن جني" فيرى أن الكلام المفيد هو الجملة: "أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو الذي يسميه النحويون الجمل نحو: زيد أخوك وقام محمد."
نلاحظ من خلال تعريف "ابن جني" أنه اتفق مع "العكبري" في جعل الكلام هو الجملة، لكن "ابن جني" أضاف على تعريف "العكبري" تخصيص نوع الكلام وهو الكلام المفيد، فجعل الفائدة صفة للكلام أما أبو البقاء فجعل الفائدة صفة للجملة بقوله: "الكلام عبارة عن الجملة المفيدة فائدة يسوغ السكوت عليها."
أما الجملة عند جمهور النحاة فتعبير صناعي أو مصطلح نحوي لعلاقة إسنادية بين اسمين أو اسم وفعل تمت الفائدة بها أم لم تتم، ولذلك فهي أعم من الكلام، والكلام أخص منها.
وحد الجملة هو ذلك المعنى الذي تؤديه، فباكتماله يكتمل حدها قصرت أم طالت، كما يقول الجرجاني: "إنه لا معنى للنظام غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم."
وقد يفهم المعنى من الجملة في شكلها المنفصل؛ أي باعتبارها مكونا دلاليا منفصلا قائما بذاته، لا نحتاج في فهمها إلى وضعها في سياق عام يحتوي على مجوعة من الجمل المتتالية التي لا ينفصل معنى الواحدة منها عن الأخرى، فالأصل في الجملة الانفصال والاستقلال، والأصل في المفردات الارتباط في التركيب، وكان لا بد من أداة تربط بين الجملتين نحو: يحب زيد قيادة السيارات والمطر متساقط، وهنا لا بد من أداة تربط بين الجملتين، وهي واو الحال، فحين تم الربط، أمكن القول أن الجملتين صارتا جملة واحدة تؤدي معنى دلاليا واحدا. وإن هذا الاستقلال للجملة لم يكن من الفراغ بل جاء في إطار النظر إلى الجملة كأكبر وحدة لغوية مستقلة، وحديثا كانت الجملة مدار رأي تشومسكي في مجال التوليد اللغوي، فيرى تشومسكي أن القواعد النحوية الكامنة في المقدرة اللغوية العامة لدى ابن اللغة قادرة على إنتاج جميع الجمل والجمل فقط في اللغة. وهو بذلك يخص الجمل بحد ذاتها.
لكن الجملة لا يمكن فهم المعنى الذي تحمله إلا إذا نسجت وفق قواعد نحوية مضبوطة، لأن الجملة المقبولة دلاليا لا بد أن تتضمن علاقات تلاؤمية صحيحة. وهذه العلاقات الدلالية علاقات أفقية، أي إنها تركيبية لا يمكن أن تنشأ إلا بطريق التركيب النحوي.
والجملة من منظور إنّها وحدة مستقلة قائمة بذاتها تختلف دلالتها ومعناها من شخص لآخر، وذلك حسب إمكانات المتأمل لها نحويا ودلاليا، فالجملة ذات دلالة حقيقية بالنسبة لشخص معين إذا عرف هذا الشخص كيف يتحقق من القضية التي تهدف الجملة إلى التعبير عنها.
لكن من منظور أن الجملة لا يكتمل فهم معناها إلا بانضمامها إلى جمل سابقة أو لاحقة تسهم في تحديد معناها وإيضاح دلالتها، باعتبار أنها المسؤولة عن تحدد السياق العام للنّص، ففي إطار النّص ترتبط الجمل بعضها ببعض وتسهم كل جملة في إيضاح معنى الجملة التالية لها، حيث إن الجملة داخل النص لا تفهم في حد ذاتها فحسب وإنما تسهم الجمل الأخرى في فهمها. وإنما يحدد المعنى من خلال النص الكلي الذي تتضامن أجزاؤه وتتآزر.
وانضمام جملة إلى أخرى واجتماعهما في إطار ما يجمعهما وهو النص، يجب أن يكون وفق ارتباط دلالي يقول صلاح فضل في هذا السياق: "ترتبط العبارتان فيما بينهما، إذا كان مدلولهما، أي الظروف المنسوبة إليهما في التأويل مرتبطة فيما بينها. فعبارة: لما كان الجو حسنا فإن القمر يدور حول الأرض، ليس هناك علاقة بين حسن الجو ودوران القمر حول الأرض، لأن الموقف المتعلق بكل عبارة لا يدعم التعالق. فالعبارتان لا ترابط بينهما لعدم وجود الترابط الدلالي، وإن كانتا من حيث التركيب النحوي صحيحتين.
يمكن القول أن الجملة أو المقولة اللغوية لا يمكننا الحكم عليها بالانفصال والاستقلال أو الارتباط والتبعية الدلالية لجمل أخرى إلا من خلال المدلول الذي وظفت وأنشأت من أجل تحقيقه، أي حسب السياق الذي توضع فيه الجملة، حيث تجدها مستقلة في سياق وغير مستقلة في سياق آخر، فاستقلالها "أمر نسبي يحكمها موقعها في السياق؛ فقد تكون الجملة مستقلة في سياق معين، وتكون نفسها غير مستقلة في سياق آخر.
2ــــ النّص:
2ــــ1ــــ مفهومه:
أ/ لغة:
ورد في لسان العرب أن النَّصَّ: رفعك الشيء. نَصَّ الحديث يَنُصُّه نصّاً: رَفَعَه. وكل ما أُظْهِر، فقد نُصَّ. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت رجلا أَنَصَّ للحديث من الزُّهْري أي أَرْفَعَ له وأَسْنَدَ. يقال نَصَّ الحديث إلى فلان أي رَفَعَه، وكذلك نَصَصْتُه إليه. ونَصَّت الظبيةُ جيدها: رَفَعَتْه... ونَصَّ المتاع نَصّاً: جعل بعضه على بعض. ونَصَّ الدابة يَنُصُّها نصًّا: رَفَعَها في السير، وكذلك الناقة. وفي الحديث: أن الرجلَ نَصًّا إذ سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده. ونَصُّ كل شيءٍ: منتهاه. وفي قول النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ حين دفع من عرفات سار العَنَقَ فإذا وجد فجوة نَصَّ أي رفع ناقته في السير... ونَصَّ الحديث عن علي، رضي الله عنه، قال: إذا بَلَغَ النساءُ نَصَّ الحِقاقِ فالعَصَبَةُ أولى، يعني إذا بلغت غاية الصغر إلى أن تدخل في الكبر فالعصبة أولى بها من الأمّ، ويريد بذلك الإدراك والغاية. قال الأزهري: النصُّ أصله منتهى الأشياء ومَبْلَغُ أقصاها، ومنه قيل: نَصَصْتُ الرجلَ إذا استقصيت مسألته عن الشيء حتى تستخرج كل ما عنده، وكذلك النَّصُّ في السير إنما هو أقصى ما تقدر عليه الدابة، قال: فنَصُّ الحِقاقِ إنما هو الإدراك، وقال المبرد: نصُّ الحقاق منتهى بلوغ العقل، أي إذا بلغت من سنها المبلغَ الذي يصلح أن تُحَاقِقَ وتُخاصم عن نفسها، وهو الحِقَاقُ، فعصبتها أولى بها من أمِّها.
ب/ اصطلاحا:
ذهب "هاليداي" (M.Hallday) إلى أنّ النصّ هو اللغة التي تخدم غرضا وظيفيا، أي هو اللغة التي تخدم غرضا في إطار سياق ما. وقد يكون النصّ منطوقا أو مكتوبا. ويقرر "هاليداي" أنّه على الرغم من أنّ النصّ يظهر في شكل كلمات أو جمل، فإنّه في الحقيقة نظام من المعاني تمت برمجتها في نظام الشفرة اللغوية من أجل استنطاقها لكشف المعاني الداخلة فيها. ويرى "هاليداي" أنّ النّص في ضوء هذا المفهوم ما هو في حقيقته سوى وحدة معنوية.
وذهبت "رقية حسن" (Ruqaiya Hasan) إلى أن وحدة النّص تعتمد على عنصرين أساسيين، العنصر الأول هو بنية النّص التي تتحكم فيها العناصر الثلاثة التي أشار إليها "هاليداي" (عناصر سياق المقام). والعنصر الثاني هو عنصر النّظم، والنّظم في نظر "رقية حسن" هو ذلك المكوّن الذي يتحكم في علاقات المعاني داخل النّص ويكوّن وحدتها. يمكن استقصاؤه من خلال بعض العوامل اللّفظية والنّحوية، وعلى الرّغم من أنّ النّظم يخضع لبعض القوانين المحددة في الاستخدام العلاماتي للغة، فإنّ التحكم يخضع في النهاية إلى تقدير المستمع من حيث هو الذي يتلقى الرسالة وتنتهي أهدافها في عقله.
