بين النص والخطاب المحاضرة الثانية في نظرية النص والتناص ماستر 01 نقدحديث ومعاصر
Topic outline
-
بعد أن تعرفنا في المحاضرة الأولى على مفهوم "النص" في الثقافتين: العربية والغربية، سنسعى في هذه المحاضرة إلى بيان مفهوم الخطاب في الثقافتين، مع محاولة تحديد الفرق بين مصطلحي النص والخطاب، رغم صعوبة هذه المهمة، خاصة وأن كثيرا من النقاد يخلط بينهما في الاستعمال، وهو خلط يكشف مدى التداخل بين المفهومين، والاضطراب في ضبط وتحديد مفهوم دقيق لكل من المصطلحين.
1/ مفهوم الخطاب في الثقافة العربية:
أ/ المدلول اللغوي:
يحيل "الخطاب" في المعاجم اللغوية على الكلام، و"فصل الخطاب" هو الكلام المبيّن الدال على المقصود بلا التباس. والكلام حسب "ابن جني" هو "كل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه". وهنا نلاحظ أنّ دلالة الخطاب هي البيان والتبيين في الكلام، وتجنب الإبهام واللبس والغموض. وهي دلالة قريبة من دلالة النص الذي يحيل على الظهور والارتفاع والوضوح.
ب/ المدلول الاصطلاحي:
يتصل مصطلح الخطاب في الثقافة العربية بحقل علم الأصول، وقد وضع "التهانوي" في كتابه "كشاف اصطلاحات الفنون" حدودا واضحة للمصطلح، فقال إنّ الخطاب هو "اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه، فاحترز باللفظ عن الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة، وبالمتواضع عليه من الأقوال المهملة، وبالمقصود به الإفهام عن كلام لم يقصد به إفهام المستمع، فإنه لا يسمى خطابا" ثم يضيف قائلا: "الخطاب: إما الكلام اللفظي أو الكلام النفسي الموجه نحو الغير للإفهام".
نلاحظ من خلال التحديد الذي قدمه التّهانوي الخطاب، أن دلالة الأخير تتصل بالمستوى الشفاهي من الكلام، ولم يشترط الكتابة. وأخرج من الخطاب المهمل من الكلام، وكل كلام لا يقصد به إفهام المستمع، الإفهام المباشر وليس الإيحاء، وهذه الدلالة مستمدة من الدلالة المعجمية للخطاب، إذ يقتضي الإفهام أن يكون الكلام بيّنا بعيدا عن اللبس والغموض. أما تأكيد التهانوي على الخاصية النفسية (الكلام النفسي) فيهدف إلى شمول المصطلح بالكلام الإلهي، بوصفه رسالة إيحائية(من الوحي)، فالوحي هو كلام الله الذي يعدّ خطابا لفظيا متعاليا.
2/ مفهوم الخطاب في الثقافة الغربية:
تنسب إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون أول محاولة جادة لضبط المفهوم الفلسفي للخطاب استنادا إلى قواعد عقلية محددة ثم جاء ديكارت بكتابه خطاب في المنهج دليلا على العناية بالخطاب الفلسفي، ثم اصبح المصطلح في العصر الحديث موضوعا للبحث في الفكر الغربي، ثم انقل الى حقول معرفية أخري كاللسانيات والدب ولعل وجود حقل نقدي سمي بتحليل الخطاب دليل على العناية الكبيرة بهذا المصطلح.
اهتمت اللسانيات الغربية برسم الحدود ل "الخطاب"، اذ يعرف هاريس الخطاب بأنه " ملفوظ طويل ، أو متتالية من الجمل" ويعرفه بنفينست بأنه "كل تلفظ يفترض متكلما ومستمعا، وعند الأول نية التأثير في الثاني بطريقة ما" أما تودوروف فيرى انّه " مجموع البنيات اللفظية التي تعمل في كل عمل أدبي" ويعرف ميشال فوكو الخطاب بقوله: " ممارسات من خلالها تتكون وبكيفية منسقة الموضوعات التي نتكلم عنها وبطبيعة الحال، لا خطابات بدون إشارات". وهنا نلاحظ ان فوكو لا بشترط في الخطاب ان يكونن ملفوظا لغوية فقط، اذ يمكن الخطاب أن يكون ملفوظا لغويا او مكتوبا، أو إشاريا ( علامات غير لغوية).
نتيجة تأثير اللسانيات على الدراسات الأدبية النقد الدبي ظهر اختصاص تحليل الخطاب أو نظرية الخطاب وهي نظرية لها اسسها وفرضياتها وجهازها الاصطلاحي، وهي تندرج ضمن الشعرية التي تهدف إلى استنباط النظم الداخلية للخطاب الأدبي.