ويتفق "هاليداي" و"رقية حسن" في أنّ أي فقرة منطوقة أو مكتوبة على حد سواء مهما طالت أو امتدت.. هي نص .. والنص وحدة اللغة المستعملة، وليس محددا بحجم والنص يرتبط بالجملة بالطريقة التي ترتبط بها الجملة بالعبارة، والنص لا شك أنه يختلف عن الجملة في النوع. وأفضل نظرة إلى النص اعتباره وحدة دلالية. وهذه الوحدة لا يمكن اعتبارها شكلا، لأنها معنى، لذلك فإن النص الممثل بالعبارة أو الجملة، إنما يتصل بالإدراك (الفهم)، لا بالحجم، فيمكن أن يكون النص كلمة واحدة أو عدة كلمات تحقق دلالة عامة، كما يمكن أن يكون النص جملة أو مجموعة من الجمل المرتبط والمنسجمة لتحقيق مفهوم عام.
والنصّ من منظور (تزفيتان تودوروف "Tzvetan Todorov") لا يقوم مفهومه على المستوى نفسه الذي يقوم عليه مفهوم الجملة (أو القضية أو التركيب، إلى آخره). وجب على النّص، بهذا المعنى، أن يكون مميزا من الفقرة، ومن وحدة النموذج الكتابي لعدد من الجمل. فالنّص يمكن أن يتطابق مع الجملة كما يمكن أن يتطابق مع كتاب كامل. وإنّه يتحدد باستقلاله وانغلاقه (حتى ولو كانت بعض النصوص غير مغلقة بمعنى ما). وهو يكوّن نسقا يجب ألا يتطابق مع النّسق الكلامي، لكن يجب أن يوضع في علاقة معه: إنّها علاقة تجاور وتشابه في الوقت نفسه. وإنّ النّص بمصطلحات يلمسليف، يعد نسقا ذا دلالة إجرائية، ذلك لأنّه يعد ثانيا بالنسبة إلى نسق آخر للمعنى. فإذا ميزنا في الجملة مكوناتها الصرفية، والنحوية، والدلالية، فإننا سنميّز مقدار ذلك في النصّ من غير أن تقوّم هذه المقومات مع ذلك على المستوى نفسه.
إذا فمفهوم النّص من منظور "تودوروف" يختلف من حيث مقوماته ومكوناته وأسسه عن مفهوم الجملة التي تكوّن وفق أسس صرفية ودلالية ونحوية، وهذا المفهوم الذي حدّده "تودوروف" لا يختلف كثيرا عن المفهوم الذي وضّحه (جان ماري سشايفر "J.M.Schweifer") بقوله: "إنّ مفهوم النّص لا يستوي مع مفهوم الجملة على مخطط واحد (أو مع مفهوم القول، أو التركيب، إلى آخره). فالبنى النصية وإن كانت قد أنجزتها كينونات لسانية، إلا أنّها تكوّن كينونات تواصلية: ليس النّص بنية مقطعية ملازمة، ولكنه وحدة وظيفية تنتمي إلى نظام تواصلي."
فالنصّ من منظور براجماتي لم يعد يظهر على أنه تتابع جملي مترابط نحويا، بل على أنّه فعل لغوي معقد، يحاول المتكلم أو الكاتب به أن ينشئ علاقة تواصلية معينة مع السامع أو القارئ.
أما "روبرت دي بوجراند" (R.De Beaugrande) فحاول أن يحصي كل الجوانب التي تؤثر في النصّ وتساعد على بنائه من خلال قوله: ينبغي للنصّ أن يتصل بموقف يكون فيه Situation of occurrence تتفاعل فيه مجموعة من المرتكزات Stratégies والتوقعات Expectation والمعارف Knowledge ، وهذه البيئة الشائعة تسمى سياق الموقف Contexte. أما التركيب الداخلي للنصّ فهو سياق البيئة Co-texte . ولا يمكن للمرء من جهة أخرى أن يخطط جملا لا يمكن أبدا أن ترد دون تكلف، إما لكونها أطول أو أعقد أو أكثر توابعا أو أكثر ابتذالا مما يتم قبوله؛ أو كونها فارغة من المعنى أو غير ذات أثر عملي في الأداء. فالقواعد التجريدية لتكوين الجمل لا يمكن التقنين لطولها أو عدد مكملاتها بحيث يتوقف بعده تتابع العناصر لتصبح الجملة جملة.
ويضيف "دي بوجراند" في سياق تعريفه للنصّ: "لا يمكن النظر إلى النصّ بزعم أنه صورة مكونة من الوحدات الصرفية Morphèmes أو الرموز. إنّ النصّ تجلّ لعمل إنساني ينوي به شخص أن ينتج نصّا ويوجه السامعين به إلى أن يبنوا عليه علاقات من أنواع مختلفة. وهكذا يبدو هذا التوجه مسببا لأعمال إجرائية. والنصوص تراقب المواقف وتوجهها وتغيرها كذلك. وليست الجملة عملا؛ ولذلك كانت ذات أثر محدود في المواقف الإنسانية، لأنها تستعمل لتعريف الناس كيفية بناء العلاقات النحوية فحسب."
من خلال تعريف "دي بوجراند" للنصّ حاول أن يفرّق بينه وبين الجملة، فالجملة ــــ من منظوره ــــ لا يمكن أن تعادل النص من حيث ما يحتويه، لأن الجملة تعرّف الناس كيفية توظيف القواعد النحوية فقط، أما النّص فيراقب المواقف ويوجهها ويغيرها في بعض الأحيان.
كما يعرف "محمد خطابي" النصّ على أنه تشكّل كلّ متتالية من الجمل نصّا شريطة أن تكون بين هذه الجمل علاقات، تتم هذه العلاقات بين عنصر وآخر، وارد في جملة سابقة أو جملة لاحقة، أو بين عنصر وبين متتالية برمّتها، سابقة أو لاحقة. يسمي الباحثون تعلق عنصر بما يسبقه علاقة قبلية، وتعلقه بما يلحقه علاقة بعدية.
وكما يعرّف "عبد السلام المسدي" النصّ على أنّه: "كيان عضوي يحدّده انسجام نوعي ناتج عن علاقة التناسب القائمة بين أجزائه، ذلك أن النصّ إنما هو موجود نعالجه معالجة الموجودات الأخرى. هو موجود تركيبي، أي جملة من العلاقات المكتفية بذاتها تكاد تكون مغلقة."
أي إن النصّ لا يعتبر تتابعا عشوائيا لألفاظ وجمل وأفعال كلامية، بل هو بنية مركبة ذات وحدة كلية شاملة.
من خلال المفاهيم السابقة للنص تتضح عدة أمور هي كالآتي:
أولا: النص تتابع من العلامات اللغوية، لابد أن يكون له بداية ونهاية محددة، تعرف من خلال إشارات لغوية أو غير لغوية، مثل علامات الترقيم. أو أن يكون له مطلع ومقطع محدد يعرف من خلاله هذه الإشارات.
ثانيا: النص يتسم بالتماسك والترابط، وهو مفهوم شامل يتحقق من خلال العلاقات النصية، كما يظهر في وحدة كلية تامة مكتفية بذاتها.
ثالثا: النص قد يكون بسيطا، وقد يكون مركبا من مجموعة من النصوص، وأنه قد تدخل في تكوينه أو تتخلله نصوص، ما حدّ بمعيار التناص؛ إذ يمثل النصّ عملية استبدال من نصوص أخرى لأهداف أو لغايات معينة ينشدها محلل النص.
رابعا: النص عبارة عن بنية مركبة الجمل والعناصر، موحدة في المفهوم والمدلول، بنية سطحية تحكمها وتوجهها بنية عميقة.
خامسا: أن النص يتحقق من خلال تفاعل موقف تواصلي، يهدف قائله إلى تحقيق رغبة تواصلية يبتغي بها غاية محددة يتوصل إليها المتلقي أو المحلل.
3ــــ مقارنة الجملة بالنّص:
يمكن التفريق بين الجملة والنص بذكر النقاط الآتية:
· إن اللسانيات تميل إلى الخلط بين التخطيط الاختياري والتخطيط الإجباري، فالجملة لا تمثل إلا تركيبا يمكن في إطاره تخطيط الوحدات الدلالية والتداولية. فكثير من الصفات المنسوبة إلى الجملة تنتمي في الواقع إلى هذه الوحدات (الدلالية والتداولية)، لهذا يصعب النظر في مسألة الكيفية التي يزعم بها الإنسان على تخطيط شيء ما لغاية بعينها، لذلك يجب أن يكون الكيان اللغوي المتعدد المستويات هو النص المشتمل على أجزاء يمكن لها أن تركب في صورة جمل.
ومن ذلك فالمنتج في اللغة لا يجب أن يتقيد بالجمل التي لا يمكن أن تظهر فيها كل مستويات اللغة، كما أن الجملة الخاضعة لنظام قواعدي خاص، الحاملة لمعنى معين لا تكون ذات دلالة جامعة إلا إذا ارتبطت بجمل أخرى تشترك معها في السياق والموقف، وتشترك معها في الموضوع الشامل الذي أنتجت من أجل خدمته.
· يعتبر النّص نظاما فعالا، في حين نجد الجمل عناصر من نظام افتراضي مشترك تحدده مجموعة من القواعد، إذا فالنّص يضم مجموعة من القواعد المتغيرة غير الثابتة المتحكم فيها عوامل متعلقة بالنص ذاته، وعوامل أخرى متعلقة بمنتجه، أما العوامل المتعلقة بالنّص فهي كل ما يخص بناءه ومضمونه، منها كيفية ارتباط الجمل بعضها ببعض ارتباطا لفظيا أو بيانيا لخدمة موضوع النّص، وأما العوامل المتعلقة بالمنتج في القصد الذي أنتج من أجله النّص والأسلوب الذي اعتمد عليه في إظهار أفكاره ومشاعره وانفعالاته، غير أن الجملة لا تمثل إلا إسقاطا لقاعدة من قواعد النظام الافتراضي المشترك بين أفراد المجتمع اللغوي.
لكن هذا لا يعني أن النّص لا تظهر فيه هذه القواعد، بل المقصود أن إنتاج الجمل لا يكون إلا لإظهارها وتبيان كيفية تطبيقها، وما يمكن أن يظهر عليها من عدول في مستوى الاستعمالات المختلفة، أما وجودها في النّص فأمر متفق على ثبوته، لأن من مميزات النّص التبليغ والتواصل بين منتجه ومتلقيه، ولا يحدث ذلك إلا إذا اشتركا في معرفة هذه القواعد؛ حيث إن "أغلب مستعملي اللغة يعرفون القواعد التي تميز مستويات نظام اللغة، ويفترضون حيث يتحدثون أن المستعمل الآخر للغة يعرف القواعد ذاتها (تقريبا)، ويستطيع أن يفعل وفقا لها، كأن يجيب من خلال ذلك على سؤال مثلا. وهذا باعتبار أن النصوص تمثل حالة من حالات التواصل الاجتماعية.
· إن الجملة عبارة عن كيان قواعدي خالص يتحدد على مستوى النحو فحسب. أما النّص فحقه أن يعرّف تبعا للمعايير الكاملة للنصية. وهذا يعني أن الجملة التي اهتم بها علماء اللغة منذ القديم هي تمثيل لقاعدة نحوية معيّنة تتحقق من خلالها مختلف العلاقات الإسنادية، وظهور الجمل ــــ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ــــ لا يكون إلا تطبيقا لحكم نحوي معين، سواء تعلق الأمر بإظهار الأصل في ترتيب عناصرها، أو إظهار حالة من حالات التقديم والتأخير بين عناصرها، أو إظهار الخلاف بين النحاة في حكم من أحكامها، إذا فهي لا يمكن أن تخرج من حلقة النحو وأحكامه. أما النّص فيتحكم في نصيّته مجموعة من العناصر التي حددها وحصرها علماء النّص في سبعة معايير وهي: الاتساق والانسجام والقصد والقبول والموقفية والتناص والإعلامية، وغياب عنصر من هذه العناصر يخرج النّص من نصيّته، فالنّص باجتماع هذه العناصر وتآزرها يظهر ككتلة واحدة، أو كبناء واحد لا يمكن للمتأمل أن يتصور كماله بغياب لبنة من لبناته المكوّنة له.
· يمكن التغلب على قيود القواعد المفروضة على البنية التجريدية للجملة في النّص بواسطة ما يفرضه سياق الموقف من تحفيزات؛ حيث إن العناصر التي يمكن فهمها من الموقف من خلال الإدراك الحسي يمكن تجاوزها دون وقوع ضرر على الطاقة الاتصالية للنّص، وهكذا لا ينبغي للصواب النحوي أن يعد قانونا، بل أن يعد تعويضا، أي معيارا يلجأ إليه عند غياب القرائن فقط. يفهم من هذا أن القواعد التي تتحكم في بناء الجمل المكونة للنّص يمكن أن تذوب في نصيّة النّص، وذلك لارتباط النّص بسياق يجمع بين جمله ويفرض على المنتج أن يكوّن تلك الجمل بالنظر إلى الظروف المحيطة بالنّص، وبالنظر إلى ما يوجد في الموقف من مدركات حسية يمكن أن يشار إليها دون ذكرها. ولا يحتكم إلى القواعد إلا إذا غابت القرائن الدالة الموضحة للمعاني.
· يمكن النظر إلى الجملة على أنّها وحدة بناء النّص، وهذه الوحدة يمكن أن تتكوّن من كلمة واحدة مثل: حريق! والنجدة، كما يمكن للنّص أن يتكوّن من جملة واحدة مثل: ممنوع الدخول إلى موقع البناء؛ حيث إن معناها يتحدد في إطار شروط موقفية معينة، إلا أنّ مثل هذه الوحدات لا يمكن أن تقوم بوظيفة النصوص بالمعنى التواصلي، فمفهوم النّص في نحوه يظهر في تلك النصوص التي تظهر فيها درجة أعلى من التعقيد، سواء من الناحية النحوية أو الناحية الموضوعية، وبذلك تتشكل النصوص التي تتحقق بوصفها تتابعات من الجمل. حيث يمكن القول أنّ الجملة لا تتحدّد وفق طول معين أو عدد من الألفاظ المرتبطة، بل تتحدد وفق المعنى الذي تحمله، فيمكن للكلمة الواحدة أن تكوّن جملة باعتبار ما أدته من معنى، والأمر نفسه بالنسبة للنصوص؛ حيث يمكن للجملة الواحدة أن تُظهر ما يمكن أن يحمله النّص من معان ودلالات إذا وضعت في موقف مناسب لما أنتجت من أجل تبليغه. إلا أنّ مفهوم النّص وشروط النصيّة التي حددها علماء النّص لا يمكن أن تظهر في المثال السابق (ممنوع الدخول إلى موقع البناء)، وكما أشرنا سابقا أن غياب شرط من شروط النصيّة يفقد النص مصداقيته ولو استعان المنتج بأرقى العبارات في نسجه وبنائه، فماذا يقال في نص تكوّن من جملة واحدة؟ هل يمكن أن نلمس فيها شرطا واحدا من شروط النصيّة؟ والجواب عن هذه التساؤلات تحدده طبيعة هذه الجملة التي ارتبطت بسياق ما جعلت المنتج يكتفي بها لتبليغ قضية ما، وهذه الجملة أيضا جعلت المتلقي يستعين بالسياق لإعادة صياغة المعاني والدلالات المتصلة بهذه الجملة، وهذا ما يجعلنا ندرك أن هذه الجملة في حقيقتها اختصار في الأصل لمجموعة من الجمل المتتالية التي غابت في شكلها التركيبي الموضعي، وحضرت في شكل معان يوضحها السياق.
· إن التمييز بين ما يطابق القواعد وما لا يطابقها تمييز تقابلي ثنائي، فالحكم على تركيب ما بأنه «جملة» حكم يرتبط بمقارنة هذا التركيب بالأنماط التي تسمح بها القواعد النحوية. أما التمييز بين ما يعد نصا وما لا يعد نصا فلا يتم بهذه المقارنة الآلية، فكون النص مقبولا أو غير مقبول يتم بحسب درجة معقدة لا بحسب التقابل الثنائي. وذلك أنه يمكن التفريق بين الجمل الصحيحة والجمل غير الصحيحة بواسطة القوانين التي يحددها النحو، ولكن التفريق بين ما هو نص وما هو غير نص لا يخضع لمثل هذه الصرامة الميكانيكية، معنى هذا أن الجملة تركيب يخضع للقاعدة النحوية أكثر من خضوعه لأمر آخر، وخير دليل على ذلك أننا إذا أردنا أن نصدر حكما على تركيب معين نحتكم إلى القاعدة النحوية الذهنية التي يفترض أن التركيب نسج وفقها، وربما نقارنها بتراكيب أخرى (جمل) اشتركت معها في القاعدة، وبهذا التقابل الذهني الثنائي يمكننا أن نصنف التراكيب إلى جمل صحيحة وجمل غير صحيحة نحويا، أما النصوص فلا يمكننا أن نخضعها لهذا المعيار القواعدي كون أنها معقدة في تركيبها، فلو أخضعنا النصوص إلى معيار القاعدة النحوية التركيبية لأهملنا الجانب الدلالي منها، ولحكمنا على بناءات لغوية بأنها نصوص إلا أنها في الأصل لا تتوفر فيها الشروط النصيّة التي حددها علماء النص.