3/ الفرق بين النص والخطاب:
يلاحظ المتأمل للجهاز المصطلحي المستعمل في الخطاب النقدي المعاصر تداخلا بين مصطلحي النص والخطاب، تداخل يصل حدّ الخلط بينهما رغم محاولة بعض الباحثين تحديد الفرق بين المفهومين. ويمكن حصر استعمال مصطلحي "النص" و "الخطاب" في موقفين أساسيين:
أ/ الموقف الأول:
يقوم على عدم التمييز بين "النص" و"الخطاب" واستعمالهما بالمعنى نفسه أو للدلالة على شيء واحد وهو العمل الأدبي ، الذي ما فتئ أصحاب هذا الموقف يطلقون عليه –أي العمل الأدبي – تارةً مصطلح الخطاب وتارةً مصطلح النص ، ويمثل هذا الموقف بعض السرديين أمثال : جيرار جنيت (Gérard Génette )وتدوروف(tzetan todorov )...إلخ ، وهذا التصور قائم على عدة احتمالات تُظهر نقاط اتفاق بين النص والخطاب على أنها لا تطابق بينهما تطابقا تاما :
أن كل من "النص" و"الخطاب" عبارة عن حدث يقع في الزمان والمكان ، فالنص حدث يقع في زمان ومكان معيين. والخطاب هو الآخر حدث ولكنه حدث اجتماعي وليس فردي ، ولكن لا يُعاد إنتاجه إعادة مطلقة مثله في ذلك مثل الحدث التاريخي .
كل من "النص" و"الخطاب" يهدف إلى إيصال معلومات ومعارف (الوظيفة التواصلة) ونقل تجارب إلى المتلقي ( سامعا أو قارئا ). وكذلك باعتبار "النص" و"الخطاب" ينتميان إلى اللغة ، ذلك أنه إذا كان من الواجب بوجه عام التفريق بين إشارات تواصلية لغوية وإشارات تواصلية غير لغوية ، فإن النص والخطاب يفهمان قبل كل شيء بأنهما الجزء اللغوي من فعل التواصل.
وكل من "النص" و"الخطاب" يتميز بالانفتاح والانغلاق ، فالنص مغلق أي انغلاق سمته الأيقونية والكتابية التي لها بداية ونهاية ، منفتح أي منفتح على القراءة في كل زمان ومكان .وبنية الخطاب مغلقة لكونها تتألف من عناصر مغلقة محدودة ومعلومة العدد، محددة الصورة بكيفية نهائية ، إذ تتألف من مخاطَب بعينه وخطاب بعينه لتحقيق غاية بعينها ، منفتح على الآخر في لحظة إنتاج الخطاب.
5/- وكذلك احتواء كل من الخطاب والنص على دلالة المقاصد ، وهي من إنتاج المنتج وهي التي أرادها لتأدية الوظيفية التواصلية، وهناك فرق بالنظر إلى مقاصد الخطاب العادي – مثلا –والخطاب الأدبي عند التحليل ، لأن الخطاب الأدبي لا يتوقف المحلل عند المقاصد لأن المقاصد قد تكون مرقاةً لما بعدها من التأويل . كالجانب الفني في القرآن الكريم جاء خدمةً للمقاصد.
وإذا تبنينا هذا الرأي القائل بتطابق النص والخطاب، فيسصبح كل نص خطابا في سياق تواصلي محدد، والخطاب لا يمكنه أن يكون إلا نصا في سياق ما.
يرى "فان دايك" أن "النص والسياق يعتمد كلّ منهما على الآخر"[38]، فالسياق يحيل على الخطاب. وفي الاتجاه نفسه يربط بوجراند بين النص وعناصر خارجية تؤكد ارتباط النص بالخطاب، فيقول: "ينبغي للنص أن يتصل بموقف يكون فيه، تتفاعل فيه مجموعة من المرتكزات، والتوقعات، والمعارف، وهذه البيئة الشاسعة تسمى سياق الموقف"[39]. ويرى جوفري هرتمان G. Hartman أن النص هو أي " قطعة ما ذات دلالة وذات وظيفة، وبالتالي هي قطعة مثمرة من الكلام "[42]. إن وجود الوظيفة وبالضبط الوظيفة الاتصالية التي يدل عليها الكلام يوحي بأن هارتمان يعطي للنص بعدا تداوليا، ومن ثمة فهو لا يختلف عن الخطاب.
وإذا تبنينا هذا الرأي القائل بتطابق النص والخطاب، فيسصبح كل نص خطابا في سياق تواصلي محدد، والخطاب لا يمكنه أن يكون إلا نصا في سياق ما.
الموقف الثاني:
يميز أصحاب هذا الموقف بين النص والخطاب بناء على معايير معينة، إذ يرى بول ريكور Paul Ricœur أن النص هو خطاب تمت كتابته، حيث يقول:" لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة"[40]، فقد جعل شرط الكتابة مطلوبا لتحقق النص في شكل مادي ملموس، لأنّ الكتابة إذن تضمن استمرارية الكلام، وهي كما يعرفها دريدا" تثبيت الأصوات اللغوية بواسطة علامات خطية"[41].