يمكن للطالب أن يعود إلى مجموعة من المصادر والمراجع للتوسع في موضوع الدرس نذكر منها:
1) أبو البقاء العكبري، مسائل خلافية في النحو، تح: محمد خير الحلواني.
2) أحمد عفيفي، نحو النّص اتجاه جديد في الدرس النحوي.
3) الأزهر الزناد، نسيج النّص (بحث في ما يكون به الملفوظ نصا).
4) تون فان دايك، علم النّص مدخل متداخل الاختصاصات، تر: سعيد حسن بحيري.
5) جوليا كريستيفا، علم النص، تر: فريد الزاهي، مراجعة: عبد الجليل ناظم.
6) روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، تر: حسان تمام.
7) سعيد حسن بحيري، علم لغة النّص (المفاهيم والاتجاهات).
8) صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية.
9) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تع: محمود محمد شاكر.
10) كلاوس برينكر، التحليل اللغوي للنص (مدخل إلى المفاهيم الأساسية والمناهج)، تر: سعيد حسن بحيري.
11) محمد خطابي، لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب.
12) محمد صبحي الأخضر، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه.
-
يمكن التركيز في مفاهيم لسانيات النّص على معايير النّصية التي اقترحها "دي بوجراند" و"درسلر" والتي تضمن وحدة النّص الكلية، والتفصيل فيها يكون كما يلي:
1ــــ الاتساق Cohésion: أو السبك، وهو يترتب على إجراءات تبدو بها العناصر السطحية Surface على صورة وقائع تؤدي السابق منها إلى اللاحق Progressive occurrance بحيث يتحقق لها الترابط الرصفي، بحيث يمكن استعادة هذا الترابط. ووسائل التضام تشتمل على هيئة نحوية للمركبات والتراكيب والجمل، وعلى أمور مثل التكرار والألفاظ الكنائية، والأدوات والإحالة المشتركة والحذف والروابط. والاتساق لا يتمثل في عودة عنصر على عنصر آخر في كل الأحوال، بل الاتساق هو ارتباط عنصر بعنصر آخر إما بروابط لفظية أو غير لفظية، أو هو الطريقة التي يتم بها ربط الأفكار في بنية النّص الظاهرة، أو بصورة مبسطة يقصد به التشكيل النحوي للجمل والعبارات وما يتعلق بها من حذف وإضافة ونحو ذلك. إذا فالاتساق يتحقق بوسائل مختلفة منها: الإحالة والاستبدال والحذف والتضام.
2ــــ الانسجام Cohérence: أو الالتحام وهو يتطلب من الإجراءات ما تتنشط به عناصر المعرفة لإيجاد الترابط المفهومي واسترجاعه، وتشتمل وسائل الالتحام على العناصر المنطقية كالسببية والعموم والخصوص، معلومات عن تنظيم الأحداث والأعمال والموضوعات والمواقف، السعي إلى التماسك فيما يتصل بالتجربة الإنسانية، ويتدعم الالتحام بتفاعل المعلومات التي يعرضها النص مع المعلومات السابقة بالعالم؛ حيث إن النص لا يمكن أن يفهم إلا إذا ارتبط بموقف خارجي وسياق معين يوضح الدلالة، ويظهر الطريقة التي يتم بها ربط الأفكار، والانسجام يقابل الاتساق، فكل منهما يعمل على إظهار البناء اللغوي في شكله المتكامل والمتمثل في النّص، إلا أن الانسجام ترابط مفهومي على مستوى أفكار النص، والاتساق ترابط رصفي على مستوى سطح النص.
3ـــ القصد: وهو يتضمن موقف منشئ النّص من كونه صورة ما من صور اللغة قصد بها أن تكون نصا يتمتع بالسّبك والالتحام، وأن مثل هذا النّص وسيلة من وسائل متابعة خطة معينة للوصول إلى غاية بعينها. وهناك مدى متغير للتغاضي في مجال القصد، حيث يظل القصد قائما من الناحية العملية حتى مع عدم وجود المعايير الكاملة للسبك والالتحام. والقصد هو تلك الصورة الشاملة التي أنتج النّص من أجل إيضاحها وتبليغها للمتلقي في نسق لغوي معين يتميز بالاتساق والانسجام، إلا أن هذين العنصران لا يرتبطان ارتباطا مباشرا بالقصد، كون أن وجوده في بناء لغوي ما لا يقتضي أن يكون متسقا ومنسجما. ووجود القصد يعني أن النّص ليس بنية عشوائية، وإنما هو عمل مقصود به أن يكون متناسقا ومترابطا لكي يحقق هدفا معينا، بمعنى آخر هو عمل مخطط يستهدف به تحقيق غاية بعينها؛ أي إن النّص أو العمل قبل أن يظهر في صورته المتكاملة، المترابط في أجزائه وعناصره، أن يكون لمنشئه هدف وغاية يصبو لتحقيقها من خلال عباراته وجمله، ولكي لا يظهر التناقض والتضارب بين القولين السابقين نشير إلى أن القصد سابق للاتساق والانسجام ولا يمكن أن يفهم إلا إذا نسجت عبارات النّص في شكل مترابط ومتلاحم.
4ـــ القبول: ويقصد به ذلك المعيار الذي يتضمن موقف مستقبل النّص إزاء كون صورة ما من صور اللغة لها أن تكون مقبولة من حيث هي نص ذو سبك والتحام؛ حيث إن المتلقي يمكن أن يقبل النّص ويستسيغ أفكاره ويتلقاها بالنظر إلى الخلفيات الفكرية المعرفية الراسخة في ذهنه، كما أنه يمكن أن يرفض أفكار النّص إذا اختلف في توجهه الفكري مع المنتج، وفي هذه الحالة نقول أن النص لم يبلغ الغاية التي أنتج من أجلها.
5ـــ رعاية الموقف (الموقفية): ويقصد به تلك العوامل التي تجعل النص مرتبطا بموقف سائد يمكن استرجاعه. ويأتي النّص في صورة عمل يمكن له أن يراقب الموقف وأن يغيره، فمن خلال الموقف الذي يرتبط ارتباطا مباشرا بالنص المنتج يمكن أن تفهم أفكاره فهما صحيحا، وهذا بالنظر إلى أن وضوح الدلالة يكون بوضوح الموقف الذي اتصل بالبناء اللغوي. والموقف قد يكون مباشرا يمكن إدراكه من البيئة أو غير مباشر، ويمكن استنتاجه بواسطة التأمل. وهذا العنصر يفترض وجود اثنين يتعاملان مع النص، أحدهما مرسل والثاني مستقبل. وهذا يعني أن الموقف له دور كبير في فهم واستيعاب أفكار النّص، والموقف لا يكون واضحا في كل النصوص، بل في كثير منها يبذل المتلقي جهدا كبيرا لربطها بالمواقف التي تناسبها وتناسب مقاصد منتجيها، ولا يكون ذلك إلا عن طريق التأمل والاستنتاج.
6ـــ التناص: وهو ما تضمن العلاقات بين نصّ ما ونصوص أخرى مرتبطة به وقعت في حدود تجربة سابقة، سواء بواسطة أم بغير واسطة. وهو اعتماد نصّ ما على نصوص أخرى سابقة له، دون إغفال وجوب اطلاع متلقي النّص على هذه النصوص لكي يتمكن من فهم أفكاره، والتناص ترحال للنصوص وتداخل نصّي، ففي فضاء نصّ معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى، فكأن الاعتماد على التناص في بناء النصّ إعادة إحياء نصوص سابقة ووضعها في قالب جديد، وإطار فكري موحد، كما أن التناص عملية استبدال من نصوص أخرى، ففي فضاء النّص تتقاطع أقوال عديدة، مأخوذة من نصوص أخرى، مما يجعل بعضها يقوم بتحديد البعض الآخر ونقضه، ومعنى ذلك أن التناص هو عبارة عن تتابع وتوال لمجموعة من النصوص السابقة، وهو أيضا تعالق نص حدث بكيفيات مختلفة، وتلك الكيفيات تنحصر في نمطين أساسيين:
أولهما: يقوم على العفوية وعدم القصد، إذ يتم التسرب من الخطاب الغائب إلى الحاضر في غيبة الوعي، وثانيهما: يعتمد على الوعي والقصد، بمعنى أن الإشارة إلى الخطاب الغائب تكون واضحة وضوحا كاملا يصل إلى درجة التنصيص. فالتناص إذا معيار أساسي في بناء النصوص وتركيبها، وآلية من آليات وضوح الأفكار وجلائها، فمن خلاله نزن مصداقية أفكار النصوص، وبه يبلغ المنتج ذروة مقاصده، وغيابه قد يؤدي بالمتلقي/القارئ إلى عدم قبول أفكار النّص.
7ـــ الإعلامية (الإخبارية): وهي العامل المؤثر بالنسبة لعدم الجزم في الحكم على الوقائع النصية، أو الوقائع في عالم النّص في مقابلة البدائل الممكنة. فالإعلامية تكون عالية الدرجة عند كثرة البدائل، وعند الاختيار الفعلي لبديل من خارج الاحتمال. ومع ذلك نجد لكل نصّ إعلامية صغرى على الأقل تقوم وقائعها في مقابل عدم الوقائع. بمعنى إن معيار الإعلامية معيار أساسي في كل النصوص، حيث إنّ درجة الإخبار تختلف من نصّ إلى آخر بحسب نوعه وغايته، ولكن الأمر المؤكد أنّ كل نصّ يجب أنّ يشتمل على مقدار معين من المعلومات الإخبارية. هذا بحسب طبيعة المتلقي/القارئ الذي يطلع على معلومات النّص، حيث يحتاج المنتج إلى طريقة ونسق معين يعرض به معلوماته، وهذا النسق يوجب تسلسلا في الأفكار والأحداث، هذا ما يجعلنا ندرك أن كل المعايير السابقة تتضافر وتتكامل لتحقق مفهوم نصيّة النّص، حيث إن غياب معيار واحد منها يؤدي إلى انتقاص هذا المفهوم.
يمكن للطالب أن يعود إلى مجموعة من المصادر والمراجع للتوسع في موضوع الدرس نذكر منها:
1) إبراهيم محمود خليل، في اللسانيات ونحو النّص.
2) ابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب.
3) أحمد عزت يونس، العلاقات النصية في لغة القرآن الكريم.
4) أحمد عفيفي، نحو النّص اتجاه جديد في الدرس النحوي.
5) الأزهر الزناد، نسيج النّص (بحث في ما يكون به الملفوظ نصا).
6) روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، تر: حسان تمام.
7) سعيد حسن بحيري، علم لغة النّص (المفاهيم والاتجاهات).
8) يوسف نور عوض، علم النص ونظرية الترجمة.
-
إنّ العودة إلى أمات الكتب العربية القديمة يجعلنا ندرك أنّها كتب تناول مؤلفوها من خلالها عديد الظواهر اللغوية المتعلقة بعلم النّص أو لسانيات النّص، سواء أكانت هذه الظواهر تخص البنية التركيبية النحوية، أم تخص البنية الدلالية المفهومية، وسنحاول في هذا المقام التركيز في إظهار هذه العلاقة على نظرية النظم لـ "عبد القاهر الجرجاني" من خلال كتابه "دلائل الإعجاز"، والتركيز أيضا على علم المناسبة الذي نظر له "بدر الدين الزركشي" (ت 794ه) في مؤلفه: "البرهان في علوم القرآن.
1ــــ نظرية النّظم لعبد القاهر الجرجاني (ت 471ه):
أسّس "الجرجاني" نظرية النّظم من خلال اهتمامه بالنّص القرآني بدرجة أولى، والنّص الشعري بدرجة ثانية، وتجسّد ذلك من خلال كتابه "دلائل الإعجاز"، لكن هذا التأسيس لا يعني أنّه أوّل من أشار إلى قضية النظّم، بل سبقه إليها "الجاحظ" (ت 255ه)، و"أبو الحسن الرّماني" (ت 384ه)، وذلك من خلال أعمالهما اللغوية المنكبة على كشف أسرار النسج اللغوي وخباياه المرتبطة ببنائه وتركيبه، إلا أنّ الفضل يعود إلى "الجرجاني" في بلورة قضية النّظم وصياغتها صياغة نظرية جديدة، حيث إنّ المتأمل لهذه النظرية يدرك أنّ أغلب القضايا اللغوية المتعلقة بالنّظم هي قضايا ارتكز عليها علم النّص الحديث واعتبرها من أهم ما يُنظر إليه أثناء التحليل اللساني النّصي، وسنحاول إظهار ذلك من خلال التركيز على مصطلحي النّظم والتعلّق، ويكون بيان ذلك كما يلي:
1ــــ1ـــ النّظم:
عرّف "الجرجاني" النّظم بقوله: "اعلم أنّ ليس (النَّظْمُ) إلا وضع كلامك الموضع الذي يقتضيه (علم النحو)، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك تخل بشيء منها." فالنّظم عند "الجرجاني" هو الالتزام في نسج الكلام وإنتاجه بمجموع القواعد التركيبية المتعارف عليها، فهو بذلك نظير للنسيج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، كما يعني النّظم عند الجرجاني أيضا كيفية تركيب الكلام انطلاقا من الجملة البسيطة وصولا إلى نظم النّص من خلال تراكيبه الصوتية والدلالية والنحوية والبلاغية والأسلوبية، والنّص عنده أيضا تركيب لغوي على نحو فريد من التماثل والتجانس والتأليف في أجزاء الأسلوب؛ حيث نجد أنّه لم يكتف بالإشارة إلى القواعد النحوية فحسب، بل أشار أيضا إلى كيفية توظيف التراكيب النحوية ووضعها في سياقات بلاغية وأسلوبية محددة بغية تأدية مضمون دلالي معين.
تجدر الإشارة إلى أنّ "الجرجاني" من خلال ما سبق ذكره قد جعل النّظم يتجلى في عدّة عناصر يتمّ من خلالها بيان مدى اكتمال البناء، ومدى تحقيقه للتماسك والتناسق، سواء على مستوى البناء السطحي أو العميق في النّص، وهذه العناصر الأساس هي: النسيج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير؛ أي إنّ البناء لا يُكتف فيه بمجرّد الاهتمام بالقواعد النحوية المجردة فحسب، بل يُهتمّ فيه أيضا يجب أن يؤديه هذا البناء من دلالات يشترط فيها أن تكون ميزتها الأساس هي التماسك والتآلف، وهذا ما أشار إليه "فان دايك" أثناء حديثه عن وصف النحو الذي يهتم بالتتابعات الجملية حيث قال: "نظرا لأنّ أي تتابع يمكن أن ينشأ من جملة فيجب أن يشتمل أي نحو لوصف التتابع في حقيقة الأمر على نحو لوصف الجملة. فالنظر العميق في بنية الجمل ضروري للغاية إذا ما وضع في الاعتبار أن العلاقات على نحو ما ترد في التتابعات لا تقوم في الأغلب على علاقات بين عناصر الجمل المفردة، ويجب أن يقدم انسجاما مع أهداف النحو، ووصف لتتابع الجمل يعد أساس المنطوق اللغوي، وما التتابعات الجملية الممكنة الموجودة في لغة ما، وكيف تحدد البنية النحوية والدلالية لجملة أو عدة جمل في تتابع البنية النحوية والدلالية لجمل أخرى." فيجب النظر إلى نحو النّص ــــ في رأي فان دايك ــــ من منظور يشبه إلى حد ما المنظور التقليدي للجملة، كون أنّ النّص يمثل جامعا لمتتاليات جملية، إلا أنّه لا يُكتف في النّص بمجموع القواعد النحوية للجملة، بل يضاف إليها جملة من القواعد التي تخصّ هذا التوالي الجملي، كالاستبدال مثلا، وقواعد أخرى تخص ارتباط عناصر البنية الدلالية كالتأويل مثلا.