ب/ الموقف الثاني:
يقوم هذا الموقف على أساس التفريق بين النص والخطاب، ولعل أوضح الأراء في هذا الصدد رأي بول ريكور Paul Ricœur الذي يستند على ثنائية المشافهة/ الكتابة للتمييز بن المفهومين، حيث يرى أن النص هو خطاب تمت كتابته. يقول:" لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة"[40]، فالكتابة إذن تضمن استمرارية الكلام، وهي كما يعرفها دريدا" تثبيت الأصوات اللغوية بواسطة علامات خطية"[41]
ويرى بعضهم أنّ النص يتميز عن الخطاب، إذ يرتبط الخطاب بالتلفظ والتداول، أي له وجود سياقي، بينما النص يتعلق بوجود لساني خارج السياق، أي له وجود نسقي إن صح التعبير، ومن أصحاب هذا الرأي "ميشيل آدم" الذي يرى أن الخطاب هو النص مع ظروف الإنتاج، والنص هو خطاب دون ظروف الإنتاج، وبعبارة أخرى" الخطاب يدمج السياق أي الظروف الخارج لسانية المنتجة له. في حين أن النص يبعدها بوصفه ترتيبا لقطع تعود إلى البعد اللساني"[43]، فالنص بناء لغوي غير إنجازي عكس الخطاب. وفي هذا البحث تم تبني الرأي القائل بتطابق النص والخطاب، فكل نص هو خطاب في سياق تواصلي محدد، والخطاب لا يمكنه أن يكون إلا نصا في سياق ما.
وكذلك ترى الناقدة جوليا كريستيفا ( Julia Kristeva ) أن النص يتجاوز الخطاب أو القول، فهو في نظرها موضوع للعديد من الممارسات السيمولوجية، التي تشكل ظواهر عبر لغوية مكونة بواسطة اللغة. إن النص بهذا المعنى "جهاز عبر لغوي، يعيد توزيع نظام اللغة بكشف العلاقة بين الكلمات التواصلية، مشيرا إلى بيانات مباشرة تربطها بأنماط مختلفة من الأقوال السابقة والمتزامنة معها. والنص نتيجة لذلك إنما هو عملية إنتاجية مما يعني أمرين:
• علاقته باللغة التي يتموقع فيها تصبح من قبيل إعادة التوزيع (عن طريق التفكيك وإعادة البناء)، مما يجعله صالحاً لأن يعالج بمقولات منطقية ورياضية أكثر من صلاحية المقولات اللغوية الصرفة له.
• يمثل النصّ عملية استبدال من نصوص أخرى، أي عملية (تناصّ)، ففي فضاء النصّ تتقاطع أقوال عديدة مأخوذة من نصوص أخرى، مما يجعل بعضها يقوم بتحييد بعضها الآخر ونقضه"[36]. إن هذا التصور للنص جعل كريستيفا "تقترح رؤية نقدية جديدة، تؤكد انفتاحية النص الأدبي على عناصر لغوية، وغير لغوية (إشارات ورموز) متجاوزة بذلك التصور البنيوي."[37].
تركيب : يمكن التمييز بين "النص" و"الخطاب" باعتبار الأول بناء نظري والثاني مصطلح يطلق على كل كلام يخضع للملاحظة والمشاهدة على وجوده ، ويمكن اعتبار العلاقة بين النص والخطاب على النحو الآتي : النص يشّكل الخطاب والخطاب يحقق النص ، أو كما يرى سعيد يقطين –باحث مغربي –من أن الخطاب هو فعل الإنتاج اللفظي ، ونتيجته المسموعة والمرئية ، بينما النص هو محموع البنيات النسقية التي تتضمن الخطاب وتستوعبه أو بتعبير آخر الخطاب هو الموضوع المجسد أمامنا كفعل ،أما النص فهو الموضوع المجرد والمفترض ،أو الخطاب هو النص في حالة الفعل. ومن ثمّ قد يصبح الخطاب نصا، والنص يصبح خطاباً.
أهم المراجع:
[1]- عبد الواسع الحميري ، الخطاب والنص ( المفهوم ، العلاقة ، السلطة ) ، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 2008.
2 - محمد مفتاح ، تحليل الخطاب الشعري ( استراتجية التناص ) ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء المغرب ، ط2 ، 1986.
3- بول ريكور ، نظرية التأويل ( الخطاب وفائض المعنى ) ، ترحمة : سعيد الغانمي ، المركز الثقافي العربي ، المغرب ، ط2 ، 2006م.
11- ينظر : سعيد يقطين ، تحليل الخطاب الروائي ( الزمن ، السرد ، التبئير )، المركز الثقافي العربي ، المغرب ، دط ، دت.
12- ينظر: روبرت دي بوجراند ، النص والخطاب والإجراء ، ترجمة : تمام حسان ، عالم الكتب ، ط1، 1998.
22- محمد الشاوش ، أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية ، جامعة منوبة ، تونس، ط 1 ، 2001 م.
-
-
-