كما كنجد أنّ "الجرجاني" قد أشار إلى عدّة ظواهر متعلّقة بالبنية التركيبية للنّظم اللغوي بقوله: "وينظر إلى (الجمل) التي تُسرد، فيعرف موضع الفصل من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقّه الوصل موضع (الواو) من موضع (الفاء)، وموضع (الفاء) من موضع (ثم)، وموضع (أو) من موضع (أم)، وموضع (لكن) من موضع (بل)، ويتصرّف في التعريف، والتنكير، والتقديم، والتأخير في الكلام كلّه، وفي الحذف، والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويستعمله على الصّحة وعلى ما ينبغي له." وهذه الظواهر تعتبر في لسانيات النّص من العوامل الأساس التي تعمل على تماسك النّص واتساق عناصره التركيبية، فالوصل من منظور "هاليداي ورقية حسن" (M. Halliday, R.Hassan) مثلا هو "تحديد للطريقة يترابط بها اللاحق مع السابق بشكل منتظم"؛ أي هو العامل الفاعل في ترابط عناصر النّص الواحد بعضها ببعض.
أما الحذف فعرّفه "الجرجاني" في غير الموضع السابق أيضا على أنّه "باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر." فهو أيضا آلية من آليات الاتساق النّصي في التحليل النّصي الحديث؛ حيث اعتُبر أنّه علاقة داخل النّص، وفي معظم الأمثلة يوجد العنصر المفترض في النّص السابق، وهذا يعني أنّ الحذف علاقة نصية قبلية؛ أي إنّ الحذف لا يقع في الكلام إلا إذا وجد ما يدل على المحذوف في ما سبق من الكلام، وذلك ما يحقق ارتباط السابق منه باللاحق.
1ــــ2ـــ التعلّق:
يعدّ مفهوم التعلّق عند "الجرجاني" مقابلا لمفهوم التماسك النّص عند علماء النّص في العصر الحديث؛ حيث إنّ التعلّق ــــ من منظوره ــــ هو أساس النظم والبناء والإنشاء، ويظهر ذلك جليا في قوله: "واعلم أنّك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشكّ، أن لا نظم في الكلم وترتيب حتى يعلّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك"؛ أي إنّ الألفاظ أو الجمل يجب أن يرتبط بعضها ببعض تحت غطاء الجملة أو النّص، وإلا لا يمكن أن تظهر المعاني والدلالات التي أنشئت من أجل ظهورها الجمل أو النّصوص.
كما نجد أنّ "الجرجاني" قد أشار في موضع آخر إلى كيفية ترتيب أجزاء الكلام وجعلها تبدو في شكل واحد متناسق، يرتبط كل جزء منه بالآخر ارتباطا تاما، حيث يقول: "واعلم أنّ مما هو أصل في أن يدّق النظر، ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت: أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض، ويشتدّ ارتباط ثانٍ منها بأوّلٍ، وأن تحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النّفس موضعا واحدا، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه ههنا في حال ما يضع بيساره هناك." فـ "الجرجاني" في هذا المقام يبرز علاقة أجزاء الكلام بعضها ببعض، ودور كل منها في البنية الكلّية للنّص، وقد شبه حال الناظم في نسجه للكلام بحال البنّاء في بنائه؛ حيث إنّه يحرص على استقامة جداره وسلامته من الاعوجاج، كما يحرص المؤلّف على سلامة كلامه وتناسق عناصره، وتعلّق كلّ منها بالآخر تعلّق اشتراك في الشكل التركيبي والمضمون الدلالي العام للنّص.
كما نجد أنّ "الجرجاني" قد أشار أيضا إلى حرصه الشديد على ارتباط بعض الكلام بكلّه ارتباطا يوحي إلى وحدة البنية التركيبية، حيث يقول: "واعلم أنّ من الكلام ما أنت نعلم إذا تدبّرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروّية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضمّ بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لآلٍ فخرطها في سلك، لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرّق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد من نضده ذلك أن يجيء له منه هيئة أو صورة، بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين." حيث ركّز من خلال كلامه هذا على جعل الألفاظ في البناء أجزاء من كلّ، كل لفظ منها يتصل باللفظ الآخر اتصالا عن طريق علاقة محددة تختلف باختلاف الموضع والغرض، وقد شبّه هذا الارتباط بالعقد الذي يجمع اللآلئ والجواهر في شكل واحد منتظم. والملاحظ لكلام "الجرجاني" يدرك أنّه كلام يصبّ في مصبّ واحد مع ما نظر له علماء لسانيات النّص فيما يخص آليات ارتباط عناصر البنية التركيبية، من إحالة ووصل واستبدال وغيرها من آليات اتساق النّص، وعوامل التلاحم والترابط التركيبي في مختلف النّصوص والخطابات.
2ـــ التنظير لعلم المناسبة:
إنّ الدارس لعلم المناسبة ــــ المختص بالبحث في التناسب بين السور في ترتيبها وتجاورها، وفي التناسب بين الآيات من خلال العلاقات الرابطة بينها ــــ يدرك أنّه علم اهتمّ بمسائل نصية تتصل اتصالا مباشرا بآليات التحليل النّصي الحديث، ونخصّ بالذكر الانسجام بين عناصر النّص الدلالية، حيث نجد أنّ "الإمام الزركشي"، وهو أحد علماء القرن الثامن الهجري قد عرّف المناسبة بقوله: "واعلم أنّ المناسبة علم شريف، تحزر به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول، والمناسبة في اللّغة: المقاربة، وفلان يناسب فلانا أي: يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل كالأخوين وابن العمّ ونحوه، وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما وهو القرابة [...] وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها ومرجعها ـــــ والله أعلم ــــ إلى معنى ما رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين، ونحوه، أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجوه الواقع في باب الخبر." فعلم الناسبة علم يختصّ بالبحث عن العلاقات اللفظية والدلالية بين آي السورة الواحدة، كما يبحث في طبيعة العلاقات الرابطة بين سور القرآن الكريم.
ولقد قسّم "الزركشي" ارتباط الآي بعضها ببعض إلى قسمين كبيرين:
أــــ القسم الأول: وهو أن تكون معطوفة، ولابد أن تكون بينهما جهة جامعة، كقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ [الحديد:04]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة:245]، وفائدة العطف جعلهما كالنظيرين والشريكين. وقد تكون العلاقة بينهما المضادة، وهذا كمناسبة ذكر الرّحمة بعد ذكر العذاب، والرّغبة بعد الرّهبة؛ أي إنّ من شروط هذا النّوع من المناسبة أن تكون الآية معطوفة على ما قبلها فيتضح الرابط الجامع بين الآيتين.
ب ــــ القسم الثاني: وهو ألا تكون معطوفة فلابد من دعامة تؤذن باتصال الكلام، وهي قرائن معنوية مؤذنة بالرّبط، وهذا النوع من المناسبة له أسباب مختلفة ومتعددة حدّدها "الزركشي" كما يلي:
ــــ التنظير: حيث مثّل "الزركشي" له بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ [الأنفال:4/5]، وعقّب على هذا المثال بقوله: "إنّ الله تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون"، فالمناسبة بين الآيتين المتجاورتين هنا هي رد فعل المسلمين المتشابمه والمتماثل، وهو جدالهم لرسول الله ــــ صلى الله عليه وسلّم ــــ فيما فعل، ولا وجود لعطف يجمع بين الآيتين، بل الجامع هو تلك العلاقة المعنوية المستنتجة من خلال التأمّل والتدبّر.
ــــ المضادة: مثّل "الزركشي" لهذا السبب بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:06]، ووضح طبيعة هذا السبب بقوله: "إنّ أوّل السورة كان حديثا عن القرآن الكريم، وأنّ من شأنه كيت وكيت، وأنّه لا يهدي [القوم] الذين من صفاتهم كيت وكيت، [فرجع] إلى الحديث عن المؤمنين فلما أكمله عقّب بما هو حديث عن الكفّار، فبينهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأوّل." حيث يوجد في نص سورة البقرة تقابل بين الحديث عن المؤمنين والحديث عن الكفّار، وهذا ما يجعل التناسب الموجود بين الآيات راجع إلى التضاد بين صفات المؤمنين وصفات الكفّار.
ــــ الاستطراد: ومثاله قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف:26]، حيث يظهر الاستطراد في هذه الآية من خلال ذكر بدو السوءات، وخصف الورق عليها، وإظهار منة الله فيما خلق من اللباس، والإشارة إلى أنّ الستر باب عظيم من أبواب التقوى. كما يعد الاستطراد أيضا سببا معنويا من أسباب التناسب بين الآيات المرتبط بعضها ببعض في النّص الواحد للسورة الجامعة لها.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ "الزركشي" قد خصص في كتابه مجالا واسعا للحديث عن المناسبة بين السورة واسمها، وذكر أنّ تسمية السورة باسم معيّن ليس إلا تعضيدا لتقليد معلوم لدى العرب، وهو تقليد يراعى فيه اختيار الأسماء من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصّه، حيث يسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بالشيء المشهور فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن الكريم، فسميت سورة البقرة مثلا بهذا الاسم لقرينة ذكر البقرة فيها. وهذا ما اصطلح عليه في لسانيات النّص بـ "التغريض"؛ حيث إنّ للتغريض علاقة وطيدة بالعنوان المرتبط بموضوع النّص ومضمونه، فالعنوان له تأثير كبير في تأويل النّص الذي يليه، والتغريض يعدّ من بين الآليات التي يتحقق من خلالها انسجام النّص، والتلاحم الدلالي لمختلف العناصر المكوّنة له.
يمكن للطالب أن يعود إلى مجموعة من المصادر والمراجع للتوسع في موضوع الدرس نذكر منها:
1) بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تح: أبو الفضل الدمياطي.
2) حسام البهنساوي، أنظمة الربط في العربية، دراسة في التراكيب السطحية بين النحاة والنظرية التوليدية التحويلية.
3) صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية.
4) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تع: محمود محمد شاكر.
5) محمد خطابي، لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب.
6) محمد صبحي الأخضر، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه.
-
تعتبر مسألة تحديد أصناف النصوص في علم النّص مسألة خلاف بين علماء النّص، حيث إن آراءهم تباينت واختلفت من خلال تلك المحاولات المتعددة التي طرحت لوضع مختلف النصوص في إطاراتها المنهجية الخاصة، هذا التباين في الآراء بين علماء النّص نتج من خلال طرح مجوعة من التساؤلات نذكر منها: هل يمكن أن الارتكاز على الجانب الشكلي (الجانب الخارجي) في تصنيف النصوص؟ أم الاعتماد على جانب المضمون (الجانب الداخلي) في هذا التصنيف؟ أم أن تصنيف النصوص يكون بالتوفيق بين الجانبين؟
من جهة أخرى نجد أن مجموعة ومن علماء النّص أبوا الخوض في مسألة تصنيف النصوص وذهبوا إلى ضرورة إرجاء البحث عن الشكل النّصي، إذ نرى "شتمبل" (W.P.Stempel) يتبنى الرأي القائل بأن بحث الأشكال النصية يجب أن يؤجّل من أجل وصف مواضع المكونات في الاتصال وتنظيم إمكانات تكوينها (أي وضعها في منظومة)؛ ومن ثم فقد عني أساسا بتقديم آراء عدة عن المكونات النصيّة المختلفة. فرأي "شتمبل" يدعو إلى البحث في مكونات النّص والمعايير التي نحتكم إليها للفصل بين مختلف النصوص قبل البحث في أنواع النصوص، كأنه يقول: ما هي الفائدة التي نجنيها من تصنيف النصوص ولم نضع القواعد التي تبنى عليها النصوص. أما "سوينسكي" فإنه يرى أنه بينما حوّل ريزر B.Rieser وبتوفي J.Petofi ـــ على سبيل المثال ـــ نماذج نحوية نصية ذات درجة شيوع عالية إلى تتابعات شكلية توليدية، دون مراعاة علامات فارقة للأشكال النصية، فقد طور كومر W.Kummer نموذجا نصيّا من خلال ربط بين مكونات جميلة من ناحية منطقية، وتداولية. من هذا يتبين لنا أن مسألة تصنيف النصوص تراوحت بين مؤيد للبحث فيها، بنهج طريق يعتمد على أسس منهجية معينة، وبين منكر يرى أن مسألة البحث في تصنيف أنواع النصوص مسألة ثانوية، أما الأصل فهو محاولة إيجاد نموذج نحوي نصيّ يمكن أن يقدم تصورات أساسية للوصف والتحليل، أو محاولة التوصل إلى نظرية نصيّة كلية قادرة على استيعاب الأشكال النصية المختلفة من خلال تقديم أسس للتصنيف والتمييز والتفسير. لكن هذا التباين في الاتجاهات والأفكار لا يجعلنا ننفي فائدة تصنيف النصوص، فكما للنموذج النحوي النصي فوائد أساسية في الوصف والتحليل، كذلك تصنيف النصوص لها فوائد في التفريق بين مختلف النماذج النصيّة التي تتباين في أشكالها ومضامينها؛ حيث إنه كلما اختلف نوع النّص وشكله، اختلفت الضوابط التي تتحكم في تكوينه شكلا ومضمونا، وهذا ما سنحاول توضيحه أثناء عرض أنواع النصوص.
إن تصنيف النصوص ليس أمرا سهلا هيّنا، بل أمر تشوبه صعوبات جمة، من بين هذه الصعوبات العدد الهائل للنصوص المتداولة في المجتمع والذي لا يكاد يخضع للحصر، فتباين هذه النصوص يجعل الباحث في ميدان علم النّص يخص كل بنية تركيبية اجتماعية بصنف خاص بها، في شكل المحادثات اليومية والأحاديث العلاجية والمواد الصحفية والحكايات والقصص والقصائد ونصوص الدعاية والخطب وإرشادات الاستعمال والكتب المدرسية والنقوش ونصوص القانون والتعليمات وما أشبه. ومن الصعوبات التي تعيق عملية تصنيف النصوص ـــ أيضا ــــ هو أن النص الواحد مهما كان النوع أو الصنف الذي ينتمي إليه، يندر جدا أن يكون متجانسا؛ إذ غالبا ما يشتمل على مقاطع مختلفة تتراوح بين السرد والوصف والشرح، فبعض النصوص نجدها تحتوي على أكثر من موضوع واحد كما هو الشأن في الروايات حيث يوجد في داخلها السرد والجدل والأمر، يسمي بعض علماء النص هذا النوع من النصوص بـ "النصوص المتداخلة" لإزالة اللّبس عنها، لكن هذه الصعوبات التي ذكرنا بعضا منها، لا تمنع الاجتهاد في محاولة إيجاد طريقة لتصنيف النصوص وتبويبها، فمن بين هذه المحاولات نذكر:
1ـــ التصنيف الوظيفي التواصلي:
يركز هذا التصنيف على الوظيفة اللغوية المهيمنة في النّص، والمرجع الأساسي لهذا التصنيف هو "رومان جاكبسون" الذي ميز بين مختلف النصوص بحسب الوظيفة الأكثر بروزا فيها.
- نصوص تهيمن فيها الوظيفة المرجعية (La fonction référentielle)، وهي التي تعرض فيها المعلومات في شكل أخبار، فهي نصوص إخبارية إعلامية بدرجة أولى.
- نصوص تحمل الطابع التأثيري، وهي التي يركز فيها على سبل إقناع المتلقي والتأثير فيه.
- نصوص ذات طابع تنبيهي (Phatique) ، وهي التي تهدف أساسا إلى الحفاظ على استمرارية التواصل ومراقبة مدى فاعليته ونجاعته.
- نصوص ذات طابع معجمي أو لغوي صرف (Métalinguistique)، وهي التي يأتي التركيز فيها على وسيلة الاتصال من حيث وضوحها، وحسن أدائها لوظيفتها.
إن تصنيف النصوص حسب الوظائف التي حددها "جاكبسون" للغة لا يعتبر تصنيفا فعّالا في ميدان علم النّص، بالنظر إلى أن الوظائف اللغوية تخص الجانب التخاطبي من اللغة، ونجاعة هذا التصنيف تقتضي توفر عوامل التواصل التي حددها "جاكبسون" من مرسِل ورسَل إليه ورسالة...الخ، وتوفر هذه العوامل يؤدي بنا للحديث عن الخطاب وليس النّص، والفرق بين النّص والخطاب معلوم، إذ إن بعضهم يفرق بين «نص» هو كائن فيزيائي منجز، و«خطاب» هو موطن التفاعل والوجه المتحرك فيه، ويتمثل في التعبير والتأويل، وهذا الفرق الظاهر بين النّص والخطاب يجعلنا ندرك أن تصنيف النصوص لا يتم إلا وفق خصائص يتميز بها النّص وليس الخطاب.
2ـــ التصنيف السياقي أو المؤسساتي:
وهو تصنيف يعتمد فيه على الجانب الاجتماعي الذي يلاحظ في مختلف النصوص، حيث تمخض عن هذا التصنيف ما هو متداول حاليا من تمييز بين النصوص الإعلامية والدينية والإشهارية، والإدارية وغيرها. وكما هو واضح فكل نوع من الأنواع بالإمكان رده إلى المؤسسة الاجتماعية التي يصدر عنها؛ حيث إن هذا التصنيف يفرق بين مختلف النصوص المتداولة في المجتمع الواحد حسب المجالات المعرفية التي تنتمي إليها (المجال الإعلامي، المجال الديني...الخ)، لكن هذا المقترح التصنيفي قد يوقع الباحث في ميدان علم النّص في اللّبس، حيث يمكن أن تتداخل عدة مجالات في نصّ واحد، فربما يجد الطابع السائد في بدايته طابعا إعلاميا، وفي إحدى فقراته يسود الطابع الديني.
3ـــ التصنيف حسب العملية الذهنية الموظفة في النّص:
يعتمد هذا التصنيف في تمييزه بين مختلف النصوص على العمليات العقلية الذهنية التي توظف في النّص أكثر من غيرها، كالاستدلال أو الشرح أو العرض أو السّرد أو غيرها، وهو تصنيف يتسم بالدقة والوضوح، بالنظر إلى الآليات المنطقية المعتمدة في التفريق بين مختلف النصوص، فكلّما كانت المعايير المعتمدة في التصنيف واضحة يمكن معاينتها وملاحظتها وتحديدها، كلّما كان التصنيف دقيقا واضحا، سهل التجريب والتطبيق على مختلف النصوص. وهذا التصنيف يضم مجوعة من الأنواع يمكن تحيدها فيما يلي:
3ـــ1ــــ النّص الوصفي (Le texte descriptif):
هذا النوع من النصوص يتميز بأن معظم مراكز ضبطه هي عبارة عن تصورات للشيء والموقف، حيث يتم إثراء بيئتها بكثرة الاتجاهات إلى كشف الوصلات مع تكرار وجود أنواع من الوصلات مثل: الحال، والصفة، والمثال، والتخصيص. حيث يعكس الوصف واقعا فيه إدراك كلي وآني للعناصر المكونة لهذا الواقع، وكيفية انتظامها في الفضاء أو المكان الذي توجد فيه، حيث ينقل الواقع بجزئياته وتفاصيله.
ويعتمد في بناء هذا النوع من النصوص الانطلاق في الوصف من أقرب نقطة وصولا إلى الأبعد منها، مع مراعاة عدم الانتقال المفاجئ من نقطة لأخرى لا رابط طبيعي بينهما، ويعتمد في النص الوصفي ـــ أيضا ــــ على إجراء اختبارات معيّنة بخصوص ذكر بعض التفاصيل أو تجاوزها، كما يمكن أن يكون المنتج حاضرا من خلال التقييم أو إبداء الرأي الذي لا يكون إلا بعد وصف الواقع وصفا علميا دقيقا، ومن مميزات النص الوصفي ـــ أيضا ـــ أنه لا ينم عن منهج وصفي علمي يستبعد فيه سرد الأحداث وترتيبها، بل تشخيص الظواهر ووصفها ثم التمثيل لها.
3ـــ2ــــ النّص الجدلي أو الحجاجي (Le texte descriptif):
هو نصّ تكون فيه البنية أو القصد عبارة عن تغيير اعتقاد يفترض وجوده لدى المتلقي، باعتقاد آخر يعتقد المرسل أنه الأصح، كما أن النّص الحجاجي ينطلق من مبدأ أن للقارئ/ السامع رأيا حول القضية المطروحة، ويهدف في النهاية إلى الإقناع؛ أي إن النّص الجدلي/ الحجاجي يجب أن يحتوي على وسائل إقناع تجعل المتلقي/ القارئ يتخلى عن فكرة راسخة في ذهنه، ويستبدلها بالفكرة التي طرحها منتج النّص، وحسب "دي بوجراند" فإن الجدلية هي قضايا كاملة تنسب إليها قيم صدق وأسباب لاعتقاد كونها حقائق، ويغلب أن يكون هناك تعارض بين القضايا التي تتصادم فيها القيمة كونها موصوفة بالصدق، وسوف تتكرر هنا أنواع الوصلات مثل: القيمة، والإفادة، والإدراك، والإرادة، والسبب، وسوف يشتمل النّص السطحي على حشد من عبارات تحديد القيمة. فمن هنا ندرك أن المتلقي/القارئ الذي لا يكون في منزلة خلي الذهن من موضوع النص، بل يكون متشبعا بأفكار وقناعات توجب على المنتج تغييرها بالأفكار المطروحة في النّص، وهذا التغيير ـــ كما ذكرنا سابقا ــــ يقتضي الاعتماد على آليات حجاجية إقناعية يتقبلها المتلقي/ القارئ ويؤسس بالاعتماد عليها تنظيما فكريا جديدا.
3ـــ3ــــ النّص السردي (Le texte narratif):
يحيل النص السردي على واقع يتضمن مجموعة من الأحداث تجري في زمن معين، حيث يبيّن فيه الذي يحكي كيف تتحول فيه الأحداث، وكيف تتغير وتتطور عبر الزمن، كما أن النص السردي يشتمل على ثلاثة مراحل: الحالة الأولى، التحولات الممكنة، والحالة النهائية، كما يضم تدرجا خاصا محددا تفرضه مجريات الأحداث وتواليها. والنص السردي لا يقتضي توالي مجموعة من الأحداث فحسب، بل يجب على منتجه أن يربط هذه الأحداث بزمن ومكان معينين لكي يطلع المتلقي/القارئ على كل ما يتعلق بهذه الأحداث وكيفية حدوثها، والنص السردي يتضمن تكرر ورود أنواع من الوصلة مثل: العلة، والسبب، والتمكين، والغرض، والمقاربة الزمنية، وسيعكس النص السطحي كثافة مماثلة للتكافلات التفريعية.
إذا النص السردي هو ذلك الإطار المعرفي الذي يضم مجموعة من الأحداث المرتبة والمتتالية، التي تخضع لعاملي الزمان والمكان، ولشروط البناء السطحي التي تختلف في تركيبها عن الشروط المتوفر في أنواع النصوص الأخرى.
3ـــ4ــــ النّص الإعلامي (Le texte informatif):
يصبو هذا النوع من النصوص إلى تقديم معلومات ومعارف ومفاهيم حول موضوع محدد يفترض أن المتلقي جاهل لها، أو له معلومات ناقصة حولها، حيث يلتزم منتج النّص بتضمين نصه معلومات شاملة حول الموضع الذي يعالجه في نصّه، ليبلِّغ المتلقي/القارئ أكبر قدر ممكن من المعلومات الجديدة التي تتسم بصفة الترابط والتدرج في عرضها، أي الانتقال في عرضها من البسيط إلى المركب، ومن الأصل إلى الفرع، وهذا لكي لا يقع المتلقي/القارئ في مشكلة التشتت الفكري.
وعلى المنتج ـــ أيضا ــــ أن يضمن نصّه مهارة ذهنية أخرى هي الشرح، وما يتطلب من تقديم للحجج والأدلة والأمثلة التوضيحية؛ حيث إن بعض المفاهيم والأفكار الواردة في النّص تحتاج إلى شرح وتفسير وتمثيل من طرف المنتج الذي يسعى إلى تحقيق الهدف الذي أنتج من أجله النص، وهو: تحقيق الفائدة الإعلامية.
إن هذه الأنواع النصية التي ذكرناها تعتبر نماذج تصنيفات مقترحة فقط، حيث يمكن أن تصنف النصوص إلى أنواع أخرى مغايرة لها، وذلك حسب المعايير التي ينطلق منها المصنف، لكن يظل كل تصنيف اجتهاد يمكن أن ينفيه اجتهاد آخر.
يمكن للطالب أن يعود إلى مجموعة من المصادر والمراجع للتوسع في موضوع الدرس نذكر منها:
1) إبراهيم محمود خليل، في اللسانيات ونحو النّص.
2) أحمد عزت يونس، العلاقات النصية في لغة القرآن الكريم.
3) أحمد عفيفي، نحو النّص اتجاه جديد في الدرس النحوي.
4) الأزهر الزناد، نسيج النّص (بحث في ما يكون به الملفوظ نصا).
5) روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، تر: حسان تمام.
6) سعيد حسن بحيري، علم لغة النّص (المفاهيم والاتجاهات).
7) صبحي إبراهيم الفقي، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية.
8) محمد خطابي، لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب.
9) محمد صبحي الأخضر، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه.
-
-
-
-